قراءة نقدية في رواية “سعوديون مبتعثون ” لعودة الحويطي


*سلطان الحويطي


خاص ( ثقافات )
يبدو أن عنوان الرواية مضلل نوعا ما، إذا ما قسناه بالمحتوى العام للعمل فقد اعتمد الكاتب على بناء الرواية بحرفية كبيرة، ليظهر العمل حمّال أوجه فهو إنساني سياسي فلسفي وأيضاً يوثق لفترة مهمة دون أن يذوب فيها، وبذلك تظهر قدرة الكاتب جلية في التغلب على سطوة المكان بالرغم أنه وقع في أول الرواية في هذه الإشكالية مما جعل الجزء الأول ممل بعض الشيء إلا أنه تفادى ذلك في الأجزاء التي تليه،حيث سخّر المكان لما يخدم شخصياته دون ترهل يذكر، فكانت الرواية سلسة متدفقة وكان الكاتب ممسك بكل إحكام بزمام عناصر شخصياته الداخلية والخارجية وهذا ما جعل المكان يظهر بصورة غير مباشرة: الصحراء، وساحل حقل،وسان دييقو، ومدن أمريكا المتلطخة بالثلوج، وفلسطين المغتصبة، وجدة المنفتحة، كل هذه الأماكن تشعر أنها هي من تسكن شخصيات العمل بل وترتديها في بعض الأحيان !! .
ثنائية الرقص والصلاة:
يفاجئنا مقطع البداية الصادم للقارئ فقد استخدم الكاتب ثنائيه “الرقص” و”الصلاة ” ليمسك بتلابيب القارئ وليصل بنا لهدف أعمق تجلى في الفصول الأخيرة من الرواية، وهو التناقض الطارئ على شخصية الفرد العربي في عالم متطرف سواء كان هذا التناقض فلسفي أو فكري أو حتى عقائدي ونرى منير أحد شخصيات العمل الرئيسة وعلاقته المتناقضة بــ “سكارلت الأمريكية” التي قاوم رغبته الجارفة تجاه جسدها المغري وهو يتمثل بانثولوجيا دينية ،وعلاقته مع “أمل الفلسطينية ” التي انجذب إليها ولكنها عادت لفلسطين ربما لتشارك في انتفاضة حيث ملت رقص العرب على مسرح مشاعرها .
رمز المرأة:
أعتقد أن الرواية لا تسلط الضوء على حياه المبتعثين فقط بل على قضية أكبر وأعمق وقد وفق الكاتب في استخدام علاقات “منير” بثلاث نساء و ربط هذه النساء بأماكن لطرح هذه القضية بعيداً عن المباشرة فكل امرأة ترمز لمكان أو هي ذلك المكان بعينه وهذه لعمري حرفية فذة من الكاتب حيث أوجد علاقة بين النساء و الأمكنة بطريقة مبتكرة وفكرة عبقرية .
وهو يصرح بذلك على لسان “غريب ” في تأويل مدهش لبيتي” أبوتمام” الشهيرين :
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى .. ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى .. وحنينه أبدا لأول منزل
حيث يقول “غريب ” ” … فالبيتان مجتمعان يصفان حال الرجل فهو دائما في حاجة ملحة للعودة إلي منزله الأول في المرأة ، رحمها، حيث يجد سكنه وهدوءه هناك يحبها كي يعود إلى رحمها . وشهوة الرجل الدائمة للبقاء بين فخذي المرأة ماهي إلا دافع له ليكون قريبا من منزله الأول “.
لذا نجد أن :
“حنان” الفتاة السعودية المبتعثه ابنة الداعية المعروف ترمز إلى البلد الأم وتمثل السلوكيات المتناقضة التي تحدث هناك والتي تصيب الإنسان بالدهشة.
أما “سكارلت الأمريكية” فهي الرغبة الكامنة داخل الإنسان العربي للوصول إلى العالم الأول والوصول إلى تلك الفتنة ولكنه يخشى منها في نفس الوقت فيفتش هنا وهناك ولا يجد طوقا يتعلق به سوى الدين لينجوا من أمواج التناقض بداخله .
“رأى طيفها أمامه، رأى كاليفورنيا كلها فيها، رأى أنهارها المتدفقة في عينيها ورأى حمرة برتقالها في خديها ولين نخلها في جسدها ورأى شطآنها في ثغرها أما شعرها فرأى فيه شيئا آخر لا ينتمي إلى كاليفورنيا فقد رآه ملتهباً بلون الجحيم”
أما “أمل الفلسطينية” وعلاقة منير بها فهي تشكل علاقة الإنسان العربي بالقضية الفلسطينية
وكانت علاقته بأمل علاقته بالتاريخ والحضارة والهوية.
ويرى أن “السر يكمن في فلسطين” وقد تكررت هذه الجملة على لسان منير كثيراً ليلفت الانتباه إلى أن كل ما يحدث في الوطن العربي هو تداعيات للقضية الفلسطينية.
الواقعية الجديدة:
سعد ابن الصحراء ذا الشارب الأسود الغزير يحمل هو الآخر تناقضية فهو قادم من صحراء جرداء إلى أكثر المدن تقدما في العالم وكأنه قادم من زمن إلى زمن آخر.
” هل أنا أشبه القهوة ؟! لقد طبختني الصحراء أيضا وأنا وهي غرباء الآن في واشنطن، ولكن القهوة التي تطبخ على نار الصحراء لا تستطيع الاحتفاظ بنكهتها في صقيع واشنطن فهل يا ترى سأستطيع أنا ؟!”
يتمنى سعد لو حمل الصحراء معه إلي أمريكا فهو دائم الانشغال بها، لم يفتن بأمريكا رغم مراودتها الدائمة له فقد بقي سعد البدوي الشهم .
أما أبوه الذي لم يسمع صوته سوى مرات قليلة كان دائماً صلباً لا يطيل الكلام ويكتم مشاعره كعادة أبناء الصحراء ويختم الحديث بـ : ” الحي يشوف الحي ياسعد”
ولكن هذا الطود الشامخ كجبل أشم تلفحه رياح الصحراء وتحرقه شمسها دون أن يئن أو ينحني،وفجأة ينفجر بركان المشاعر المتراكمة بداخله ويجثو على ركبتيه ويبكي بحرقه، في مشهد درامي ينتمي للواقعية الجديدة ليضع الكاتب عدة إشارات من خلف حادث الفقد والألم والتلاشي، لاسيما أن النهاية جاءت تحت عنوان:
“عودة الغرباء … للغربة “
والعمل لم يخلُ من عمق فلسفي يعيد النظر للأشياء المسلم بها وأتى ذلك على شكل تساؤلات يطرحها أبطال العمل تهز قناعات القارئ !! ولم يخل أيضا من طرح جريء لقضايا مهمة تمسّ الهوية والدين .
أما عنصر التشويق فقد كان حاضراً وقوياً في الرواية، وكذلك بناء شخصيات العمل والترابط بينها كان متقنا، وإضافة إلى قوة اللغة والحبكة السردية ، كان الأهم من وجه نظري هو براعة الكاتب في الوصف .
وبشكل عام رواية ” سعوديون مبتعثون ” تضيف الكثير والكثير للأدب السعودي .

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *