*محسن الذهبي
في السابع من يوليو – تموز عام 1876 وقف المبدع الروسي تورجونيف إلى جانب فلوبيرو أرنست رينان ودوما والأمير جيروم بونابرت يستمعون إلى برقية قصيرة من فيكتور هوجو يقول فيها: (دعوا السيدة ساند هناك، دعوها، فقد تخلصت منكم ومن الجسد، إنها الآن حرة طليقة) ثم تقبلوا العزاء مع عائلة السيدة ” أورو ” والتي تعني الفجر بالفرنسية. لينطفي بعدها ذلك الفجر الأدبي الذي أشرق على ظلمات القرن التاسع عشر. إنها التي اختارت الاسم المستعار لتعرف به (جورج ساند) مثلما استعارت ملابس الرجال. لتمضي بعد موتها رمزا للشعب الفرنسي وللحركة الرومانطيقية التي ازدهرت في حينها، مثلما أمست رمزا لحرية الحركات النسائية ودعاة الجمهورية ولتشغل نقاد الأدب والمسرح طويلا كما شغلت علاقتها عمالقة ذاك الزمان. يصفها دستويفسكي بأنها رمز للمرأة الفريدة في موهبتها ودخلت التاريخ من بوابة الأدب.
إن تجربة ج. ساند فريدة في تاريخ الأدب العالمي فهي متعددة الوجوه تقوم على واقع من المتناقضات الصارخة والمفارقات، فمن حياة متحررة أشيع الكثير عن سلوكها الأخلاقي إلى صور أبطال رواياتها الساعين إلى الفضيلة والمستجيبين بسرعة لنداء صحوة الضمير. فولادتها في الأول من يوليو- تموز 1804 وسط عائلة ارستقراطية فرنسية عريقة ترتبط بعلاقة قربى من العائلة الملكية لأب من خيرة الفرسان وأم مثقفة لكنها من العامة جعلها تعيش صراعا حادا بين جدتها لأبيها وأمها وخاصة بعد موت أبيها ساقطا من صهوة جواده حتى حسمت المحاكم أمر حضانتها، وقضت ترك حرية الاختيار لها فقررت أن تقيم تارة مع جدتها في الريف وتارة مع أمها في باريس، وهكذا عاشت نوعا من ازدواجية الأجواء بين هذي الثنائية التي تصل حد التناقض. فعلى يد الجدة تعرفت على أعمال شكسبير وأرسطو وبايرون وباسكال ولوك وروسو وغيرهم الكثير من عمالقة الفكر ثم تزوجت عام 1822 من ابن بارون وأنجبت ابنها وابنتها، وما إن ماتت الجدة حتى انقلبت حياتها رأسا على عقب فعادت إلى باريس لتعيش بحريه خارقة كل القيم الارستقراطية المتوارثة. فكان أول التمرد بان ترتدي بنطلون وسترة الرجال وتدخن السيجار طيلة الوقت وتلتقي الأصدقاء الباريسيين والأجانب من الأوساط الأدبية، فتتعرف على شاب يدعى “جيل ساندو ” ذي ميول أدبية ليقربها من صديقه “هنري دي لاتوش ” صاحب جريدة (لوفيجارو) الذي يعجب بأسلوبها في تحرير زاويتها اليومية مع صديقها والتي ينشرانها تحت اسم ” ج. ساند ” مقابل 7 فرنكات وهكذا تبدأ خطوتها الأولى في أروقة الأدب. وينشران معا رواية (الوردي والأبيض) عام 1831 لكنها بعد اقل من عام واحد تنشر روايتها الأولى منفردة بعنوان (إنديانا) وبنفس الاسم فتلقى نجاحا لم تعهده باريس ما حدا بـ ” لاتوش ” لوصفها بأنها احد اثنين: إما أنها تقلد أسلوب بلزاك، أو أنها قلم عبقري جديد بدأ يطل بقرنيه. فيما اجمع النقاد الفرنسيون على العمق الفني وجدارته. تستمر تكتب تحت اسم ج. ساند وتنشر روايتها الثانية (فالنتين) بعد أن تقاطع صديقها ساند وتصفه بالعالة الأدبية عليها. تتعرف إلى ” ألفرد دي موسيه ” وهو22 من عمره ليسافرا معا إلى مارسيليا ثم فلورنسا وجنوة لتكتب هناك روايتها (ليليا) التي تعكس قلقا وجوديا وعودة مزاج الرومانسية التي بدأت بها ويرافقها في الرحلة الكاتب الكبير “ستاندال” وعاشقها فيما بعد، ليعودا معا إلى باريس فتنشر (رسائل مسافر) ثم (اعترافات احد أبناء القرن). وتنخرط مع ديموسيه في عصبة أصدقاء الرومانسيين مع الموسيقي المجري “ليست ” والرومنطيقيين أمثال التشكيلي المعروف “ديلاكروا ” صاحب اللوحات الخالدة حلم يعقوب والنساء الجزائريات والذي كانت حياته ولوحاته على طرفي نقيض فهو الهادئ الودود ولوحاته تعج بالمشاهد القاسية.
وتتعرف في عام 1835على جماعة السانسيمونيين التي تهتم بأفكار المفكر الاشتراكي الطوباوي (سان سيمون) لتكون الأم الروحية للجماعة وتتوطد علاقتها بأنصار الجمهورية وأصدقاء جدد أكثر رومانسية وتحرر وبوهيمية أمثال العازف البولوني الشهير ” فريدريك شوبان ” الطافح بالنزعة الرومنطيقية التجديدية. وخلال سنتين تكتب خلالها (موبرا) و(رسائل إلى مارسي) وهو عمل يعرض بصراحة غير معهودة للحرية في العلاقات الزوجية ما يجعل صاحب صحيفة لوموند ورغم الصداقة الخاصة التي تربطها به يمتنع عن نشره. فتصبح ج. ساند وجها أدبيا يتردد عليها الأدباء الكبار أمثال ” بلزاك ” فيما يعاشرها ” شوبان “لعقد من السنين فتكتب (الحبال السبعة) و(سبيرديون) و(رفيق توردي فرانس) وكلها تحمل روحا صوفية شفافة. وتنشر في 1844 روايتها (جين) لتدخل عالم الرواية الريفية لتليها روايتها الشهيرة (طحان انجيبو) و(المستنقع المسحور) و(فرانسوا لوشامبي) فيما نشرت بعض الروايات التي تسمى عصرية في وقتها مثل (بركة الشيطان) و( فاديت الصغيرة). وبتأثير الجمهوريين وعلاقتها الوطيدة مع مجموعة “الشعراء العمال ” التي يتزعمها شارل بونسي الذين روجوا لأعمالها بين الطبقات الفقيرة مثل روايتها المميزة (كونسويلر).
لكنها في عام1849 تعتكف على كتابة مذكراتها التي تلقفها القراء بنهم. لتبدأ بعدها تجربة فريدة في المسرح فتشرف على تمثيل (شامبي)ثم تتوجها بعملين مسرحيين هما (زواج فيكتورين) و(كلودي) ومسرحها اقرب ما يكون من مسرح الفرجة المتحرر المفعم بالرومانسية فالمسرح عندها هو التلاقي بين الفن والحياة لكنها مع ذلك تقدم وجها لأنا اجتماعية مثقله بالهم العام وان جاء ممتدا بين منطقة الحقيقة والوهم أحيانا بعفويه وتلقائية شكلت ميزة لمسرحها، مما يدفع المشاهد إلى الاعتقاد بان الممثلين يرتجلون وهذا يذكرنا بقولها: (إنها تفضل مسرح الفرجة الموجه لمشاهد ساذج ونهم.)
وتعود لتكتب (قصة حياتي) لتفضح بها كل النوازع الشخصية المتناقضة في الحياة فتقول فيها: (.. إن الجسم والفكر انكسار الخاطر والنقاء الديني، والمروق والرهبة، كلها ينخرها من الداخل نزوع دفين متعلق بالحياة ومحبتها الشديدة.) ورواية (لادانييلا) التي تصور الحياة الايطالية بشكل متحرر ما تسبب بإيقاف جريدة لابريس. وعندما نشرت (الآنسة كنتيني)عام 1863 كرسها النقاد كناطقة أدبية باسم الجمهوريين. ولبروزها في التعاطف ضد القمع جعلها زعيمة للدفاع عن الحريات حتى أصبحت رمزا في القارة الأوروبية ما جعل “سانت بوف” يقترح على الأكاديمية منحها جائزتها وتردد عليها كبار الأدباء فكان الروائي “دوما الابن” صاحب غادة الكاميليا ابرز مريديها وكذلك كتب لها رمز الرومنطيقية “جوستاف فلبوبير” مئات الرسائل وكانت محجا لجماعة جونكور مثل جوتيية وهيبوليت تين وبوف وكان لها تأثير واضح على رأي العديد في معارضة كومونة باريس وما تلاها من أحداث وللدفاع كتبت احد أطول رسائلها إلى ” فلوبير ” الذي وصفها بـ (الروائية التي تجسد المجد الفردي للأدب النسوي).
إن أدب ج. ساند يقف في منطقة الوسط والتفرد بين اتجاهات التيار الرومانسي بغنى ألوانه وعمق عاطفته وتعمقه أحيانا في الذات الإنسانية يقترب ويبتعد في ذات الوقت عن أعمال الرومانسيين الكبار أمثال “بايرون ” وفن ديلاكروا ومع ذاك يلاحظ تأثيرها واضحا على العديد أمثال جوستاف فلوبير والأخوات برونتي.
وفي عام 1872 بمصاحبة الروسي الشهير ” تورجينيف ” تنتهي حياتها بعد أن تنشر آخر روايتها عن الحرب وهي (كانون) وتكون بذلك قد كتبت ما يقارب المئة رواية وعشرات المسرحيات. بالإضافة إلى 25 مجلدا من الرسائل تحوي ما يقارب 50 ألف رسالة يزيد بعضها على100 صفحة وتعد في هذا ظاهرة فريدة في فنون الأدب.
_________
*المدى