*أمير تاج السر
من الكتب التي أعتبرها مشوقة جدا، وتكسر الملل الذي ينشأ أحيانا من القراءة المتواصلة للإبداع من شعر ونثر تلك التي تتحدث عن حياة المبدعين من التي إما يكتبونها بأنفسهم في شكل مقال طويل، أو عدة مقالات، أو يكتبها أشخاص كانوا لصيقين بهم لفترة من الزمن.
هنا لا أعني السيرة الذاتية الكاملة التي تمثل حياة المبدع في شتى صورها فهي معروفة ومنتشرة، وإنما التي لها علاقة بالقراءة والكتابة، أي كيف كان يفكر ذلك المبدع؟ ماذا قرأ وكيف كان ينتقي النصوص التي سيقرأها؟ وماذا تحوي مكتبته بخلاف المكتبات المألوفة لهواة القراءة؟ وما رأيه في المبدعين الآخرين الذين عاصروه أو سبقوه أو أتوا بعده؟
من الكتب التي استهوتني في هذا المجال ما كتبه التركي أورهان باموق في كتابه “ألوان أخرى”، وهو حقيقة تجميع لما كتبه باموق من مقالات منذ بداياته وحتى أصبح نجما إبداعيا حاصلا على نوبل الآداب.
هنا لا نجد سيرة كبيرة لإسطنبول التي اعتاد باموق أن يجعلها رصيفا أو متكأ وارفا لذكرياته، ذلك أن الكتاب يخص الأدب وحده، وقد حمل مجموعة قراءات شيقة لآثار كتاب معلمين مثل البيروفي يوسا، والروسي ديستوفسكي، وكافكا بالطبع الذي كان ولا يزال معلما كبيرا لشتى أجيال الكتابة، ويعد عمله “المسخ” من أجلّ ما كتب في الأدب.
أيضا تحدث باموق عن كيفية قراءته للنصوص، وكيفية الاستعداد لكتابة نص، وماذا تمثل المكتبة لديه، والشارع لديه، والسفر الذي تعرف إلى سكته مبكرا بحكم إقامة والده في أوروبا، ولعل الآراء التي ذكرها في الكتابة والكتاب وبينت مواضع افتتانه ومواضع استيائه هي التي تجعل كتابه عملا حرا ومطلوبا للقراءة بشدة.
كتاب السيرة الذي كتبه البروفيسور البريطاني جيرالد مارتن عن ماركيز يبدو أكثر قربا للآراء الأدبية من كتاب ماركيز الشخصي “عشناها لنرويها”، ذلك أن ماركيز كتب سيرته كاملة منذ بداية حياته في تلك القرية الكاريبية من قرى كولومبيا وحتى أصبح علما أدبيا كبيرا.
لكن جيرالد مارتن -الذي قضى سنوات طويلة ينبش في حياة ماركيز، ويقترب منه ويبتعد وثق لقراءاته المتنوعة، وتأثير الآخرين فيه، وكيف كان يقرأ أو يكتب، وعن فترة وجوده في أوروبا صحفيا مراسلا لإحدى الصحف في بلاده، أو مشردا بعد ذلك- سيسير في سكة لا يدري أنها ستوصله للمجد.
لقد أحسست وأنا أقرأ كتاب مارتن بأنني أعرف ماركيز فعلا، أعرفه كقارئ مشارك للقراء الآخرين في اكتشافه للأدباء ونصوصهم، وأعرفه كاتبا مبتدئا، يطرق سكك النشر ولا يجد استجابات كبيرة، والأهم من ذلك أعرفه مبدعا لن ييأس، وهو يحمل ثقة كبيرة أنه يقدم شيئا جديرا بالوقوف عنده.
أتحدث الآن عن كتاب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل الذي سماه “مع بورخيس” وأصدرته دار الساقي من ضمن ما تصدره من كتب عظيمة تخص القراءة، خاصة لمانغويل الذي نعتبره أحد أهم أساتذة علم القراءة، وقد وثق لتاريخ القراءة في كتاب عظيم، وتحدث عن المكتبات بوعي كبير، وكان مبهرا في محاضراته التي يلقيها في جميع أنحاء العالم.
“مع بورخيس” كتاب يتحدث عن فترة عدة سنوات من منتصف ستينيات القرن الماضي قضاها مانغويل في بوينس آيرس قريبا جدا من المعلم بورخيس، وكان يقرأ له الكتب في شقته بعد أن فقد بورخيس بصره إثر مرض وراثي يتنقل في العائلة.
الكتاب يطلعنا على ممارسات لا نعرفها عن بورخيس، ويملأ فراغات كثيرة كانت ممددة في معرفتنا بذلك الكاتب والشاعر العالمي العظيم الذي لم تختلف مكتبته كثيرا عن مكتبات عامة الناس من حيث مساحتها المتواضعة، ووجودها في الزوايا المهملة من شقة صغيرة كان الكاتب يقيم فيها مع أمه وخادمة، لكنها تختلف من الناحية النوعية، أي أنها تحوي كتبا مهمة للغاية، وكيف أن بورخيس كان مهتما بإبداع غيره أكثر من إبداعه.
كان يملك طبعات عدة لكتب بعينها لجيمس جويس، وإليوت، وعدد من الكتاب والشعراء المهمين عالميا، بينما لا يوجد كتاب واحد يحمل اسمه، كان يفخر بأن الأسماء الموجودة في مكتبته هي التي تسند المكتبة، ولا حاجة لوجود اسمه بينها.
كذلك تعرض مانغويل لمسألة الذكاء المعرفي عند بورخيس، فهو على الرغم من أنه كان أعمى فإنه لم يفقد معرفته بالكتب أبدا.
كان يتحسس رفوف المكتبات التي كان يرتادها سابقا قبل أن يفقد بصره، ينتقي كتبا معينة، يتعرف إليها بإحساسه كما يقول، وفي مكتبته الخاصة كان يعثر على الكتاب الذي يريده بسهولة ليلتقطه، ويمرره للشخص الذي سيقرأ له في ذلك اليوم.
ولأن مانغويل -الشاب آنذاك الذي التقطه بورخيس من عمله في مكتبة كبرى في العاصمة كان يرتادها- هو الذي يقرأ له بعد أن كبرت أمه ولم تعد تستطيع أن تقرأ له كثيرا فقد أتيح له أن يلم بالطقوس القرائية والكتابية لذلك المبدع الاستثنائي.
وقد ذكر مانغويل أن بورخيس كان يكتب نصوصه في ذهنه، ويقوم بتصحيحها أيضا، وتعديل بعض فقراتها، وحين يقوم بإملائها على أحد تكون في صورتها النهائية.
من الأشياء الرائعة التي أعجبتني في سلوك بورخيس واهتمامه بالكتابة والقراءة -بلا أي زيادات أو بحث عن الترف- أنه تلقى نسخة من أحد كتبه المترجمة للألمانية، وقد جعلها الناشر في غلاف سميك مزخرف وموشاة بخيوط من الذهب تقديرا له فاستلمها بورخيس وعرف شكل الكتاب فردد أن الناشر حوله من كتاب إلى حلية، ثم قام بإهدائه لساعي البريد الذي جاء به.
كتاب “مع بورخيس” جميل فعلا ومعرفي إلى أقصى حد، ومحتشد على الرغم من قصره بمواقف كثيرة تستحق تأملها في حياة واحد من الذين اخترعتهم الكتابة الجيدة، وأخلصوا لها، وكان شيئا مبهجا أن تقرأ عن خورخي لويس بورخيس بقلم ألبرتو مانغويل أحد أستاذة المعرفة المطلوبين بشدة هذه الأيام.
_____
*الجزيرة. نت