الدنيا ربيع


*سما حسن


عندما كان يطل علينا وجه سندريلا الشاشة، سعاد حسني، بابتسامتها المتألقة وفستانها الأحمر القصير، من بين الورود والأزهار، كنا نحسبها وردةً تتحرّك وتغني، لتوقظنا بعد سباتٍ شتويٍ طويل، لأن “الدنيا ربيع”، فنستعد لاستقبال إجازة مدرسية قصيرة، لم تكن تزيد عن العشرة أيام، تبدأ من أواخر مارس حتى الأسبوع الأول من شهر أبريل، وكنا نعتقد، نحن التلاميذ الصغار في ثمانينيات القرن الماضي، أن هذه الإجازة الممنوحة لنا، لكي نحتفل بربيع بلادنا، وننطلق إلى طبيعتها الساحرة. ولكن، حين كبرنا قليلاً، وبدأنا نعرف معنى الوطن المسلوب، اكتشفنا أن هذه الإجازة الاستثنائية التي تقرّرها الإدارة المدنية الإسرائيلية في غزة إنما هي لمنعنا من التظاهرات الطلابية التي كان الاحتلال يخشى من تنظيمها في ذكرى يوم الأرض من كل عام، والذي يتزامن حلوله مع بداية أيامٍ ربيعيةٍ جميلةٍ. 
ولأن الأرض تعرف أصحابها، جاءت مبادرة الاحتلال إلى مصادرة أراضٍ من فلسطينيي الداخل الفلسطيني، كما يطلق عليهم، في توقيت ربيعي بامتياز، هو الثلاثين من آذار، لكي يكون جرح الفلسطيني أعمق، وحرصه على التمسك بأرضه الكثيرة الخيرات أقوى، فعرب فلسطين هم بطبعهم شعب مزارع، قبل قيام ما تعرف بدولة إسرائيل، حيث إن 75% من مجمل السكان كانوا يعتاشون على الزراعة، وقد سقط منهم شهداء وجرحى، دفاعاً عن الأرض المصادرة، وهذه الاحتجاجات التي قام بها عرب فلسطين الذين لم يهاجروا من قراهم ومدنهم إبّان النكبة تعتبر حدثاً محورياً في قضية الصراع على الأرض، لأنهم خرجوا، أول مرة، منذ النكبة، احتجاجاً على مصادرة آلاف الدونمات منهم، ولتبقى ذكرى ذلك اليوم في العام 1976، هو اليوم الوحيد الذي يحتج فيه الفلسطينيون على ممارسات إسرائيل بإجماع وطني فلسطيني في فلسطين والشتات.

خدعنا فعلاً بتلك الإجازة المدرسية المدبّرة، والتي استوعبنا الهدف منها، حين أصبحنا نرى تجمعاتِ أطفالٍ وشبابٍ في طرقات المخيمات وأزقتها، يرشقون الجنود بالحجارة، ويشعلون إطارات السيارات في ذلك اليوم، فشارك التلاميذ المجازون في المظاهرات، وخديعتنا تلك كخديعة السندريلا في فيلمها الرائع “خلي بالك من زوزو”، لأنها حين غنت أغنيتها الخالدة التي ما زلنا نسمعها في كل مكان، مع بداية فصل الربيع، كانت تغني بمصداقيةٍ واقتناعٍ، أن جمال الطبيعة وولادة حياة جديدة للأرض كفيلان أن يغيرا نفوس البشر، فيملآنها بالخير والتسامح والسلام، وصدمت بخطأ اعتقادها، فخفتها ورقتها وتفوقها بين زملائها في الجامعة، وفرقة الفنون الشعبية، أيضاً لم يصمدوا أمام تقاليد راسخة، لأنها ابنة راقصة في الأفراح الشعبية، وتعيش في شارع محمد علي الشهير، فطعنوها في شرفها حين اكتشفوا أصلها.

 وخدعت الشعوب العربية بعد “الربيع العربي”، وقد اعتقدت الشعوب التي تعاني من ظروفٍ تزداد سوءاً على الصعد كافة أن الحراك الشعبي في بعض البلاد الذي رفع شعار”الشعب يريد إسقاط النظام” سيأتي بنتائج تحسّن من أوضاعه، لكن شعارات زائفة وأيدٍ خفية قلبت الأحوال ظلمة وظلاماً. وخدعت حين خرجت مع أولادي إلى حديقة الحيوان في غزة قبل سنوات، والتقيت بتلاميذ رحلةٍ مدرسيةٍ، فبعد إلغاء إجازة الربيع، اعتبرت المدارس بداية فصل الربيع إشارة بدء انطلاق الرحلات المدرسية وتنظيمها، لتعريف الطلاب على الطبيعة الفلسطينية، وتحبيبهم بثرى الأرض الطيبة. فذهب ربيع غزي جميل، وبقيت منه ذكرى وحيدة، نغّصت كدر ذلك اليوم الربيعي، حيث كنا نستمتع بمشاهدة أنواعٍ من الحمام البري النادر الذي تم تهريبه للحديقة، عبر الأنفاق، من مصر إلى غزة.

وحين خرجنا من الحديقة، فوجئنا بأحد الفتية يدسُّ زوجاً من الحمام في حذائه طويل العنق، بعد أن نتف ريشه، حيث استطاع سرقته خلسةً عن حراس الحديقة. وعندما أصبح خارج الحديقة، وقف يتباهى أمام المارّة أنه تمكّن من الإمساك بزوج الحمام، على الرغم من الحراسة المشددة، تأكدت يومها أن كل ربيع في الأرض يموت، لأننا لا نسقيه من نقاء أرواحنا. 

_____
*العربي الجديد

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *