عبدالجليل لعميري
خاص ( ثقافات )
مدخل:
يعرف المكان لغة: بالموضع والمحل والحيز والمقام، وجمعه: أمكنة، وهو مشتق من مادة: (مكن)، التي تعني المكان والمكانة (لسان العرب). كما يعني: “مجالاً ممتداً يشمل الأرجاء والأشياء” (1). ولعل هذا المعنى يظل ضيقاً، إن لم نقل قاصراً، عن المعنى المراد دراسته هنا. وعليه فلا بد من تناول مفهوم المكان كعنصر سردي، إذ يمكن القول إن: “المكان لا يكون منعزلاً عن باقي عناصر السرد، بل يدخل في علاقات متعددة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد: كالشخصيات والأحداث والرؤى السردية… وعبر هذه العلاقات المركبة يلعب المكان دوره النصي داخل السرد. وقد استطاعت الشعرية الجديدة أن تجعل من المكان عنصراً حكائياً بامتياز، إذ أصبح مكوناً أساسياً في الآلة الحكائية، ورفعت بذلك اللبس الحاصل في علاقة الفضاء النصي والفضاء المكاني والفضاء الواقعي.
ومع ذلك فالمكان في الرواية يتكئ على بعده التخييلي ليقطع صلته، نسبياً، ببعده الفيزيائي، خاصة حسب المقاييس الاقليدية. وهذا الانتقال من مجال الدراسات الفيزيائية إلى مجال الأدب، يجعل مفهوم المكان يجدد دلالاته ويوسع بعده الفيزيقي ليشمل أبعاداً: رمزية وإيديولوجية تسهم في بناء النص الروائي، كعالم متخيل، من خلال اللغة، فهو فضاء لفظي بامتياز. ويمكن ان نضيف إلى هذا: ان الاهتمام بالمكان في الرواية، هو اهتمام بالجانب الحكائي في المكان، ومدى مساهمته في تحقق المظهر التخييلي في العالم الروائي، فبالإضافة إلى كون المكان في الرواية يحتفظ بملامح المكان الذي تجري فيه المغامرة المحكية، فان الاهتمام بدلالاته الروائية ينصب أساسا على مساهمته الفعالة في تلك المغامرة نفسها كعنصر سردي فاعل. ومن هنا اكتسب المكان أهمية في قيام أي سرد روائي، فلا حدث بدون مكان وزمان، ومن تم لا سرد بدون مكان، ففي غياب الحدث الروائي المصحوب بجميع إحداثياته الزمنية والمكانية، يستحيل على السرد ان يؤدي رسالته الحكائية وكل قصة تقتضي الإعلان عن انتمائها إلى أصل زمكاني.2
1/ المكان من خلال التجربة الروائية المحفوظية:
في مقال له بعنوان “نجيب محفوظ وعشر سنوات من نوبل” (3) يؤكد محمد الرميحي أن “محفوظ ابن المدينة العربية التي تعتبر القاهرة أمها، فمن حي الحسين الذي بقي في الذاكرة المحفوظية حتى اليوم، إلى العباسية الحي الناشئ وقتها، الذي انتقلت اليه الأسرة، نشعر أنه تعلق بالمكان” 4. ويذكر الرميحي، أمرا مؤكدا، هو ان المدينة/ القاهرة هي العمود الفقري لأعمال محفوظ: مما ينسجم مع مقولة معروفة (الرواية فن المدينة بامتياز).
ومن المعروف عن محفوظ أنه لم يكتب عن الإسكندرية إلا نادراً (في ميرامار مثلاً)، ولم يكتب قط عن الصعيد المصري (الأرياف)، إلا أنه استحضر بقوة مميزة نهر النيل في أكثر من رواية من رواياته (وضمنها الثرثرة)، مسجلا أهمية هذا النهر العظيم في حياة مصر عبر التاريخ، لذلك فهو له علاقة خاصة بالنيل، يقول عنه: “في الأوقات التي كنت أجلس فيها بمفردي على شاطئ النيل (لاحظوا أنه يستعمل لفظة الشاطئ اللصيقة بالبحر بدل شط/ ضفة؟) كنت أشعر وكأن هناك علاقة حب ومودة تربطني بالنيل، فأناجيه وأتحاور معه كأنه شخص آخر أحياناً كنت أحدق فيه ولا أشبع من النظر إليه”.5.
