*ترجمة: ميادة خليل
وجه آخر لسيمون دو بوفوار تكشفه رسائلها عبر الاطلسي الى الكاتب الأميركي نيلسون ألغرن بين عامي 1947 و1964. 304 رسائل جمعتها وحررتها وترجمتها الى الفرنسية في كتاب حمل اسم « Lettres à Nelson Algren» أستاذة الفلسفة سيلفي لي بون دو بوفوار (ابنة دو بوفوار بالتبني والتي نشرت وحررت رسائلها الى سارتر أيضاً، وصدر عن دار نشر غاليمار 1997. شاركت دو بوفوار بتحرير بعض الرسائل. فك شفرة خط سيمون ونيلسون كان من التحديات التي واجهتها سيلفي، بالإضافة الى رفض مدير أعمال نيلسون نشر رسائله في نفس الكتاب. لكن كان على سيلفي قراءة وتحرير وترجمة رسائله (التي تحتفظ بها سيمون) لفهم رسائل سيمون. ذكرت سيلفي في مقدمتها للكتاب أنها قد تخلت عن بعض الأشياء في الرسائل لأنها قد تعيق فهم القارئ لها. الرسائل طالبت بها سيمون دو بوفوار بنفسها بعد موت ألغرن. الرسائل تم شراؤها من قبل جامعة كولومبوس، أوهايو. ضم الكتاب بعض الصور الشخصية والرسائل. تكشف هذه الرسائل بشكل كبير البيئة الثقافية والسياسية في أميركا وأوروبا تلك الفترة، وتلقي الضوء على الاختلاف الثقافي والاجتماعي بين فرنسا وأميركا.
هنا ترجمة لأربع رسائل من الكتاب:
الاربعاء 23 يوليو 1947
حبيبي، لم تصلني رسالة منك عدا رسالتين من الاسبوع الماضي، لهذا أعدت قراءتهما. لا أمانع في أن تقامر. إذا أنجزت عملك في النهار، فلِمَ لا؟ المهم أن تعمل بشكل جيد، لكن عندما تنتهي من عملك وتريد الاسترخاء، عليك أن تفعل ما يحلو لك.
بالنسبة لي أحب الشراب، لكن الشراب ليس أفضل من القمار، وليس أسوأ. حالياً أميل أكثر الى الشراب لأني أفتقدك أكثر مما كنت أتصور. نيلسون، حبيبي، أنت ألطف رجل في كل العالم، من اللطيف أن ترغب في تنظيم كل شيء عندما أزورك مرة أخرى، لكن يبقى هذا مجرد رغبة. إذا كنت على قيد الحياة وتحبني فلا أحتاج الى أي شيء آخر. لا يجب عليك أن تفعل شيئاً مميزاً. إذا استطعت أن تشتري سيارة بعشرة دولارات، سيكون هذا رائعاً، لكن مع الباص والطيارة، فقط مع الباص وبلا طيارة. مع شريحة لحم وقطعة خبز في المطبخ، وحتى مع قطعة خبز فقط وبلا شريحة لحم سوف نكون سعداء جداً؟ أنت تعرفني، أنا لست متطلبة، يمكنني أن أعيش على خبز وبطاطا وحب وماء، لا تهتم.
من المؤكد أني خائفة بعض الشيء، هذا صحيح. بعد ظهر اليوم رأيت فيلم سارتر(1) الذي انتهى الآن، لا بأس به لكن كان من الممكن أن يكون أفضل. لكن ليست هذه هي المشكلة. المشكلة أني تأثرت بقصة الفيلم. القصة عن رجل وامرأة يلتقيان بعد موتهما ويعشقان بعضهما. لأنهما يحبان بعضهما، يمكنهما العودة الى الأرض: إذا نجحا في خلق شعور إنساني حقيقي من هذا الحب، يمكنهما عيش حياة بشرية كاملة، وإذا لم ينجحا، يظلان ميتان. لم ينجحا. قصة مؤثرة وكان عليّ أن أفكر بك وبي. نحن نحب بعضنا من خلال الذكريات والأمل، المسافات والرسائل. هل سوف ننجح في أن نجعل من هذا الحب حباً سعيداً وحياً؟ يجب أن ننجح. أنا مقتنعة بأننا سوف ننجح، لكن لن يكون هذا سهلاً. نيلسون، أنا أحبك، لكن هل أستحق حبك إذا لم أمنحك كل حياتي؟ حاولت أن أوضح لك لماذا لا أستطيع أن أفعل ذلك. هل فهمت؟ هل أنت غاضب؟ سوف لن تغضب أبداً؟ هل ستظل متأكداً من أني أحبك جداً؟ ربما عليّ أن لا أطرح هذه الأسئلة، تؤلمني وأنا أسألها بهذه الصراحة. لكن حتى لا أتمكن من الهروب منها، اسأل نفسي هذه الاسئلة. لا أريد أن أكذب عليك أو أخفي عنك شيء مهما حدث. أظن أني قلقة منذ شهرين لأن واحداً من هذه الاسئلة قد عذّب قلبي: هل من الأفضل أن تقدم جزاً من نفسك دون أن تكون مستعداً لتقديم نفسك كلها؟ هل ممكن أن أحبه وأقول له أني أحبك بينما لا أنوي منحه كل حياتي كما طلب مني؟ هل سيكرهني في يوماً ما؟ نيلسون، حبيبي، سيكون من الأفضل عدم إثارة هذه المشكلة، يمكن أن يكون هذا سهلاً لأنك لم تفعل هذا أبداً، لكنك قلت إننا لن نستطيع أن نكذب على بعضنا أو أن نخفي أشياء عن بعضنا. سوف لن أحتمل لو حدثت بيننا حالة من المرارة، خيبة الامل، والاستياء. لقد فعلت هذا، لقد كتبت هذا. لا يتوجب عليك الإجابة إذا لم ترغب في ذلك، لنتحدث عن الموعد الذي نرى فيه بعضنا من جديد. هل لا زلت تتذكر تلك المرة التي قلت لك فيها أني أحترمك جداً؟ لهذا كتبت هذه الصفحة الأخيرة. لا أعني أنك تطالب بحياتي، أعني هذا فقط: كلانا لا يعرف ماذا سيحدث عندما نلتقي من جديد، الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أني مهما حدث لن أمنحك حياتي كلها، ولهذا أشعر بعدم الارتياح. أوه حبيبي، إنه الجحيم أن نكون بعيدين جداً عن بعضنا ولا نستطيع أن نرى بعضنا عندما نتحدث عن مثل هذه الأشياء المهمة. هل تشعر أني أحاول قول الحقيقة بدافع الحب، أن هناك الكثير من الأمور التي تدل على الحب أكثر من العبارة البسيطة “أنا أحبك”؟ هل تشعر أني أريد كسب حبك بقدر ما أرغب به؟ اقرأ هذا من فضلك مع حبٍّ في قلبك ورأسي على كتفك. علاوة على ذلك، ربما تجد رسالتي سخيفة جداً، لأن ما قلته أنت تعرفه كله من قبل. كان يجب أن أكتب هذا المساء، يجب أن يكون حبنا حقيقة، يجب أن ننجح في لقائنا الجديد. علقت آمالي عليك بقدر ما علقتها أنا على نفسي. بغض النظر عن ما تفكر به، قبّلني بكل قوتك.
* سيمونتك
السبت 11 ديسمبر 1948
عزيزي، لم تصلني منك رسالة هذا الاسبوع، لكني أعرف الآن أن هذا لا يعني بالضرورة أنك تجمدت من البرد أو أُحرقت حياً أو شيئاً من هذا القبيل، لن يجعلني هذا قلقة بعد الآن، لكني أحن الى الوقت الذي أفكر فيه فقط بأنك قد متّ عندما لا تصلني رسالة منك. سلمتُ كتابك الى الناشر، وحسب قوله، وهذا ما أتفق فيه معه، يجب أن تدقق مقدمة رايت(2) للكتاب، سوف ننشر جزءاً من الترجمة في صحيفة Les Temps modernes. أي عنوان اخترت لكتابك الجديد؟ يجب عليك الآن أن تتخذ قراراً بهذا الشأن. انتهى الجزء الأول من كتابي وهو في الطباعة حالياً. أشعر بالراحة الآن رغم أن الجزء الثاني منه مهمة شاقة أيضاً.
يُعقد الاثنين اجتماع ليبرالي – يساري كبير. سيحضره كل الكتّاب المناهضين للشيوعية والديغولية، حتى أن بعضهم من إيطاليا وألمانيا. رايت سيلقي خطاباً وأنا أترجم. روسيه(3) كان يريد أن تكون لي كلمة لكن كامو، ضيق الأفق أحياناً ومغرور بشكل أنثوي الى حد ما، كان غاضباً لأن هناك كثيرين من صحيفة Les Temps modernes يرغبون في إلقاء خطبهم. لهذا امتنعت، وأيضاً ليس لدي شيء لأقوله. لا أحد لديه شيء ليقوله، كما تعرف، أو الجميع يردد الكلام نفسه، لذا ليس مهماً من سيلقي الخطاب. آمل أن ينجح الاجتماع. الاجتماع الأخير لغاري ديفيس حقق نجاحاً كبيراً، كان هناك إثنا عشر ألف شخص وهذا كثير جداً بالنسبة لفرنسا. الناس يرغبون في السلام. الرب منحهم السلام أيضاً.
أتمنى أن تصلني منك رسالة بسرعة، أشعر بالحزن عندما لا يكون هناك تواصل معك. في قلبي أنت لا تنطفئ. دعني أحضنك.
* سيمونتك
ديسمبر 1961
وحشي الحبيب، هل لازلت على قيد الحياة؟ أم مت، أم ماذا؟ قرأت مقالاً ممتازاً لك عن برشلونة جعلني أفكر بشيء وشخص. نُشر مقال قاس في صحيفة “The Nation” ضد كاو(4)، ضحكنا من قلوبنا، كما فعل آخرون في باريس. وماذا بعد؟ هل تزوجت من ماري جي. ولا تجرؤ على قول ذلك لي؟
الطقس هنا بارد وكئيب، نحن نقتل الجزائريين الآن في باريس. لذا نمشي في الشوارع ونصيح: “السلام في الجزائر”. استطعت الإفلات من عصا الشرطي بصعوبة.
على أي حال، عيد ميلاد مجيد. مهما حدث معك، لا تنسى أن هنا أناساً يهتمون لأمرك، أنا مثلاً، ويجب أن تكتب.
* سيمونتك
نوفمبر 1964 [الرسالة الاخيرة رقم 304 في الكتاب]
حبيبي. مر دهر ولم أرسل لك أو أتسلم منك رسالة. سمعت عن أخبارك من هنا وهناك: مقال رائع في صحيفة ” The Nation” عن كاتب “دكتور سترينجلوف” (نسيت اسمه(5)). حوار مسلٍّ في صحيفة لا أذكر اسمها عن النساء، الزواج، الحب والخ. سمعت من آلان(6)، أو من سيرج(7) بأنك ترتدي ملابس أنيقة جداً، هل تفعل ذلك حقاً؟
كنت في رحلة استغرقت شهرين الى روما وسردينيا، جزيرة فقيرة وكئيبة لكنها رائعة، تناسبك حقاً. لم أفعل أي شيء هناك سوى مشاهدة الأشياء وقراءة الروايات البوليسية. ليس لدي أدنى فكرة عن ماذا سوف أكتب وهذا يضايقني لأن لدي رغبة كبيرة جداً للكتابة.
كتاب هيلر، Catch-22 حقق نجاحاً عظيماً هنا وترجمته جيدة. الكتاب الأخير لـ فيوليت لودوك ” La Bâtarde” (النّذل)، حصل على جائزة وأصبح كما أظن من الكتب الأكثر مبيعاً. الناشران كنوف وبرازيلر(8) يتنافسان من أجل الحصول على حقوق طبع الكتاب. هي أيضاً سعيدة بذلك بكل تأكيد!
مع سارتر تسير الأمور بشكل رائع. هو ضعيف جداً (اتّبع نظاماً غذائياً قاسياً) تحدثت مع بوست (9)، لكني لم أتحدث بعد مع أولغا(10). لا زالت على حالها. غاضبة، تستشيط غضباً، وتعض أحياناً. تعيسة بشكل فظيع، لكنها أيضاً مسؤولة عن جزء من تعاستها.
سوف أسافر الى الولايات المتحدة في مايو، هذا مؤكد، وسوف أجدك أينما اختبأت. وأخيراً وافق بيل تارغ على نشر كتابي، وسوف ينشر الكتاب في ربيع العام المقبل. أخبرني بأحوالك، أيها الوحش العجوز اللطيف، إذا لم تكن مشغولاً بملابسك الأنيقة على الأقل. وكما هو الحال دائماً مع الكثير جداً من الحب.
* سيمونتك
________
(1) فيلم Les Jeux sont faits
(2) فرانك لويد رايت
(3) دفيد روسيه: كاتب وناشط سياسي فرنسي.
(4) جين كاو صحافي وكاتب وكان يعمل سكرتيراً لسارتر.
(5) تيري سوثرن: مساعد كاتب في سيناريو فيلم المخرج ستانلي كوبريك.
(6) آلان: الاسم الذي يعرف به الفيلسوف والصحافي الفرنسي إيميل شارتييه.
(7) سيرج دوبروفسكي: كاتب وناقد فرنسي.
(8) كنوف: ألفريد أ. كنوف ناشر أميركي معروف، دار النشر تحمل اسمه. وجورج برازيلر: ناشر أميركي معروف، دار النشر تحمل اسمه.
(9) جاك لورانت بوست: صحافي فرنسي.
(10)أولغا كوزاكيوفيتش: طالبة سيمون دو بوفوار، التي التحقت بحلقة سارتر ودو بوفوار 1935.
كلمات
العدد ٢٨٤٨