هاميس البلشي
خاص ( ثقافات )
ترددت كثيراً في الكتابة عن هذه الرواية، الحقيقة أني خفتها، شخصياتها ما زالت تلاحقني بأفكارها العبثية المتنافية مع كل الثوابت، فـ”ميلان كونديرا” يُخل بكل الموازين.. موازين الضعف والقوة.. الحب واللاحب.. الألم والسعادة.. الخيانة والتضحية.. الخفة والثقل..
“تيريزا” شخصية انتهازية يساورها دائماً شعور بالضعف والاضطهاد من قبل الجميع، وتعرف كيف تستغل هذا الشعور وتستدرج به عطف “توماس” وشفقته، تصور نفسها دائماً على أنها الضحية.. الزوجة التي يخونها زوجها وتشم رائحة فرج امرأة مختلفة من شعره كل ليلة.. في البداية تتعاطف معها وترى في توماس شخصاً مثيراً للاشمئزاز حقاً.. حتى تتكشف لك أنانيتها وحبها للتملك والسيطرة الذي تخفيه تحت قناع الضعف والخيانة، الأزمة أن ما يصدر عنها من تصرفات مجحفة وتجاهل تضحيات توماس لأجلها يأتي عن اقتناع، فهي تضع نفسها في خانة المظلومين دائماً وتصارع من أجل البقاء فيها، لم تدرك ما صنعته بنفسها وبتوماس إلا في بيت صغير في الريف حيث هي راعية بقر وهو سائق شاحنة، فقدا كل شيء ولم يفقدا وجودهما معاً. أكان هذا كافياً؟ هل كانت الحياة تروق لهما في الريف؟ هل حققت السعادة المرجوة؟
هل صار توماس أكثر خفة حين تخلى عن وظيفته وحلمه من أجل أن يكون بجوارها يضم يديها إلى صدره وهي ترتعش من الخوف، ويحميها من أحلامها المفزعة التي ترى فيها زوجها في سرير مع عشيقة جديدة، أم أنه صار بحق “كائن لا تحتمل خفته”؟
حتى لا يساء فهمي أنا لا أتحامل على تيريزا، ما زلت أحنو عليها وأنا أتذكر صراعها العنيف مع أحلامها التي تنتهي دائماً بنحيب لا ينقطع إلا حين يوقظها توماس، ومحاولاتها الجاهدة للتغلب على غيرتها -الغريزة الطبيعية لدى كل النساء-
“هل الثقل حقاً فظيع؟ وجميلة هي الخفة؟
ماذا علينا أن نختار، الخفة أم الثقل!”
“كونديرا” يحلل النفس الإنسانية بشكل مرعب، يفلسف الهروب والخيانة، مِن مَن؟ الوطن.. الأهل.. الأصدقاء.. الناس.. الوظيفة؟ هل هذه الأشياء تُثقلنا فعلاً أم أنها ما تجعلنا نحن، وبدونها نصير أشخاصاً لا نعرفها؟ هل في إعلان الحب المحرم حرية وتحدٍّ للمجتمع أم انتهاك لخصوصية العلاقات، وجعلها مشاعاً ومحط أنظار الجميع؟ هل كان توماس محقاً حين رفض أن يوقع على عريضة تفيد بولائه للحكومة الفاشية، وعلى أثرها طرد من عمله كطبيب وحمل “جردل ومساحة” ينظف شوارع وبيوت براغ؟ هل خسر نفسه التي اعتاد عليها في غرفة الجراحة، أم كسب نفسه التي فضلت الشجاعة على الجبن؟
“أيهما أفضل، الصراخ وتبجيل نهايتنا، أم السكوت والحوز على احتضار أكثر بطئاً؟”
توماس مريض بالجنس، النساء تمثل له لغزاً يسعى دائماً لحله، سراً يريد اكتشافه، وشهوة تتملكه، لا يسمي مغامراته خيانة وطالما أخبر “تيريزا” أن هناك فرقاً بين الجنس والحب “إن مضاجعة امرأة والنوم معها رغبتان ليستا مختلفتين فحسب، بل متناقضتان أيضاً، فالحب لا يتجلى بالرغبة في ممارسة الجنس (وهذه الرغبة تنطبق على جملة لا تحصى من النساء)، ولكن بالرغبة في النوم المشترك (وهذه الرغبة لا تخصّ إلا امرأة واحدة)، استطاع “كونديرا” أن يقنعنا بإخلاص توماس ووفائه لزوجته محطماً كل الثوابت التي نشأنا عليها، فخيانة ظاهرية لا تعتبر خيانة إذا كان قلبه لا يحتله سوى تيريزا، توماس هو الطرف الأضعف في العلاقة، موضع الشك الدائم “وجب عليه دائماً أن يخفي أمراً ما، وأن يتكتم، وأن يستدرك، وأن يرفع من معنوياتها، وأن يؤاسيها، وأن يثبت باستمرار حبه لها، وأن يتلقى ملامات غيرتها وألمها وأحلامها، وأن يشعر بالذنب، وأن يبرر نفسه وأن يعتذر”، تهرَب من كل ثقل في حياته -مهنته، زوجته، ابنه، والديه- ولم يقوَ على التخلي عنها هي، الثقل الأكبر في حياته، حبه الوحيد، الطفلة التي أُلقيت في سلة على شاطئه كما يصورها دائماً، حياته معها هي “ما ليس منه بد”..
“إن ألمنا الشخصي ليس أثقل من الألم الذي نعانيه مع الآخر ومن أجل الآخر وفي مكان الآخر، ألم يضاعفه الخيال وترجعه مئات الأصداء؟”.
طوال الرواية يجد “توماس” ملاذاً – يبرر كل تصرفاته ويعطيه إحساساً داخلياً بالرضى- في مقطوعة بيتهوفن الأخيرة “أليس من ذلك بد؟” فيرد توماس: ” ليس من ذلك بد”، ثم يندفع في تنفيذ قراراته، وكأن هذه الجملة تُسقط من على كتفيه حملاً، وتتولى هي تقرير مصيره نيابة عنه، توحي له دائماً بالخلاص والخفة التي أفنى حياته من أجلها.
رواية تلمسك وتثير فيك تساؤلات تظل إجاباتها معلقة في الهواء، فتصنيف الأشياء إلى إيجابي وسلبي غير منصف تماماً، الخفة يمكن أن تصير غير محتملة، والخيانة لها مبرراتها، والضعف الذي يستغل الحب قوة تنهش فيه وتفنيه لصالحها، لا يوجد مقياس ثابت يفصل الخير عن الشر، نحن مقياس المواقف وهناك دائماً ما “ليس منه بد”…
يقول كونديرا: “الحياة الانسانية لا تحدث إلا مرة واحدة، ولن يكون في وسعنا أبداً أن نتحقق أي قرار هو الجيد وأي قرار هو السيئ، لأننا في كل الحالات لا يمكننا إلا أن نقرر مرة واحدة.. لأنه لم تعط لنا حياة ثانية أو ثالثة أو رابعة حتى نستطيع أن نقارن بين قرارات مختلفة”.
شاهد أيضاً
العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة
(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …