د. عزوز علي إسماعيل
التجليات والفكرة لقد مهد الغيطاني الطريق لارتياد الفضاء الصوفي عبر قلمه الحاد الرصين وأسلوب سرده المفعم بالخيال، المجسد للصورة المكانية في إعطاء الدلالات التأويلية، وفق رؤيته الخاصة مع ذاكرة الضوء الحديدية، والتي لا مناص عنده من أن يمرق من جلدها أو أن يصبأ عن جنسها، إنها ذاكرة الضوء المنبعث من حضارتين عريقتين: الفرعونية العتيقة والإسلامية النورانية، حيث اتكأ عليهما ليرى من نوافذه المتعددة ما لايراه الآخرون؛ فنظر من نافذة السماء ليرى الكون المطلق اللامحدود، ومن النافذة الداخلية ليرى الغائب البعيد اللامحدود، ومن نافذة المناظير ليرى المجرات والكواكب وأخيراً نافذة العمر التي تنفتح قبل النهاية، وهو في طريقة إلى هذا سيطرت عليه الصوفية بكل أطيافها، فارتوى من معينها الذي لا ينضب، وتنسم عبيرها الذي بلغ الآفاق. التجلي الصوفي من الفعل تجلَّى أي انكشف ووضح وبدا للعيان، والتجلي عند الصوفية هو ما ينكشف في قلب الصوفي من أسرار الغيوب، إشراق ذات الله وصفاته أو باختصار ما ينكشف للقلوب من أسرار أو أنوار الغيوب.
وجمع لفظة الغيوب يدل على أن التجلي الواحد له العديد من المعاني، أما الغيوب التي تظهر التجليات من بطائنها فهي سبعة: غيب الحق، غيب الخفاء المنفصل من الغيب المطلق، وغيب السر المنفصل من الغيب الإلهي، وغيب الروح، وغيب القلب، وغيب النفس، وغيب الطائفة البدنية. فبعد أن مزَّق الغيطاني ما كتبه ودونه فيما يخص أولئك الأولياء رأى فيما يرى النائم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي وسيد شهداء أهل الجنة الإمام الحسين ففهم البشارة، التي تعني اكتب ما مزقته من جديد، فكان هذا الكتاب الذي يحوي تجلياته وما تخللها من أسفار ومواقف وأحوال ورؤى، وهي تجليات لا يفهمها إلا ذوو الألباب ومن لم يفهم ما فيها فيعلم أن الغيطاني قد بصر بما لم يبصرونه. جاءت فكرة التجليات من تجليات ابن عربي الصوفي والذي تأثر به الغيطاني في كتاباته المتعددة فنرى هناك أثراً لكتبه؛ حيث يقول الغيطاني عن كتاب التجليات: استوحيت الفكرة من ابن عربي وما زلت مصراً على أن هذا الابن لا يشبه أباه في شيء. وبالفعل فإن تجليات الغيطاني وإن كانت متأثرة كل التأثير بأفكار ابن عربي وكتبه إلا إنها تميزت بطابع خاص حيث تقوم على محور خيالي مرتبط بالذهن وفكرة العروج من خلال اعتمادها أولاً على اللغة الصوفية التي تبحث في اللامكان واللازمان لتصل إلى الغائب البعيد أو إلى المطلق كما الحال عند المتصوفه وأيضاً كانت رحلة فكر كما الحال عند ابن عربي ورحلة معراجه وما تميز به الغيطاني أنه استمد المرتكزات من التجربة الصوفية وعاش مع خياله هو الآخر وانطلق في كتاباته حاملاً معه كتب المتصوفين وكلماتهم وعباراتهم فكانت الرواية خليطاُ من التناص والمُـناص اللذين أعطيا الرواية بعداً حيوياً تماشى مع روح التصوف. الصوفيون والغيطاني كتاب التجليات للغيطاني هو أيقونة صوفية من الدرجة الأولى فبعد أن تشبع منها من مشايخه الكبار محيي الدين بن عربي، صاحب الفتوحات المكية وصاحب كتاب التجليات وأبو يزيد البسطامي، صاحب الشطحات المعروفة. ومع المؤرخين نحو ابن إياس والمقريزي. وقد انخرط الغيطاني في عالم الروحانيات العجائبي وهو ما نراه جلياً في سرده الذاتي الذي يستخدم فيه تاء الفاعل فهو من ثم السارد والبطل في آن واحد ونرى الرحلة المعراجية الخيالية التي تأخذه إلى عالم سماوي يبحث فيه تلك الشطحات الصوفية، وهو معراج روحي كما يفعل الصوفيون وغالباً ما يأتي هذا المعراج على شكل رؤيا منامية وتكون على هيئة الحلم وفيها قد يسير البطل في رحلته على الماء أو حتى في الهواء، وبالتالي فإنه يعيش في قانون آخر، قانون يبعد عن الجاذبية الأرضية؛ وحتى يتيح لنفسه حرية التنقل عبر الأزمنة فيحاول ربط الواقع والحياة المعيشة بذلك الخيال من قريب أو من بعيد..
لذلك نراه في التجليات يأتي بالتناص والمناص وهو ما سنعرفه فيما بعد. الهاتف تبدأ الرؤية عند جمال الغيطاني في التجليات من الهاتف وهو من ألفاظ ومعجم الصوفية ” هاتف المغيب” وهي رؤية صوفية، فنراه يقول بعد أن ذكر شخوصه الذين سيعيش معهم في تجلياته:” وفجأة، عند ساعة يتقرر فيها الفجر، صاح بي الهاتف الخفي… يا جمال.. انتبهت، فإذا بنور ساطع يشرق في ليل نفسي، نور ليس مثله مثل حتى ظننت أني عدت إلى مركز الديوان البهي “. يذكر الغيطاني حين جاءه هذا الهاتف أصحابه في رحلة المعرج فيقول رأيت ثلاثة وخلفهم ثلاثة وفي منتصف المسافة واحد، فالثلاثة الأول كان الحسين عليه السلام وعبدالناصر ووالده، والثلاثة الآخرون لا يتأكد منهم فهم من أهله أهم شخص في المجموعه والذي يبحث عنه هو الواقف بين المسافتين وهو محيي الدين بن عربي. ويقول أيضاً ” تجلَّ وتجلَّ إن النائم يرى ما لا يراه اليقظان” وقبلها يذكر هذه العبارة التي تؤكد جزئية الصوفية” أنى للمقيد بمعرفة المطلق”.. فأصبحت الرؤية هنا حافزاً سردياً يسرد ما يراه في رحلته المعراجية مع ابن عربي وابن إياس، ويظهر نوع من الكرامات التي نراها عند المتصوفة، وهي إشارة إلى التجلي الصوفي وعالم الروحانيات والاكتشاف أو الرؤية الصوفية، ثم يسعى إلى معرفة المطلق وتجلياته التي تشرق الذات. واللون الأخضر هو من معاجم الصوفية ونراه يكرره كثيراً في حلمه فنراه يقول في رحلته: ” سريت في زمن النور الأخضر في زمن الزهور المرجو فرأيت نفسي أخرج من مدينة رباط الجميلة عند شاطئ المحيط، أرحل، وأعبر الحدود بلا راد أو مانع، دخلت سيناء الأبدية”.
ونلاحظ في هذا التطواف الصوفي يذكر مناطق العالم العربي المهمة والتي لها أثرها في نفسه فالرباط والمغرب يرتبطان أيضاً بحالات العشق الصوفي، ثم يعود إلى سيناء الأبدية وعبارة الأبدية أي الخلود الدائم، وهي أيضاً من مصطلحات الصوفية، ثم يكرر لفظة الأخضر ” استمر سرياني في الشعاع الأخضر” ثم يكررها في الصفحة نفسها بقوله:” تنبهت إلى شحوب اللون الأخضر”. ونراه في هذه الجزئية يخرج من عالم التصوف والروحانيات إلى الهبوط إلى عالم الأرض ويذكر سيناء وما كان فيها من حرب، ويستعيد أيام الحرب ويضع جملة تؤكد على أنه هبط إلى أرض الواقع بقوله:” وتذكرت أيامي عندما عملت مراسلاً حربياً.
أنقل إلى من لا أعرفهم ما يجري. ما يقوم به أبناء الوطن، كان من الممكن أن أموت في تلك الأيام التي لا يذكرها إنسان الآن، كنت سأصبح نسياً منسياً”.وكان هذا التجلي هو تجلي الانتصار. التفاعلات النصية التناص تأثر الغيطاني بكتاب ” الإسرا إلى المقام الأسرى” أو كتاب المعراج لابن عربي وفيه يصور ابن عربي عروج الروح من عالم الكون إلى عالم الأزل وهي القصة نفسها التي تأثر بها جمال الغيطاني في كتابه ” التجليات ” وحاول محاكاتها فيه متخذاً من شكلها السردي منوالاً لأحداث الرواية وهنا نرى التناص في جزئيتين وبين صيغتين في ذلك التجلي عند الاثنين وتلك الرحلة الروحانية عند البطل أو السارد عند الغيطاني، وسنجد أن بإعادة صياغة عبارات لابن عربي مما جعله يدخل في نطاق التناص والتناص ما هو إلا محاورة النصوص ولا يذكر النص كما هو لأننا بذلك نكون دخلنا في شيء يسمى بالمُـناص.