ويمكن اختزال أهم الأماكن الأساسية في روايات محفوظ في اللائحة التالية:
أماكن العمل (المكاتب والإدارات)/ المقاهي/ الحارات والأزقة الشعبية/ ثم النيل. وهي مؤطرة بفضاء أوسع هو القاهرة/ مصر.
والمعروف أن محفوظ قضى حوالي 37سنة من الخدمة في الوظيفة (المكتب)، وهو مولع بالمقاهي (الفيشاوي، علي بابا، عرابي، ريش، أوبرا…).
2/ معجم المكان في (الثرثرة):
تحكي لنا ثرثرة عن جماعة من الأصحاب ‘ رجال ونساء: أنيس زكي، خالد زيدان، رجب القاضي، سنية كامل، احمد نصر، مصطفى راشد، علي السيد، سناء الراشدي، سمارة بهجت، وعم عبده حارس العوامة، تجمعهم عوامة على النيل في أحضان الليل، وأجواء: المخدرات والخمر والجنس، وتسود مجمعهم “ثرثرة” في مواضيع متعددة تمس همومهم الذاتية والجماعية: (فمن الحشيش والأفيون أقاموا جسراً بين الحلم والواقع، بين الخيال والحقيقة، بين الذات والعالم)6.
وثرثرتهم هذه دالة، اذ هي بمثابة بوح بمعاناة شريحة محددة في مرحلة تاريخية خاصة (الناصرية)، انها شريحة برؤى ضبابية، ونزوع هروبي يحمل بذور هزيمة تدق طبولها في المستقبل القريب، أن ثرثرتهم: “تعبير عن الخواء المدمر” 7، وعن “انتماء مأزوم” 8، وكما تصورهم صاحبتهم سمارة في مسودة مسرحيتها بكونهم: (يعيشون بلا عقيدة) 9، ويعيشون الصدمة التي تكشف هشاشتهم حين يخرجون في جولة ليلية بالسيارة، حيث يتسببون في مقتل مجهول، فيعيشون التشظي والتخلخل، وتنفجر علاقتهم: موقفان متضاربان (التستر على الحادثة/ الإخبار بالحادثة).
وما سنحاول التقاطه من دلالات لهذه الرواية – نزعم أنها ما زالت مختفية خلف بنيتها الرفيعة – سينطلق من زاوية الاهتمام باشتغالات المكان فيها، مع استحضار الوعي بأن المكان هو عنصر سردي، ضمن شبكة مركبة من عناصر السرد الأخرى.
فما هو دور المكان في بناء الدلالات داخل “الثرثرة”؟ وما هي خصوصياته الإيحائية/ الرمزية؟
للاشتغال على المكان لا بأس من التوقف عند معجم مصغر لأهم الألفاظ الدالة عليه في (الثرثرة):
“النيل – حجرة العمل (المكتب) – العوامة – المجمرة – حجرة المدير – القرية – المصلى (المسجد)- الحديقة الصغيرة الخاصة بالعوامة – السفرة – عتبة الشرفة – العوامات الاخرى – المائدة – البارفان – الكوخ- الخزانة/ المكتبة – النهر – الدلتا – السوق – المجلس – القمر – الشمس – سطح الماء – فوق – تحت المذكرة – الوجوه – موسكو – شارع قصر العيني – السيارة – شارع الهرم – شقة مفروشة للإيجار – شقة خالية – جنة القرود – أرض الغابة…”.
لعل هذه أهم الألفاظ المذكورة في الثرثرة الحاملة للدلالات المكانية، ونسجل أن ثالوثاً يتكون من: النيل/ العوامة/ المجمرة، يهيمن عليها، وتتكرر ألفاظه بكثافة ملفتة للنظر في الرواية، فالعوامة هي مكان المغامرة الحكائية، والنيل هو شاهد على هذه المغامرة والحامل لها، أما المجمرة فهي علبتها السوداء السحرية التي عبرها يتفجر البوح الحكائي للشخصيات.
فما هي خصوصية كل مكان من هذه الأماكن في (الثرثرة)؟
3/ دلالات المكان في (الثرثرة):
3-1/ النيل:
لننطلق من مقولة هيرودوت الشهيرة “مصر هبة النيل “، فنقول إن كثيراً من روايات نجيب محفوظ هي – أيضاً- من هبات النيل. و(ثرثرة) هي رواية النيل بامتياز، ورغم أن عدة تحاليل قد تناولتها بالتحليل، يظل من المستغرب استبعاد النيل كمفتاح للكشف عن الدلالات الخفية لهذه الرواية الشيقة.
ا/ النيل/ الماء (10):
من دلالات الماء: الحياة، الارتواء، النظافة، الطهارة، الاستخدام، الهذر، الجنس، الإخصاب، الرغبة،… وهو صنفان: ماء النقاء (النقاوة) والصفاء، وماء الأوساخ ومجاري المياه العادمة، ويقوم على محورين: عمودي ترتبط به الحياة الرقراقة الصافية (الفوق، الشفافية والطهر)، والمياه المبتذلة القذرة، المخيفة والقاتلة (المحور الأفقي: تحت/ الدناءة)، أي أن الماء يحمل دلالتين متناقضتين: دلالة الإيجاب (الإحساس بالحياة والنقاوة)، ودلالة السلب (الحياة المبتذلة). وماء النهر المرتبط بالجريان مما يضمن له الطهارة والتجدد. فالماء الجاري هو الخير والديمومة والخلود والقدرة على جرف الأقذار، والماء البارد، المنعش، هو اقرب إلى الطبيعة الصادقة الربيعية الخضراء النضرة، اما الماء حين يسخن ويتآلف مع النار يفقد قدسيته حتى ولو قام بتنظيف البدن. فالماء والنار يعطيان أضدادا مادية ملموسة: رجولة النار وأنثوية الماء ومن هذا اللقاء نصل إلى الرطوبة الساخنة والحارة، إلى الحميم والعلاقات الحميمية”.
ب/ الفوق:
انطلاقاً من العنوان (ثرثرة فوق النيل)، تحدث “الثرثرة” كفعل جماعي “فوق النيل”، أي بشكل عمودي، مما يجعلها ظاهرة ومكشوفة لنا، وهي “ثرثرة” متعددة، اذ تتكرر كل ليلة، لكنها تتم فوق الماء المتجدد/ الجاري، انه ماء نهر النيل، الذي يشق مجراه في المكان والزمان، لهدا نتمكن من خلال هذه الثرثرات الليلية المتراكمة تشكيل معرفة أكثر وضوحا عن شخصيات العوامة، وكان المياه الجارية تحتها تجلو وجوه الشخصيات وتطهرها من همومها وأوساخها. وان وجود النيل – هنا – علامة على حتمية التجدد والشفافية التي يهرب منها انيس (وزير شؤون الكيف) وأصحابه، ولعل حادثة مقتل الرجل المجهول جعلتهم ينتبهون – ولو نسبيا- إلى خطورة الجمود الذي يعيشونه في العوامة على سطح نهر جار كثيرا ما يجرف العوامات التي تفقد حبالها الرابطة لها بالأرض/ الواقع.
3-2/ العوامة:
لغة: العوام هو الماهر في السباحة، والعوامة اسطوانة من خشب البلوط تعوم على ماء النهر لقياس سرعته وحساب صبيبه، وهي في واقع الرواية: عبارة عن بيت من خشب يطفو فوق الماء، مشدود بحبال إلى الأرض. إنها بيت عائم. وتعتبر هي المكان الرئيس الذي تدور فيه أهم أحداث الرواية وثرثرتها، باستثناء أحداث عمل أنيس في المكتب، وحادثة السير في شارع الهرم.
ترتبط هذه العوامة بلازمة تتكرر، بكثافة في الرواية، هي: “اهتزت..”، الدالة على الترنح وعدم الاستقرار، وكذا عن (الإقامة المحدودة غير المستقرة)11، وهي تشكل مكانا حميما تعيش فيه الشخصيات حرية تكاد تكون مطلقة؟ تتجسد هذه الحرية في: تعاطي المخدرات والجنس ثم الثرثرة في محرمات السياسة وباقي هموم الحياة. فهل عوامتنا هذه تقيس، هي بدورها، سرعة وصبيب نهر النيل؟
ا/ الخارج:
يحدد السارد موقع العوامة كالتالي: (استوت فوق مياه النيل الرصاصية مألوفة الهيئة كوجه، بين فراغ في اليمين احتلته عوامة (أخرى) دهراً قبل أن يجرفها التيار ذات يوم، ومصلى إلى اليسار مقام على لسان عريض من الشاطئ مطوق بسور من الطين الجاف ومفروش بحصيرة بالية (…) باب خشبي ابيض يمتد إلى جانب سياج من شجيرات البنفسج والياسمين (…) وكوخ (عم عبده) طيني مسقوف بالأخشاب وسعف النخيل (…) والصقالة فوق ممشى مبلط تكتنفه من الناحيتين أرض معشوشبة، يتوسط يمناها حوض من الجرجير، وتقوم في أقصى اليسرى خميلة من اللبالب ترامت كخلفية لشجرة جوفاء فارغة (…) سقيفة من أغصان الكافور منطرحة فوق الحديقة الصغيرة من أشجارها المغروسة في الطريق (…) عتبة الشرفة المطلة على النيل (…) عوامات الشاطئ الآخر في صفها الطويل تحت أغصان الجاز ونيا والاكاميا’…).12.
هذا الوصف الدقيق للفضاء المحيط بالعوامة والملاصق لها يجعلنا نتوقع دورها الأساسي في حياة المترددين عليها، كما يسمح لنا بمقاربتها بأماكن أخرى مناقضة لها، ونستحضر هنا وصف السارد لمكان عمل أنيس (الشخصية الرئيسة في الرواية): “الحجرة الطويلة عالية السقف مخزن كئيب لدخان السجائر. الملفات تنعم بالراحة والموت فوق الأرفف. ويا لها من تسلية ان تلاحظ المضاعف من جديته ومظهره وهو يؤدي عملا تافها، التسجيل في السراكي، الحفظ في الملفات، الصادر والوارد، النمل والصراصير والعنكبوت ورائحة الغبار المتسللة من النوافذ المغلقة”.13.
هذا التقابل بين مكان حميمي (العوامة)، تختاره الشخصيات بمحض إرادتها وتساهم في كلفة كرائه وتنشيطه. ومكان معادي (مكتب العمل)، مكان يكره أنيس على التواجد به ويفقد فيه كرامته (توبيخات المدير). هذان المكانان يتم جمعهما في لحظة تأمل أنيس للغروب المنعش: “لو في الإمكان أن يدعو المدير العام إلى العوامة لضمن لنفسه هدوءا كالغروب ولاستل من قبضته البرنزية أشواكها المؤذية.”14. ان العوامة فضاء الانعتاق من اسر مكان العمل (المكتب).
ب/ الداخل:
يقدم الفضاء الداخلي للعوامة من خلال أثاثه وألوانه: “المائدة الصغيرة الملصقة بالجدار الأيمن، مبعدة مترين من الفريجيدير (…) الجدار الخشبي المطلي بغراء سماوي (…) كان يقف وراء البارفان الحاجب للباب الخارجي (…)”. ويصف مجلس الثرثرة بتفاصيله:”صفت السلت على صورة هلال كبير فيما يلي الشرفة. وفي نقطة الوسط من الهلال استوت صينية نحاسية كبيرة، جمعت الجوزة ولوازمها “.15. ثم تتم الإشارة إلى المكتبة: “الكتب المصفوفة فوق الأرفف التي تشغل الجدار الطويل إلى يسار الداخل (…) مكتبة التاريخ منذ العصر الخالي حتى عصر الذرة، مجال خياله (المقصود هو انيس) وكنز أحلامه (…)”16. إنه مكان بسيط، يتجاوز معناه الهندسي (والذي يلعب وظيفة الإيهام بالواقع) إلى معانيه الخفية الحافة به، مكان أليف يتشكل من أثاث مناسب لحاجة الرواد: أدوات الجوزة، أي وسيلة الإبحار في عوالم الهروب، وأدوات المعرفة: الكتب، اذ تمثل الشخصيات شريحة المثقفين (ممثل، صحافية، موظفون، محام، مثقف أزهري النشأة، عاطل، طالبة)، والكتب هي مرجعية الثرثرة، وتأمل الوجود، ولعل هذه الاختيارات المكانية توجه مسار ألحكي وتساعدنا على فهم أبعاد الشخصيات وأزمة انتمائها/ هويتها الوجودية والسياسية، وإذا كان (الخارج) الذي أشرنا إليه يحمل معان متعددة: المكتب معادي، والمحيط القريب حميمي، فالنيل يمثل البعد الخارجي الاستراتيجي للعوامة، فهو الأفق التأملي الذي يفتح خزانات الحلم عند الشخصيات (وخاصة أنيس)، وعبر هذا الأفق تتطهر الشخصيات من درنها/ همومها وإحباطاتها؟
وهذا “الخارج” يتحول – كما أشرنا – إلى “تحت “، أي: أساس تقوم عليه العوامة، وهو “تحت” متحرك (وتهتز العوامة)، وجريانه يتعالق مع بعده كأفق مفتوح: تحقق التجدد/ الطهارة بواسطة الماء البارد والأفقي المتدفق.
إن الماء، هنا، عنصر شعري فائق الأهمية: فالنيل نهر، والعوامة تقوم على الماء، والمبخرة (كما سنرى لاحقا) تتجدد بواسطة الماء (يسخن ماؤها فيفسد ويجدده عم عبده بماء بارد).
3-3/ المجمرة:
يمكن الحديث، في الثرثرة، عن دوائر مكانية:
– الدائرة الأولى: تمثل مصر (المكان الإطار)
– الدائرة الثانية: تمثل القاهرة (وتسمى أيضاً عند المصريين بمصر المحروسة).
الدائرة الثالثة: العوامة (المكان البؤرة المحتكر لأهم الأحداث).
الدائرة الرابعة: المجمرة (بؤرة البؤرة لأنها نواة تختزل جوهر الحكي).
وتخترق الدوائر الثلاث الأولى، بشكل مباشر والدائرة الرابعة بشكل غير مباشر، بنهر النيل/ الماء الجاري، الذي يرتبط بتجديد ماء الجوزة عندما تفسده نار المجمرة.
هذه الدوائر دالة في معناها العام على الانغلاق، لكنها تفقد هذا الانغلاق من خلال الاختراق الذي يقوم به النيل، المفتوح على الماضي والحاضر والمستقبل، انه يتماهى مع التاريخ يستحضر أنيس شخصيات تاريخية: فرعونية وفاطمية ومعاصرة…
أما المجمرة (ومذكرها: مجمر) فهي ما يوضع فيه الجمر مع البخور (ج: مجامر)، ومن هنا يأتي معنى الاحتراق، والذي نستحضر من خلاله أجواء السحر، ودخان مصباح علاء الدين.. والقوى الخارقة، إلا أن احتراق (حجر الحشيش) بدل البخور، في مجمرة العوامة، تتولد عنه أجواء من الاستيهام وحالات من الهذيان الساخر الذي تسعى من خلاله الشخصيات إلى قهر واقعها المزري، بالتهكم عليه، مستعينة بالقوى الخارقة التي يمنحها احتراق الحشيش، وهو يتصفى عبر الجوزة ومائها، وصولا إلى الأمخاخ ليتحقق (السطل).. أو الدوخة الكبرى. تتخذ هذه الدوخة شكلا شاعريا عند انيس من خلال انفلاتا ته التأملية وغطسه لشظايا التاريخ في دخان الحشيش وتصويره لازمة الانتماء الحادة في لاوعيه، إذ يعمل الحشيش على تكسير جدران الحدود بين الوعي البئيس واللاوعي المتمرد والحالم.
ومن معاني (المجمرة): من ذنب العقرب 16، فهل هذا معناه ان احتراق المجمرة هو بمثابة لدغات سامة تصيب أدمغة الشخصيات في العوامة؟ وهل اختيار هذه الشخصيات للإدمان على المخدرات هو بمثابة تسمم لهويتها الفاقدة للملامح؟ وهل المجمرة مصدر سموم تفسخ وجود الشخصيات الهاربة من واقعها نحو عوالم وهمية حائرة؟
* النار والماء:
في مقطع سردي أنيق 17، نقترب من صورة المجمرة: “حمل أنيس المجمرة إلى عتبة الشرفة بعد ان زودها بقطع من الفحم. تعرضت هناك لتيار الهواء وراح ينتظر واتسعت المراكز المحترقة في شتى القطع حتى استحال سواد الفحم حمرة متوهجة هشة عميقة ناعمة واندلعت عشرات من الألسنة الصغيرة الموسومة بالشفق، فانتشرت، ثم تلاقت أجنحتها مكونة موجة راقصة نقية شفافة مكللة الأطراف بزرقة خيالية، ثم ازت فتطايرت من جوفها سرب من عناقيد الشرر (…) أعاد المجمرة إلى مكانها واعترف فيما بينه وبين نفسه بإعجابه غير المحدد بالنار. إنها جمل من الورد والأعشاب والفجر البنفسجي، فكيف أمكن ان تطوي بين جوانحها أكبر قوة مدمرة؟”.
تقدم النار، هنا، بوعي مائي ومعجم مائي (موجة، نقية، زرقة، شفافة)، وهي تتفاعل مع الجو الليلي (الهواء، النسائم المتدفقة من الشرفة). والاحتراق هو تدمير، فماذا تدمر شخوص العوامة؟ هل يدمرون واقعاً يرفضونه؟ ام يدمرون هوية ضبابية؟ فبفعل المخدرات وتأثيرها السحري تتضخم معالم السخرية ويتم الإعلان عن: (إن الدنيا لا تهمنا كما أننا لا نهم الدنيا في شيء.)18.
ولكن لعبة الاحتراق تتوقف عندما تفسد النار الماء، ماء الجوزة (وقد أشرنا سابقاً إلى أن تالف الماء مع النار يفقده قدسيته)، فيأخذ عم عبده (الجوزة ليغير ماءها)19، لتستمر لعبة الاحتراق.. وان الماء هنا، ومرة أخرى، يتدخل كعنصر أساسي لتفسير عمق الدلالات، إنه عنصر التجديد وعنصر الإخصاب (ولادة الحكي/ الثرثرة)، بل إن النيل “كسهم” يخترق المكان الدائري (مصر، القاهرة، العوامة) ليحقق الإخصاب والولادة (ولادة التجربة الجماعية لشخصيات العوامة)، هذه الولادة غير طبيعية (الاحتراق/ الهذيان)، لكنها مشدودة إلى أفق مائي إيجابي: “ويوماً ستحمل لنا مياه النيل شيئاً جديداً يستحسن ألا نسميه” 20، فهل حققت “الثرثرة” هذا الأفق؟
يقول الراحل غالي شكري بأنها رواية التنبؤ بالهزيمة … ألهذا قالت الرواية: “يستحسن ألا نسميه”؟ أم أن هذا علامة على نزعة انتظارية عبرت عنها شريحة مثقفة خلال مرحلة (كانت الدولة مشغولة بالبناء، وكانت تلك الشريحة مشغولة بالمخدرات والجنس ” كما ذكر في الرواية بسخرية مرة؟
إن تعالق الماء والنار والخشب (العوامة) يخلق مزيجاً غريباً من العناصر الموحية إلى أكثر من دلالة: ان الخشب محمول بالماء ومهدد به، وهو مهدد بالنار وداخله تتحقق متعة الاحتراق/ الإحراق. والنار تفسد الماء، في حين هو يجددها؟ ويطفئها، والشخصيات، داخل هذا المثلث، ترسم ملامح وجودها المعاق الذي سينتهي بخرجة بعيداً عن العوامة، سرعان ما ستكون سبباً في اضطراب العلاقة بين عناصر الشلة، لكنه تغير مفتوح على كل الاحتمالات: فمياه النيل تظل مواظبة على الجريان بوجود العوامات أو عدمه.. بوجود المجمرة أو انطفائها، بالنهار والليل، انه النيل صانع الحكي في هذه “الثرثرة” المفيدة.
= = = = =
الهوامش
* رواية (ثرثرة فوق النيل)، نجيب محفوظ، الأعمال الكاملة، المكتبة العلمية الجديدة، الجزء 7، بدون تاريخ، ص413/ 580.
1) مفهوم المكان في القصيدة العربية، د اعتاب بالخير، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع: 114/ 115، سنة:2000، ص: 134.
2) دلالات المكان في روايات إميل حبيبي، عبد الجليل لعميري، مجلة المدى، ع: 13، 1996،ص.ص:39/ 40.
3) نجيب محفوظ وعشر سنوات من نوبل، د. محمد الرميحي، مجلة العربي، ع: 478،سنة 1998،ص.ص:18/ 27.
4) نفسه، ص: 20.
5) نفسه، ص: 20.
6) المنتمي: دراسة في أدب نجيب محفوظ، غالي شكري، منشورات دار الافاق الجديدة، بيروت، ط:3، 1982،ص: 422 (بتصرف).
7) نفسه، ص:423.
8) نفسه،ص:425.
9) رواية “ثرثرة فوق النيل “، نفس المعطيات، ص: 425.
10) شاعرية الماء والحياة النفسية: بحث في رموز الخيال، من المياه المقدسة إلى المياه المبتذلة، زهير منصافي، مجلة الفكر العربي، ع: 82،سنة 1995، ص: 140 وما بعدها.
11) المنتمي، نفس المعطيات السابقة، ص: 421.
12) رواية (ثرثرة فوق النيل)، نفس المعطيات السابقة، ص: 417.
13) نفسه، ص: 413.
14) نفسه، ص:439.
15) نفسه،ص:420.
16) لاروس: المعجم العربي الحديث، ص: 1072، ط: 1987.
17) نفسه، ص: 445.
18) الثرثرة، ص: 426.
19) الثرثرة، ص: 426.
20) الثرثرة، ص:434.
= = = = =
مراجع تمت الاستفادة منها:
سيزا قاسم، بناء الرواية،ط:1، دار التنوير، بيروت، 1985.
غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت،ط:2، 1984.
حسن بحراوي، بنية الشكل الروائي، المركز الثقافي العربي/ بيروت- البيضاء، ط:1، 1990.
lotman(youri)/ la structure du texte artistique,tra.pae anna fournier
et autres, paris, ed. gallimard, 1973.
weisgerber(jean), l’espace romansque, lausane, ed. l’age d’hmmes,1978.
littérature(revue), espaces et chemins, n° 65/ 1987