*يونان سعد
إنها ترجمة غنية ومهمة لواحد من أهم الشعراء الذين مروا على أوروبا وربما في تاريخ العالم. ديوان «الإياب» للشاعر الألماني هاينرش هاينه، ترجمة وتقديم أسامة أبو طالب، من إصدارات المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، في الكويت، سلسلة إبداعات عالمية.
يُفاجأ المرء حينما يقرأ إبداعات هاينه، ابن القرن التاسع عشر، لا فقط بقدرته العالية على التخييل وحسه العالي وإنشاده في أقرب منطقة من الشعور الإنساني، بل أيضاً بهذا الوعي الحداثي بإشكاليات الإنسان وبفكر الشاعر المتحرر إلى أبعد مدى. ومن المؤكد أن هذا الشاعر المتمرد المحب لأقصى درجات العشق للحياة، كان شديد الوعي والثقافة، وإلى جانب خياله الخصب وجذوة مشاعره النشطة هذه – وهما الأساس في خلق أي فن – يحمل عقلاً نقدياً ألمعياً.
في الفصل الثالث من كتاب الناقد الإنكليزي مارثيو أرنولد، الذي أصر المترجم على إرفاقه بمقدمته للديوان، حديث عن هاينه لا يقل قيمة عن شكسبير في الأدب الإنكليزي وسوفوكليس في حضارة اليونان، وربما بالغ في هذا الأمر لكن العبرة على الراوي كما نقول. والأهم من ذلك هو حديثه عن تأثير الواقع الفكري النشط في ألمانيا القرن التاسع عشر على إبداعات هاينه، مدللاً على ذلك بمقارنة لطيفة بين الفرنسيين والألمان، فوضع الألمان في إحدى الكفتين كشعب منتج للأفكار لكنه فاشل في تطبيقها، أما الفرنسيون في الكفة المقابلة فكانوا أقل إبداعاً على مستوى الفكر لكن أكثر نشاطاً وأفضل في التطبيق. والألمان على رغم تعثرهم السياسي بين النظام الملكي والجمهوري وتخبط بلادهم في صراعات من أجل إرساء الحقوق الفردية وحرية تداول الأفكار والتي لم تكن قد طرحت ثمارها بعد كما حدث في فرنسا. ويضيف أن هذا المناخ الخصب هو الذي أنتج إبداعاً خالداً كالذي لشكسبير في إنكلترا أيضاً في وقت من الأوقات قبل أن تتعثر في مرحلة وسيطة من الخمول الفكري، وهو ما أنتج شاعراً مثل هاينه في ألمانيا وفي فترة مغايرة من التاريخ.
لا شك في أن تناول الجمال المجرد وحده هائل الأهمية وقادر على التأثير والتغيير، إلا أن الوعي الشديد بالعالم وامتلاك المبدع قدرة داخلية على اكتشافه من جديد تضيف إلى هذا الجمال أهمية من نوع آخر وتأثيراً أكثر عمقاً وإن كان في منطقة مختلفة عن تلك التي يعمل فيها الجمال المجرد، وحاصل جمع هاتين القدرتين يعني جوازاً لعبور القطعة الفنية عبر التاريخ إلى عصور لاحقة من دون أن تعكره شبهة التخلف والرجعية. وهو ما فعله هاينه بالضبط، وهو أيضاً ما يتضح في قصائده القليلة التي بين أيدينا الآن، وما يجعلنا كقراء قبل كل شيء نتمنى أن تطاول يد الترجمة بقية إبداعه الشعري.
بدأ هاينه مسيرته الأدبية بكتابة «الإياب»، ثم تلاه بمسرحيتين إحداهما هي «المنصور»، وبطلها الخليفة المنصور نفسه، وهذا الشيء ليس غريباً على هاينه الذي هضم الثقافة العربية جيداً، خصوصاً تلك القادمة من الأندلس، وقرأ محيي الدين بن عربي وغيره، وكان له وهو الذي تخلص من عصبيته الدينية والقومية لمصلحة الإنسان في عمومه وشموله أن يدرك كم كانت مهمة تلك الحضارة التي احتضنت بين ضلوعها عدداً من الفنانين والعلماء والمفكرين واستفادت منهم وأفادت البشرية أيضاً، لا بل ويبكي سقوطها في يد حضارة أخرى كانت في هذا الوقت بربرية متخلفة ولم تنتبه لما سقط بين أيديها سوى بعد قرون طويلة. ثم تلي مسرحيته بعدد غير قليل من الدواوين الشعرية التي امتازت بحسه الرومانسي الساخر، وتمرده على الوضع السياسي لبلاده واحتقاره للأفكار العصبية والبائدة التي لم تكن قد عرفت طريقها للزوال بعد.
في هذا الصدد يلفت استخدام هاينة في قصيدته «الإياب» تيمة الخليل أو النديم الذي يرافق الشاعر في ترحاله وبكائه على الأطلال ومحاولاته في التسلي والنسيان. وهذه التيمة كما نعلم موجودة بوفرة في الشعر العربي القديم، وربما تلزمنا نظرة جادة من أحد الباحثين المتخصصين في الآداب القديمة ليفيدنا كقراء ومهتمين قبل كل شيء في ما إذا كانت هذه التيمة لها جذورها في الأدب الغربي أم أن هاينه الخبير بآداب العرب قد اقتبسها اقتباساً واستخدمها في شعره على هذا النحو الجميل والمحير. ربما يفيدنا هذا البحث في توسيع دائرة معرفتنا عن تزاوج الفنون القادمة من حضارات مختلفة وتأثيراتها المتبادلة، وهو أمر لا يمكن نكرانه، أو حتى وضع هذا التشابك في إطار بنيوي يعبر عن وجود منظومة واحدة يعمل بها العقل البشري ويتخيل أيضاً، بصرف النظر عن زمانه ومكانه كما كان يحاول ليفي شتراوس أن يثبت. هذا يتوقف على نتيجة البحث واجتهاد الباحث المرتقب، وربما يكون هذا الطرح قد أُنتج بالفعل، لكن الحصول عليه قد تعذر على الأقل بالنسبة إليّ.
يقول هاينه في ختام رحلته مع خليله (الذي بتعبير مختلف قد يكون آناه الآخر): «شكراً يا صديقي المؤتمن القديم/ أن أضأت لي طريقي/ أريد أن أفارقك الآن/ الآن ستُغمر بالضوء بقية أرجاء العالم».
يضم الديوان الذي بين أيدينا الآن قصيدة طويلة تنقسم إلى ثلاثة وسبعين مقطعاً شعرياً، وبعض القصائد الأخرى مثل «دونا كلارا» و «المنصور»، وقصيدة الديوان الرئيسة هذه من الممكن أن يصنفها البعض فقط باعتبارها تنتمي إلى الحس الرومانسي الذي كان شائعاً في هذا الوقت، لكنها تطالع القارئ وتفاجئه بما هو أكثر من ذلك. وفي رأيي أنها تتاخم عالم الملاحم القديمة وإن لم تدخل فيه، فهي تتخطى بكاء الشاعر على فقده لمحبوبته وسرده لحكايتهما الحزينة في مواقع متناثرة، إلى أسطرة المحبوبة والشاعر ومدينتهما التي هجرها ثم عاد إليها ليكتب هذه المقطوعة الفريدة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ترحال الشاعر بين الهجر والإياب. هنا يتحرك الموتى ويتركون قبورهم ويتنقلون عبر الشوارع وينتظرون أمام أبواب البيوت التي تركوها، وهنا حورية البحر تخرج من الأساطير اليونانية القديمة لكنها لا تتزوج بالإنس ولا هي شرهة للقتل والفتك، لكنها تطمع في أن تواجه البحر الذي يخترقها ببرودته القاسية بأن يضمها حضن أحدهم ولو لبرهة. شرارات الأسطرة هذه التي يطلقها الشاعر في نصه من وقت إلى آخر لا يجمعها خيطٌ درامي واحد يقود إلى ملحمة مترابطة بالمعنى المعروف أو حتى حس بطولي لشخص يرتبط بشخص بعينه، كما هو المعتاد في معظم الملاحم. لكنها تنطلق كالطوائش في بحر من الخيالات الشعرية الصافية، وهي ليست طائشة على أي حال، إذ انتظمت جميعها لتصب في غرض شعري واحد رسمه لهم هاينه وأتمَّه عن جدارة.
وهو في هذا النص الفريد لا يعمد إلى اللوم على القدَر مثلما يتوجه باللوم إلى العالم والناس الذين جعلوه سيئاً إلى هذه الدرجة، فهو يلوم المدينة التي ائتمنها على فتاته فخانته، على الفقر الذي أنتجته المدينة وعلى الساسة وضباط السلاح ورجال الدين الذين جعلوا مدينته على هذا النحو الوحشي. فكما يأخذ بأيدينا إلى عالم السموات الخصب والمملوء بالأساطير والحكايات يهبط بين الحين والآخر ليهمس، «أنظروا هذا هو واقعكم كما هو». وهو أيضاً حين يشطح بالخيال يترجم الواقع أكثر مما هو، فيكشف ما تحت طبقاته المتكلسة المعتمة.
قصيدة أخرى بديعة ومتخطية لإبداعات عصرها تلك التي سمّاها هاينه «دونا كلارا»، حين يدير فيها حواراً عبقرياً بين أميرة وفارس مجهول، هذه الأميرة الجميلة المدللة الولهة بحب رجل نبيل لا تعرفه جيداً، لكنها لا تفتأ أن تختم على الدوام كلمات العشق بكلمات الازدراء لطوائف البشر الأخرى في ثوب من السخرية الخلابة كأن تقول «أحبك يا قمري فأنت لا تشبه المغاربة المقرفين واليهود ذوي الأنوف المدببة»، بينما يخطو هذا الفارس اليهودي العاشق نحوها، وفي كل خطوة نحو المحبوب وفي كل كلمة «عشق» تتساقط الزهور من أعلى وتورد له الأرض والينابيع وتبتسم له حيوانات الغابة.
وربما تحتاج قصيدة عظيمة أخرى كهذه التي منحها اسم «المنصور» على غرار اسم المسرحية لدراسة منفصلة، وبهذه المفارقات الساخرة الملهمة والكاشفة لطبيعة الإنسان والحياة والحب، يأخذنا هاينه على مدار ديوانه هذا، وبحس عالٍ وخيال جامح يعقد الصلح ما بين الجمال والعقل، ما بين الإنسان والعالم.
_______
*الحياة
_______
*الحياة