أولاً يقول ابن عربي في معراجه في كتابه ” الإسرا إلى المقام الأسرى:” قال السالك: خرجت من بلاد الأندلس، أريد بيت المقدس، وقد اتخذت الإسرا جواداً والمجاهدة مهاداً، والتوكل زاداً، وسرت على سواء الطريق أبحث عن أهل الوجود والتحقيق.” ونرى المعنى نفسه وبألفاظ تكاد تكون قريبة من السابقة عند الغيطاني في كتابه التجليات وهذا هو التناص يقول:” سريت في النور الأخضر، في زمن الزهور المرجوّ، فرأيت نفسي أخرج من مدينة رباط الجميل عند شاطئ المحيط أرحل وأعبر الحدود بلا رادٍّ أو مانع” ص14.
وتناص آخر نراه قول الغيطاني:” كل شيء في سفر دائم ” وهو ما يتناص مع قول ابن عربي:” العالم في سفر على الدوام دنيا وآخره”. ويقول الغيطاني في تناص آخر:” طريق أبي في الحياة غريب، وطريقي في طريق أبي غريب” وهو ما يتناص مع قول ابن عربي:” طريق عبدالقادر في طريق الأولياء غريب، وطريقنا في طريق عبدالقادر غريب”. وهذا ما يدلل على التوغل الصوفي بداخل الغيطاني. ونلاحظ كذلك أن العنوان نفسه يتناص مع عنوان آخر لابن عربي في ” التجليات” فضلاً عن الأسفار الثلاثة ومن هنا بدأت الحكاية، وعلى الرغم من أن المسعى كان تقريباً واحداً وهو فكرة الهيام والعيش في الأحلام والعروج إلى السماء مع بعض أفكار الصوفية إلا إن الغيطاني اختلف بفكره الخاص مع شخصياته الخاصة المناص المُناص هو الآخر من التعاليات النصية والتي طرحها الكاتب الفرنسي جيرار جينت من قبل ضمن التفاعلات النصية الخمسة، والمُناص هو اسم فاعل من الفعل ناصَّ والمصدر منه مناصة وجمعت على أثاث التأنيث على المناصات. والمناص هو ما يأتي به الكاتب في نصه بين معطوفتين أو قوسين مثل الآية القرآنية، أو مقولة لكاتب آخر أو حتى بيت شعر والمناص متعدد منه ما هو ديني ومنه ما هو تاريخي ومنه ما هو ثقافي بوجه عام. وقد رأينا مناصات عديدة لدى الغيطاني في كتاب التجليات منها ما هو ديني ومنه ما هو تاريخي وثقافي أي أنه متشبع من الثقافة والتاريخ العربي قديمه وحديثه ونذكر مثالاً واحداً على ذلك المناص باعتباره من المتفاعلات النصية التي تعطي النص حيوية. نلمح مناصاً في قول الغيطاني:” اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام، الذي هو أول جسم إنساني تكوّن، وجعله أصلاً لوجود الأجساد الإنسانية، وفضلت من خميرة طينته فضلة خُلق منها النخلة، فهي أخت آدم عليه السلام وهي لنا عمة” وهو ما نراه مناصاً لقول ابن عربي في الفتوحات المكية الجزء الأول ص 118 يقول ” اعلم أن الله تعالى لما خلق آدم عليه السلام الذي هو أول جسم إنساني تكون وجعله أصلاً لوجود الأجساد الإنسانية وفُضلت من خميرة طينته فضلة خلق منها النخلة، فهي أخت آدم عليه السلام وهي لنا عمة الزمن.. الزمن عند الصوفي يقاس بالمعرفة فكلما عرفت أكثر اتسع الزمن لك وزاد وهو معيار الفعل.
والحركة الذهنية في زمن الحضرة هي عينة من استشعار الصوفي بالزمن، ومن هنا فمقياس الزمن يكون بالمعرفة عند المتصوفين. أما إذا قبلنا أن الزمن ينقسم إلى أزمنة مختلفة من خلال تقسيماته والتي منها الزمن الفلسفي والزمن التاريخي والذي نراه عند الناقد الفرنسي بول ريكور؛ حيث الفلسفة الوجودية وفكرة الانطولوجيا من خلال أنا أفكر إذاً أنا موجود في المكان والزمان، فإن الزمن النفسي هو ما نقصده هنا والذي يحوي بين طياته ذكريات الإنسان، وهذا النوع ما نسميه عامة بالزمن النفسي، وقد أثبت علم النفس الحديث كيفية تخزينه سواء في مستوى الذاكرة الواعية أو في مستوى اللاوعي وبين قيمة هذا المخزون في توجيه السلوك البشري أو في فهمه وتحليله وتفسير أسباب الاستقامة فيه وهذا هو بيت القصيد؛ ذلك أن الزمن النفسي عند الغيطاني هو ما كان وما سيكون، وهو نفسه الزمن الصوفي الذي يحيا فيه الكاتب مع تجلياته.
* الدستور.