قرّاء الخرافة.. عن كتب تسكنها الشياطين




*سلمان عز الدين


في كتابه «عالم تسكنه الشياطين»، يقدم العالم الأميركي الشهير كارل ساغان (1934 1996) صورة صادمة عن المجتمع الأمريكي، إذ يقدر نسبة الأمية العلمية فيه ب 95 في المئة، كما يستفيض في الحديث عن النسبة المعتبرة من الأمريكيين ممن يؤمنون بوجود كائنات فضائية تزور الأرض باستمرار، وتقيم اتصالات ما مع بشر مختارين، أو ممن يؤمنون بالوجود التاريخي الفعلي لحضارة أطلانتس الخارقة، التي يقولون، إنها توصلت إلى اكتشاف الكهرباء والقوة الكهرومغناطيسية، واستثمرتها في اختراعات تفوق بكثير ما توصلت إليه، بعد آلاف السنين، حضارتنا الحديثة.
ويقول ساغان: «يعيش القرن الثالث عشر جنباً إلى جنب مع القرن العشرين، ليس في بيوت الفلاحين فقط، وإنما أيضاً في ناطحات السحاب الكائنة في المدن، فمئة مليون شخص يستخدمون الكهرباء، وما زالوا يعتقدون في القوى السحرية للإشارات والتعاويذ.. وكما يذهب نجوم السينما إلى الوسطاء الروحانيين، كذلك فإن الطيارين الذين يقودون آلات معجزة، أوجدتها عبقرية الإنسان، يضعون التمائم في ستراتهم..».
ومن بين الملاحظات الذكية الكثيرة في كتاب ساغان، ثمة واحدة تشير إلى أن «لكل علم ملحقه الخاص من الخرافة، فالتنويم المغناطيسي ملحق خرافي لعلم النفس.. وكذلك التنجيم بالنسبة إلى علم الفلك..»، مما يجعل الدجل المعاصر يملك رطانة علمية زائفة، والخرافات «الحداثية» تتمسح بالعلم وتدعي اشتقاق حقائقها منه، وبالتالي فأنصار الخرافة المعاصرون ليسوا بالضرورة من أعداء الكتاب، بل على الأغلب هم قراء نهمون ومواظبون.
بإمكاننا أن نسحب كثيراً من كلام ساغان على عالمنا العربي، وملاحظته حول «قرّاء الخرافة» تنطبق تماماً على واقعنا، فإضافة إلى شكوانا من الأمية الفعلية (من لا يجيدون القراءة والكتابة)، ومن الأمية الثقافية (المتعلمون الذين لا يقرؤون إلا كتب مناهجهم الدراسية)، فكذلك ثمة ظاهرة أخرى، أقل لفتاً للانتباه وإن كانت لا تقل خطورة، وهي أن هناك عدداً كبيراً من القراء، يمتلكون نهماً شديداً للقراءة، وإدماناً على جمع المعلومات، ولكنهم، ولسبب ما، لا يقرؤون إلا نوعاً معيناً من الكتب، ولا يعبؤون إلا بجمع نمط محدد من المعلومات، والحصيلة: خزانة مترعة بالأفكار الخرقاء والمعلومات الخاطئة.. «ثقافة» لاعقلانية، تجافي الواقع وأسس العلم، بل وبدهيات العقل.
وعلى رغم تنوعهم من حيث العمر والعمل والمستوى التعليمي، فإن القواسم الكثيرة المشتركة بين هؤلاء تكاد أن تحولهم إلى حزب حديدي يسير أعضاؤه وفق تعليمات صارمة، يبدو هذا في العناوين المحددة المتداولة بينهم، ففي السياسة هناك «الحكم بالسر» و«أسرار الماسونية»، وفي التاريخ «بروتوكولات حكماء صهيون» و«أحجار على رقعة الشطرنج»، وفي العلم«عجائب مثلث برمودا» و«حضارة الأطلنطس» و«علم الأرقام عند القبالا»، وفي علم النفس «طرق التنويم المغناطيسي» و«كيف تسيطر على من حولك» و«البرمجة العصبية»، وبالطبع هناك «السفر» الأكثر تبجيلاً عندهم: «تنبؤات نوستراداموس»، كما أن الروائي الأميركي دان براون قدم لهم مؤخراً تحلية أدبية عبر روايته «شيفرة دافنشي».
أما أشهر نظرياتهم فهي: «الأصل فوق البشري لبناة الأهرامات»، و«سكان أطلانتس الذين يقفون وراء الحوادث الغامضة في مثلث برمودا»، و«حساب أرقام الأحرف الذي يحدد مستقبل الشخص من خلال اسمه»، و«الصراع بين الطاقة الإيجابية والطاقة السلبية كتجلٍّ للصراع الأزلي بين الخير والشر»، و«الحكومة العالمية الخفية، المؤلفة من ثلاثة وثلاثين شخصاً، والتي تتحكم بكل مجريات الحياة بدءاً من الحروب وصولاً إلى أسعار الطماطم».. طبعاً بالإضافة إلى الإيمان المطلق ب «الأبراج» وب «حقائق مؤكدة عن الأطباق الطائرة تخفيها بعض أجهزة المخابرات العالمية عن الناس».
ولا يعدم هؤلاء تراثاً يستندون إليه، إذ يقفزون قروناً إلى الوراء وصولاً إلى العصر الهرمسي، ومنه ينهلون أفكاراً غنوصية إشراقية، وعلوماً سحرية وألعاباً حسابية.. هناك حيث يظهر أفلاطون متنبئاً، وفيثاغورس مُنجّماً يلعب بالأرقام بدلاً من الرمل والودع.
ومن يجرؤ على تسخيف أفلاطون وفيثاغورس وهرمس مثلث الحكمة؟ ومن يقوى على التشكيك فيما ينسب إلى مكتبة الإسكندرية من حقائق علوية خالدة؟.
وكان كل ذلك سيغدو مجرد فكاهة تضفي على حياتنا المتجهمة شيئاً من المرح، لولا أن هذا النوع من الثقافة صار شائعاً، بل إنه تسلل إلى مواقع ومفاصل مؤثرة، ففي جامعة عربية، يفترض أن تكون مرموقة، اعتاد أستاذ للفلسفة أن يقرأ الكف لطلابه، مرشداً إياهم إلى الطريقة المثلى لتمييز «خطوط العمر» من «خطوط الحظ»..
وكذلك فقد دعا منتدى أدبي إلى ندوة بعنوان «أسرار لم يكشفها التاريخ»؛ حيث قدم كاتب معروف القصة الحقيقية لغرق التيتانك، شارحاً نظرية معقدة ملخصها أن الأحرف التي تتكون منها أسماء القبطان ومساعديه تقابلها أرقام مشؤومة كانت هي السبب الحقيقي وراء الغرق!
وفي مصادقة على ملاحظة كارل ساغان حول الطيارين، فكثيرون يذكرون حكاية ذلك الطيار المدني في إحدى الدول العربية الذي نشر، عبر مقابلات صحفية، اكتشافه المذهل أن «الأرض ليست كروية كما يقول علماء الغرب النصابون بل هي مسطحة تماماً»، مُقدّماً، كإثبات على ذلك، معادلات غامضة مستمدة من علوم ما قبل التاريخ.. الشيء الذي حدا بإدارة الطيران في ذلك البلد إلى إيقاف طيارها العبقري عن التحليق، مخافة أن يطبق اكتشافه وهو في الجو، فيقود ركابه إلى حتفهم بدلاً من المطار المنشود.
أسباب كثيرة تصلح لتفسير شيوع كتب الخرافة وازدياد عدد قرائها.. لكن الزبدة تتلخص في أن الإنسان الذي يزداد إحساسه بالعجز تحت وطأة ظروف كثيرة قاهرة، اقتصادية واجتماعية وسياسية، يميل إلى الاستقالة من مسؤوليته عن واقعه ومصيره، ويحمل هذه المسؤولية إلى أسباب قدرية حتمية وقوى فوق بشرية، لاسيما في ظل غياب المشروعات الثقافية الجادة، والضعف المتأصل للثقافة العلمية، والتردّي الملموس في المناهج التعليمية..
اعتدنا أن نبجل الكتب، ونضفي نوعاً من القداسة على الحرف المطبوع، ونحتفي كثيراً بانخراط أناس جدد في نادي القراء.. هذا أمر مشروع ووجيه طبعاً، ولكن علينا أن نتحلى بشيء من الحذر، فنسأل عن عناوين هذه الكتب، وميول هؤلاء المنخرطين الجدد، فهناك قراءة تفوق خطورتها الجهل بكثير، ولنا في «دونكيشوت سرفانتس» درس لا ينسى، فكما أن كتباً تصنع عقولاً فذة بإمكانها إنقاذ العالم، فإن هناك كتباً أخرى تفسد العقول وتخرب الأنفس. ألم تدفع الكتب العتيقة دونكيشوت إلى أن يهيم على وجهه ليحارب طواحين الهواء؟.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

ليست مرثيّة لإميل حبيبي

(ثقافات) ليست مرثيّة لإميل حبيبي: الإنسان في جوهره مرزوق الحلبي عندما اتخذ الحزب الشيوعي قرارًا …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *