*جيمز كامبيل /ترجمة : خضير اللامي
خاص ( ثقافات )
“إنني أخشى أنْ لا أصلح لأيَّ شيء بعد هذه الحرب ياغي..” كتب ارنست همنغوي في رسالة إلى والديه في أيلول / سبتمبر 1918. حينما كان يتعافى في فندق الباين في مدينة ليك ماغيوري ، بعد منحه المغادرة من المستشفى العسكري ، وكان يعاني من “صدمات كهربائية ” لمعالجة الجروح البليغة في ساقيه ” كل ما أعانيه الآن هو الحرب .” واستطرد الشاب الذي يبلغ التاسعة عشرة من عمره ” كل شيء يبدو لي كحلم .”
ربما كل مظاهرالحالة تتحوَّل إلى نهاية مؤلمة لحياة شاب كان يدرك أنَه أنجز عملا شجاعا ، أنَّ محنته تحت لهب النار قد انتهت ، وكان في حالة مخاض عنيف للدخول في صفقة رومانطيقية ، ومن وجهة نظر الدكتور كلارنس همنغوي وزوجته غراس اللذين كانا يملكان خمسة اطفال للعناية بهم ، أنَّ آثار تلك الحرب ستكون خلاصة تجربة الابن الأكبر التي ستبدو مبالغة سخيفة ، سرعان ما تكون مضحكة . إذ قضَى شهرا كاملا في الجبهة مساعدا طبيا ، وليس جنديا .
فالتنبؤ أنَّ تلك الحرب هي كل ما يعانيه ، كانت أقل طيشا مما بدت في ذلك الوقت . وعلى كل حال ، فقد مات همنغوي قبل خمسين سنة ، أطلق رصاصة في رأسه في الصباح المبكر في الثاني من شهر تموز / 1961 ، وفي المنزل الذي كان يعيش فيه مع زوجته الرابعة ، ميري ويلش ، في كاتشوم إيداهو .
في السنوات العشر الأخيرة من زواجه ، التي ابتدأت عام 1946، والتي اتسمت بالإهانة ، والارتياب ، والعنف الشديد، ” مضى أكثر من سنة وهو يستخدم الضرب ضدي فعلا ” أخبرت ميري ناشر زوجها ، جارلس سكربنر ، عام 1950. وفي أحد الممرات لصحيفتها في تشرين أول /اكتوبر عام 1951 ، قالت : تبعني ارنست إلى الحمام وبصق في وجهي ” والمعلومات التي أعقبت ذلك كانت تقريبا مروعة: إذ في اليوم التالي منحني 200 دولار”.
بين بطل الحرب الفتى وتأملاته الكبيرة ، مرّ بثلاثة زواجات فاشلة ، ثمرتها طفلان عابثان ، وخمس حوادث دهس ، وتحطم طيارتين ( في أيام متعاقبة ) ، وإطلاق رصاصات انتحار ذاتي ، ( إحداها قدرية ) ، ورحلة قنص قاتلة ، وحفلات دورية ، وثروة غير مستقرة ، ونموذج خاص لنجاح أدبي بدا ذلك ، في عينيه ، و نوبات من “الفشل “.
إنَّ العنوان الفرعي لمقالة بول هندركسون زورق همنغوي يحدد فترات بلاغة المعركة بدرجة كافية ، رغم إنَه ليس ثمة أكثر من عنوان المجموعة القصصية الأخيرة لهمنغوي ، التي صدرت عام 1933، حينما كان في الرابعة والثلاثين من عمره ، ربما إنها الوحيدة التي ما زالت – تماما – تلفت النظر لحداثتها التجريبية عبر عشر سنوات انتاجية : الرابح لا يخسر شيئا، Winner takes Nothing ..
ويغطي الجزء الأول من رسائل همنغوي : 1907-1922 ، سنوات مستقبل طفولة الكاتب ، وأيَام دراسته ، وبداياته الصحفية الأولى في صحيفة ستي كنساس ستار وبعد ذلك في صحيفة تورنتو ستار ، فضلا عن مخاطراته على الجبهة الايطالية . سافر همنغوي إلى اوربا ليعمل مع الصليب الأحمر الأمريكي في عام 1918، ثم أوفد إلى فوسالتا ، على نهر بياف تماما شمال فينا ، حيث مشهد الحرب الكثيف . وفي ليلة الثامن من تموز/ تطوع للعمل لسحب عربة الأدوات الاحتياطية المتنقلة وتسليمها إلى الجنود الايطاليين لصد الهجوم النمساوي – الهنغاري ، وفي تلك الغضون انفجرت عليه شظايا حرب قاتلة بالقرب من الخندق الذي كان يحفر فيه . وكبَدته أكثر من 200 جرح في ساقيه وأنفق خمسة أشهر إمَا في مستشفى أو في مركز إنعاش . وهناك وقع في حب ممرضته ، التي تكبره سبع سنوات ، والتي تصنعت الوقوع في حبه ، بينما هي في الواقع متعلقة بحب رجل أكبر منها في وطنها، الذي كانت تسميه ” بابا ” وتسمي ( همنغوي طفلا kid) ، وفي الوقت ذاته كانت تعرض نفسها على ضابط أرستقراطي إيطالي قرب القاعدة . ويبدو أنَ شظايا المريض هزَت سعادته وراح يكتب بنوبات من الجذل إلى شقيقاته واصدقائه عن أغنس فو كوروس التي تحولت إلى شخصية رئيسية في الإسطورة . ولكن يبدو أنَ حبه لها كان رقيقا كرقتها له . وفي كانون الثاني / 1918 ، كان يخطط للزواج ؛ ولكن ، في آذار/ 1919 تسلَم منها رسالة عنوانها ” عزيزي آرني ” وكانت كسيرة القلب ؛ وفي منتصف نيسان / ابريل كان ” رجلا حرا ” أحرق رسالتها وانغمر في الشرب ومعاشرة النساء الأخريات، وعاش الضياع ” . و على كل حال ، كانت تريد مساعدته في مشفاه بطريقة أخرى . وبالرغم من إنّ إسم الممرضة فون كوروسكي يوحي أَّنها أمريكية ، ولكن سرعان ما نكتت به ورجعت إلى أصلها الإيطالي – وترجم همنغوي حبَه إلى ” حلم ” عالم الرواية ، كشخصية كاثرين بيركلي في الرواية الثانية له ، وداعا للسلاح ، التي تنتهي حياتها بمخاضها .
ومن المبالغ فيه أن نقول إنَّ كل ما عاناه الآن كان عملا روائيا ، بيد أنَّ هذه الرسائل تثبت عادة جدية ابتداع الأشياء في الحياة..” فثمة تعامل كبير لتعزيز الذات – ” فالكاتب دائما ما يعزز ذاته . ولا أحد غيره سيعزز تلك الذات ” . ويعزز ابداعه الذاتي أيضا. في عودته إلى وطنه في شيكاغو ، استقبله الناس وعائلته بحفاوة الأبطال ، إذ كان يرتدي الزي العسكري الذي لم يكن من سمات همنغوي ، مثل حزام سام براون الذي يظهر مسدولا على كتفه الأيمن في الصور ؛ وصورة غلاف ” رسائل ارنست همنغوي ” وشارة الجيش الامريكي التي لم تصنف رتبته ، مرئية في أعلى كتفيه ، بينما اختفت شارة الصليب الأحمر, وتذكرت أغنس أخيرا ، كيف أن الجنود الأمريكان في إيطاليا ” يٌضحكون رؤوساءهم عليه . كانوا يعتقدون أنه أكبر نكتة . فقد يجيء بعكازته ماشيا، كما تعرف ، محملا بأنواطه الحربية ، وكان الجنود المشاة الاميركان ، يصخبون فقط ” . ورسائلها له ، نشرت في ( همنغوي حب وحرب : مذكرات أغنس فون كوروسكي المفقودة ، 1989) تتصدرها عبارة ” عزيزي السيد العجوز ” إلى ” العسل ” إلى ” الطفل ” . في غضون شهر . وفي رسالتها “ايرني عزيزي الصبي ” رسالة 7اذار / مارس 1919، قالت إنَها تعتقد أنَ علاقتها معه ، ” أنَها أمَ أكثر منها حبيبة ” وأخيرا أتلفت رسائل همنغوي اليها ، بناء على التماس عشيقها الإيطالي .
وثمة إبداع واضح آخر. قصة لافتة للنظر ، في الجزء الأول من هذا المشروع الذي من المتوقع أنَه يستقيم ” أكثر من مجموعة من الأجزاء ” يعرض تفسيرا للحقيقة البديهية هو أنَّ الحرب زودت همنغوي بمواضيع للرواية . سماتها نسيج حكايات شؤون حب الآخر ، وقيام ماي مارش بدور تمثيل فلم العهد الصامت الذي كتبه في مايس 1918 في كنساس ، حينما كان يعمل في صحيفة نجم كنساس ، وقد أخبر صديقه ديك ولسون : ” هذه الرواية ليست للطبع ، لكنني كنت هناك لرؤية مي عدة مرات وسأذهب غدا لتناول العشاء معها …. قالت السيدة مارش مي دون مزاح إنَها تحبني ” هل هذه نكتة ؟ لا تبدو كذلك . وقبل ثلاثة أشهر ، أعلم شقيقته مارسلين أنَ السيدة مي مارش لم ” تكن جيدة في التمثيل كما هي في الحياة الواقعية ” . وهناك سبب واحد هو أنَ مي كانت تتردد ، قال همنغوي ، هل كان دور أرملة الحرب لا يروق لها ، قالت الآنسة ،ام ، ام إنها ستنتظرني ” . وثمة حاشية تقول ، إنَ مي مارش معروفة بمظهرها في مولد الأمة (1915) . وحينما سئلت بعد سنوات إن كانت التقت همنغوي ، أجابت ، كلا ، ولكن ارغب في رؤيته” .
يفضل همنغوي التناول الواقعي في العمل الإبداعي ، بعد مساهمته في الحرب وانعكاساتها النفسية عليه ( وردت هذه الملاحظة في الغلاف الأخير في طبعة بنجوين لعام 1956، لكتاب ” نساء بلا رجال ” التي تقول : إنه أخيرا ، جندي في الجبهة الإيطالية … ” وفي الثامنة عشرة كان يود الإلتحاق في الجيش الأمريكي ، ولكنه كان يخشى عدم موافقتهما. وعلى كل حال ، وطبقا لروبرت تروغدون أحد محرري الرسائل ” ان قصر النظر جعله من غير المحتمل تجنيده ” . وبدلا من ذلك ، أخذ بنصيحة زميله الصحفي في صحيفة كنساس ستي ستار، تيد برومباك للتطوع في منظمة الصليب الأحمر وأخبر ذويه بعد أن التحق فعلا ، وموقعه الأخير كمجنَد يثير السخرية ، ولكنه أبدى شجاعة نادرة تحت مرمى النار ، وحصل على اثرها على نوط شجاعة . ” ويمكنكما ان تفتخرا جدا باعمال ولدكما ” كتب برومباك إلى أبويه كليرانس وادليدا بعد اسبوع من هذه المسألة.
وحوالي منتصف الليل في اليوم السابع من التحاق همنغوي قصفت مدفعية الهاون خندقا على مسافة أقدام قليلة عن ارنست بينما كان يوزع الحلوى . وطرحته شدة الانفجار مغميا عليه ودفن تحت الأنقاض . وكان ثمة جندي إيطالي بينه وبين الشظايا المتساقطة . وقُتل في الحال بينما نهض همنغوي على بعد أقدام عدّة منه ، وأُصيب بساقيه . وجرح إيطالي آخر جرحا بليغا كما ارنست . وبعد أن استعاد وعيه ، حمله ارنست على ظهره لأقرب مقر اسعافات أوليَة . ويقول ، إنَه لا يتذكر كيف وصل إلى هناك ولا كيف حمل ذلك الرجل حتى اليوم التالي حينما أخبره ضابط إيطالي عن كل شيء وقال ، إنَ هذا الفعل يستحق التكريم بشجاعة .
أخبر همنغوي والديه أنه كان ” أول أمريكي يُجرح في إيطاليا ” . وكانت هذه المعلومة تستحق التعليق : ” في الحقيقة ، إنَ ارنست همنغوي لم يكن أول امريكي يصاب في إيطاليا ، ولكنه أول مجنَد يبقى على قيد الحياة بعد إصابته ” . إذ قُتل أحد زملائه من ARC قبل شهر بينما كان يقوم بنفس المهمات .
وموضوع التكريم التذكاري الرئيسي كان مناسبا جدا لرجل قضى أسابيع قليلة في الواجب ولكنه أمضى أكثر فترة تحت رعاية الطبيب ، ليس لأنَه كان يحارب ولكن لأنَه تعرَض إلى صدمة . ذلك أنَ الحرب وضعت لمساتها الحادة على بعض أفضل قصصه كمصدر من سعير أولي ” النهر ذو القلبين الكبيرين “من الأرق المزمن والهستيريا التامة في التعبير (” الطريقة التي لن تكون فيها ” ) كتبت هذه القصص الثلاث في غضون ثمان أو تسع سنوات ، فصفات نك آدمز الذي لا يتبناه همنغوي أحيانا دون تبرير ك ” أنا ” أخرى للمؤلف . إننا نعد نك آدمز فتى صغيرا، في” المخيم الهندي ” الذي لا يتبناه همنغوي ، قصة منتقاة بعناية تتألف من 2000 كلمة التي تكون مفتوحة في قصة ” في عصرنا ” 1925. وابن طبيب ( مثل همنغوي ) نك آدمز يكون شاهدالمخاض وانتحار في تعاقب سريع .
” لماذا قتل نفسه ، يا بابا”
” لا أعرف ، نك ، أظن ، أنه لم يحتمل الاشياء .”
” هل كثير من الرجال يقتلون أنفسهم ، يا بابا ؟”
” ليس كثيرا ، يا نك .”
” وكثيرا من النساء ؟”
” من النادر جدا .”
( ليس همنغوي وحده قد انتحر ، بل ، والده ، وشقيقه ليسيتر واخته اورسولا انتحروا ايضا .) وفي ذلك الوقت ، وقت طبع كتاب” المخيم الهندي ” ، في نصه الأصلي لدى دار نشر ماكس فورد ماكس وبعد ذك ضمَه إلى أول كتاب طويل له، وفي السادسة والعشرين من عمره كان همنغوي متمكنا من اسلوبه ، مدركا أنَ تشذيب الفائض من حكاية ، وحوار ، وحوادث دراماتيكية ، مثل ، شاهد ، على نك آدمز ، تاركا الإسلوب للقاريء ، وبهذا ينجز أشياء جديدة . ( الجديد كان موضة في باريس 1924 . ) أحيانا يستخدم تكتيكا لتجنب خلق الحقيقة الأساسية المباشرة ، و في الجزء الأول من ” النهر ذو القلبين الكبيرين : ” تقترب القصة الطويلة من ” في عصرنا ” ويجد القاريء أنَ نك يحضر القهوة في نار مخيمه طبقا لطريقة صديقه هوبكنس ، الذي غادر إلى تكساس ليجمع ثروته . “
” القهوة كانت مرّة . ضحك نك ، تجعل من القصة نهاية جيدة . كان يفكر باتجاه العمل . أدرك أنَه كاد أن يختنق لأنَه كان منهكا جدا ،إندلقت القهوة من الإبريق على الأرض واشتعلت النار …
ماالذي كان يريد أن يفعله وماذا يدور في رأسه ؟ ففي المشاعر الخفية في هذه القصة ثمة شيء مألوف ، لكن أوائل القراء كان عليهم أن يلمحوا بطرف عيونهم الإشارة الوحيدة لصدمة الحرب ، التي لا يحددها السيناريو حسب ، ولكن الإسلوب الهادف ذاته أيضا . ” إنني أحاول أن أجعل البلد شبيها بسيزان ، Cezanne أخلق من زمن الجحيم مع أنني أحيانا أحصل على القليل من ذلك .” هذا ما كتبه إلى غيرترود شتاين في آب 1924، وربما نجد ذلك في كتاب ( الرسائل المختارة 1917-61، ) التي حررها كارلوس بيكر ( 1981 ) . وسيكون من المفترض أن يظهر في الجزء الثاني لرسائل همنجوي التي ستغطي أيضا أول كتابين له محدودي الطبع : ثلاث قصص وعشر قصائد ( كونتاكت بريس1923) والأقل حدَة ( في عصرنا ) والموجز الأدبي الذي من شأنه أن يحشر بين القصص الطويلة الأكثر حدَة ( في عصرنا ) . فالجزء الحالي من المراسلات ينتهي في ديسمبر1922 ، مع آرنست همنغوي وزوجته هادلي اللذين عاشا في باريس . وكان من بين اصدقائه المقربين فورد ، وشتاين ، وازرا باوند ، ( ” يعتقد باوند أنني شاعر مغرور “) وجيمس جويس . أما مكتبة سلفيا بيش والمكتبة العامة ، وشكسبير وفرقته ، فهم بيته الثاني . ففي الثاني من كانون الثاني / ديسمبر إستقلت هادلي القطار إلى لويزانا لتلتحق بزوجها في رحلة تزلج . وغادرت إلى غير دي ليون ، لتجد أنَ حقيبتها قد سرقت ، وفي داخلها كما يقول المحررون ” كل كتابات السنوات الماضية ، وكانت هادلي تريد أن تفاجيء همنغوي كي يستطيع العمل عليها خلال عطلة الصيف .” وقد دونت المعلومات في كتاب في هذا المجلد المطبوع بأناقة . وعرَف همنغوي نفسه فقدان المطبوع في رسالة إلى باوند في شهر كانون الثاني / ديسمبر التالي . واستمر الزواج اكثر من ثلاث سنوات .
واقتفت رواية ” زورق همنغوي ” آثار الحرب كما انتشرت في الجبهة الداخلية ، وأحيانا يسبك همنغوي صياغته ليستشهد فيها عن جروحه القديمة كعامل تحريض ، إذا لم تكن تبريرا لبعض الأعمال الوحشية الحالية . أطلق على الزورق إسم “بيلر” ، يبلغ طوله 38 قدما ويحتوي على مقصورتين توأمتين ، طلب بناءه همنغوي من مصنع الزوارق بروكلين ويلر عام 1935، وكانت شهرته تهيمن على مثل تلك الصناعة . وحينما كان بيلر جاهزا أبحر فيه إلى كي ويست في فلوريدة ، حيث سجله هناك ، ثم ابحر مسافة 90 ميلا إلى غولف ستريم في كوبا . وكان ينوي تكريس رحلاته لصيد اسماك المارلين ، وأحيانا كان يهدّف بمدفع تومي لصيد السمك الذي يحاول الإستفادة من الصراع . ومرة أخرى ، كانت القصة مدعومة بالإبداع . وتشكل البراعة إحتفاء خاصا بعملية الصيد ، كما تشكل استعراضا يقنَع الصدمة الداخلية . والإبداع الذاتي لهمنغوي يتابعه إبنه الثالث الأصغرالشاب غريغوري ، -المعروف باسم غيغي – الذي كان طيلة حياته مغرما بالملابس . وفي تشرين الثاني / نوفمبر 1952، كتب غريغوري إلى والده :
“حينما جمعت كتاباتك ، يا أبي ، تكون النتيجة كما يلي : إنّه كتب قصصا قصيرة قليلة جدا ، فضلا عن رواية ونهج جديد للواقعية ومن ثم دمر حياة خمسة اشخاص – هادلي ، وبولين ، ومارتي ( غيلهورن ) ، وباتريك ، وربما انا ايضا . ما الذي في رأيك أنَه الأكثر أهمية ، هراء شخصيتك المركزية ، أوالقصص أو الناس ؟
كانت والدة غريغوري ( وباتريك ) هي بولين بيفيفر التي تزوجها همنغوي عام 1926، متخليا عن هادلي وثلاثة أولاد مع جون الابن الأكبر ، وفي عام 1937 ، حينما كان باتريك يبلغ تسع سنوات وغريغوري ست سنوات . هجر بولين لمارثا غيلهورن . أمّا غريغوري الذي كان يكتب بعد يوم واحد من عيد ميلاده الحادي والعشرين ، كما لو أنّه يريد الإنتظار حتى سن التأهيل أطلق على والده صفات ” مدمن ووحش مغتصب ”
” الله يسامحك على ما قمت به من تعاسات . فإذا التقيت بك مرة ثانية ، وبدأت بطلب الشفقة ، لأعمال هراء تدميرية وغير منطقية ضدي ، فإنني سأمرغ رأسك بالأرض وسأمزجه مع السمنت لأصنع منه مرحاضا خارجيا . “
وما يتعلق الأمر ب ” احترام الأبوّة ” فمن النادر أن يشير ابنه إلى أنّه قد مات ، ولكن ارنست فعل ذلك على أية حال ، ربما نتيجة خدمة ضغط الوطن الآخر ” إنتهى الأمر عزيزي ارنست ، إنتهى ..”
وحتى هندريكسون لا يستطيع القول إن كان ” ارنست ” هو تخيلات غريغوري الاخرى ، أو أنَ مجردالنباح يسبب عضة تثير الدهشة. وقبل خمس سنوات من هذا ، شرع همنغوي بكتابة رواية ” جنة عدن ” التي تضمنت لعب دور انحراف جنسي بينه وبين ميري ، عالجه في ضوء غطاء روائي ( نشرت بعد وفاته عام 1986 ) تمثَل في شخصيتي الرواية ، مثل ديفيد وكاثرين اللتين لم تكونا بعيدتين عن ارنست وكاثرين ، وبعد سنة على تأثره وصبره على غضب غريغوري، كتب في مجلة ميري : ” هي تحبني كي تكون فتياتها [ كذا… ] ، واحببتها لتكون فتاتي “
والتركيز على غضب غريغوري الراهن كان مجرد حادثة ثانوية وقعت في الثلاثين من أيلول / سبتمر في السنة السابقة ، بيد أنّها تحّولت إلى حادثىة رئيسة بعد أربع وعشرين ساعة . بعد سماعه أنُ غريغوري كان قد أُتهم بإثارته فوضى بعد دخوله إلى قاعة سينما في لوس انجلز مرتديا ملابس نساء ، وسارعت بولين بالمجيء من سان فرانسسكو لحضور المحاكمة في الأول من تشرين أول / اكتوبر . وفي لحظة هبوط الطائرة وبدء مرافعات المحكمة ، قد عانت من تمزق الأوعية الدموية مما سببت لها صدمة غير مشخصة ، وماتت على سرير المستشفى . ورسالة “ارنست ” إلى هندريكسون تشيد به لإختبار رؤوف ومكثف لتاريخ غريغوري . وفي عام 1995 ( يقصد الكاتب 1959، لان همنغوي توفي عام 1961 .. المترجم ) قام طبيب مؤهل ووالد لخمسة أطفال أنجبتهم ثلاث زيجات خضع أحدهم وهو غريغوري إلى عملية جراحية لتغيير الجنس ثم تحوَل إلى غلوريا . وفي مذكراته ” بابا همنغوي “( 1976) كتب عن محاولة والده يلومه فيها على وفاة بولين لانحرافه الجنسي ” أعتقد أنّه هو السبب ” .
إنَّ منهج هندريكسون يهدف للوصول إلى مزج دراسة بيوغرافية أو رؤيا ، إنُه حمل رسالة أو صورة فوتوغرافية وبعد ذلك أنعم النظر فيها ومن ثم قدّم مفاتيح ألغازها أمام القايء . كلما تفحصت الصورة جيدا ، كلما رأيت كلا الهمنغويين ( همنغوي الاب وغريغوري الابن .. المترجم ) يتموضعان أمام الكاميرا ” ولكن ، من هو الشخص الثالث الذي يقف خلف كتف باولين ؟ وما ذا تقول هذه القناني نصف الفارغة ؟ إنُه يحب تمشيط الشعر كما في تفاصيل هامش لرسالة إلى همنغوي كتبت في مستشفى في كانون الثاني / 1961: ومن ثم أٌضيف إليها ، في الواقع ، هناك هامش آخر – تستطيع أن تجده في نهاية النص .” هناك مؤلف يستعرض أمواج البحر وبالتالي يستعرض ثقته الرياضية ليتمكُن وحده أن يكتب مثل هذا ، وانجزها هندريكسون بإبتهاج غامر ( هل أنُها جزء من تقطيع النص بحيث لا نجد هامشا لها في نهاية النص في زورق همنغوي؟ فالكتاب قد يفيد من ذلك . فثمة هوامش أستطرادية ، فضلا عن ” مقالة عن المصادر .”) حينما يقوده نهجه هذا ،ليس بعيدا، أنه يصل إلى كرته الكرستالية : أريد أن اصدّق أنُ ذلك الابن الضائع ، الذي قرر أن يفصِّل ملابسه ليستطيع أن يشعر بشهوانية خارج هذا الجو الفاسد ” – إنّه غيغي مرة ثانية ، على عتبة الموت – ” إنّه ينوي تسلق الفنار في تلك الظهيرة في كي بسكيني … وهكذا استطاع أن يرى ، المسافات البعيدة ، والده ، وأمه ، وشقيقيه ….”
وتنتاب هندريكسون مشاعر رفيعة ، يبرهن لنفسه أنه مسكون بفهرسة الكتب . كان يدرس أعمال همنغوي منذ أيامه التي عمل فيها محررا في الواشنطن بوست وكان يستمتع بمعرفة الأولاد الثلاثة ( باتريك هو الولد الوحيد الذي بقي على قيد الحياة ) فضلا عن أي شخص يراه قريبا جدا من همنغوي ليستنشق عطر قطران الزورق . وكانت كي ويست في هافانا هي الارضية لرواية الذي يملك والذي لا يملك شيئا Have and Not Have To، (1937) وهي الرواية التي أدهشت هندريكسون ليقول ، إنها تتضمن مقصورة في باخرة هافانية ، حيث بإمكانه الإستمرار في الشرب لفترات طويلة ، وصيد سمك المارلين (الاوقيانوس – المترجم )، ورشاشات لصيد أسماك القرش ، وكتابة النثر الذي يثير الذكريات والشجون ، كل هذا يجري حول رصيف الميناء حيث إعتاد الزورق بيلر أن يتواجد فيه . ” إنّك تعرف كيف يوجد المتشردون في الصباح الباكر في هافانا الذين ما زالوا نياما قرب جدران البنايات ؛ وحتى قبل وصول العربات التي تحمل مكعبات الثلج للبارات ؟ “
حينما اشترى همنغوي الزورق بيلر، كان يتصنع مشاعر البلادة ، والسلوك المتصلب اللذين يحتقرهما المعلقون على خلفيات الفن الفقير كما الفن المتدني . وباع زورقه ، ووقع عقدا لكتابة سلسلة من المقالات مع دار نشراسكويرالناشئة حديثا . والموضوع – كما هو مع روايته هافانا – لم يعد أكثر من صدمة روحية لا تتجاوز الممر الخارجي للمنزل ؛ وتحول همنغوي بطل الحرب ، وصياد اللعبة الكبيرة، إلى بطل الادب خارج الولايات المتحدة الاميركية . إنّه صاحب القول ، هدف أولا ثم أكتب .
وفي هذا الوقت من السنة الماضية كنا نصطاد سمك المارلين المخطط ونستخرج ثربه من داخله ، لم يكن ثربا كثيرا فيه ، لكنه ثرب في الحقيقة ، إنه نوع من ذلك الثرب الذي نتوقع أن نجده لدى بعض ممثلات السينما إذا كان لديهن ثرب ، أو لدى كثير من الممثلين .
إنّ القذرة تتجسد حاليا في نثر (الفائز لايربح شيئا ، Winner Take Nothing) والولوع بالنكتة طبعت في وقتها . ولم يمض عليها وقت طويل ، ولكنها تبدوالآن لا تقاوم : ” ثمة امرأة كتبت لطبيبها عن زوجها الذي يدرس دورة في الحقن. “إنني لا أعرف كيف تلفظ الكلمة ولكنها تبدو شبيهة بهذه الكلمة ” sifilus ” ” مرض السفلس ، المترجم ” ربما لجهلها بها ، كان ضحكها نصف مكبوت ويثير في الوقت ذاته الذين يتعاطون الضحك على فكرة الثرب الذي لا يحرث داخل الممثلين من الرجال ، بل ، من اختصاص الممثلات ، انها الفكرة التامة لقصة من ثلاث صفحات . وفي الجزء الأول من ” الولاء إلى سويسرا ” فثمة رجل مهذب أمريكي ينتظر في محطة القطار في سنت موريس سألته النادلة :
“ماذا ترغب أن تأكل سيدي ؟.”
قال ، “أنت ” وفي الجزء الثاني من قصة المخاطرالشكلية ، بقي السيناريو كما هو بينما الحوارات تحمَل بعض التغييرات البسيطة :
” ألا تريدين أن تلعبي معي ؟” سأل جونسون . احمرَت النادلة خجلا .
ترسل العناوين إشارة لجس النبض . يبدأ القاريء بقصة تسمى ” أم الملكة ” أو ” المعلاق ، Gambler ” هو المعلاق الذي تعَلق عليه الذبيحة ، المترجم ” والراهبة ، والمذياع .” ومع قليل من التردد . ربما انه ليس من الأفضل أن نعود ونقرأ ” النهر ذوالقلبين الكبيرين ” بدلا منها ؟ إنّ صفاء النثر المبكر ، تحت هذه النظرة ، يبدو مثل الوجه الآخر لعملة نقدية رديئة . ” عزيزي الوالد ” كتب الصبي الذي يبلغ الثانية عشرة من عمره رسالة ربما نُقلت من قبل خادمته العجوز المزدوجة. ” إنني اشعر أنني بحالة أفضل حينما أنجز عملي أحس بمشاعر نقية “
ومن بين أغلب الرسائل اللافتة للنظر في الجزء الأول من رسائل ارنست همنغوي هي الرسائل المبكرة . وأعيد نشرها في الفاكسميل في مقدمة الكتاب . من المفترض أن سبانير وتروغدون شعرا أنها غلفت في أكثر من مظهر من مظاهرمشاعر الكاتب في حجمها الصغير ” أبي العزيز ” ، كتب همنغوي في الثالث والعشرين من تموز ، 1909 قبل يومين من عيد ميلاده العاشر :
” قامت ماما وبقية الأسرة هذا اليوم بنزهة إلى مبنى المدرسة .
وجرينا نحو مبنى المدرسة .
جرت مارسيلن مباشرة .
بينما توقفنا لفترة قرب منزل السيد كلوز ,
وبعد هنيهة عادت .
قالت تحت ظلال خميلة مبنى المدرسة ثمة شبهم . ” هو النيص أو حيوان من القوارض .. المورد ”
وهكذا ذهبنا إلى هناك ونظرنا من خلل الباب ، كان الشبهم نائما .*
ثم ذهبت ووجهت اليه ضربة بالفأس
ثم اثنيت عليه بضربة فاس أخرى .
واستنجدنا بالسيد كلاوز الذي هدّف نحوه بالبندقية .
وفي الأعلى ، وضع الكاتب الطفل عبارة ” اسمع حفيف الصنارات ”
aslleep *.
*هكذا يكتب الطفل همنغوي كلمة ينام asleep كما ترد مثل هذه الكلمات او العبارات الانجليزية في هذا الحوار ..
_______________
21 تشرين الثاني / ديسمبر 2011 .. الملحق الأدبي لصحيفة التايمز، ونشرت في مجلة الاقلام العراقية ..