شعرية الفضاء في “رواية الساحة الشرفية”


عبدالجليل لعميري*


خاص ( ثقافات )


(براندة :حكاية المكان والناس ) 
استهلال : كلما قررت وزارة التربية مؤلفا من المؤلفات إلا وتعرض لعدة انتقادات . يكون بعضها موضوعيا ، وهذا مهم وضروري وعلى الوزارة الاستفادة منه فيما سيأتي من مؤلفات : وخير مثال ما طرحته “رواية أوراق” من مشاكل وصعوبات قد نعود اليها لاحقا). ويكون بعضها مشحونا بالأحكام القبلية المبنية على نوع من “الإيديولوجية” المناقضة لطبيعة المؤلفات، وخاصة السردية منها.
وكذلك هو الأمر بالنسبة لرواية الساحة الشرفية فقد ارتفعت بعض الأصوات النشاز للتهويل من حجم “قلة الحياء والتهتك الأخلاقي” الذي ستنقله هذه الرواية المسكينة إلى أكبادنا المراهقين وكأن أطفالنا يعيشون في مجتمع طاهر أفلاطوني ! وكأنهم لا يستهلكون ثقافة التلفزيون والقرص المدمج والانترنيت” التي توفر لهم كل “أشكال الانحراف” في غياب التأطير الجدي لهم من طرف الأهل والمدرسة!!
وهذا ذكرني بالمعركة النقدية التي دارت بين ناقدين فرنسيين أحدهما محافظ ومتزمت هو”بيكار”، وثانيها متنور وعقلاني وهو”بارت” فقد اعتبر الأول أن تحليل أعمال “راسين”، بالتركيز على الأبعاد النفسية والاجتماعية للشخصيات نوع من نشر الفساد .وسخر منه الثاني قائلا: ما مضمونه علينا إخصاء الشخصيات لنجعلها طاهرة!
1- بنية الرواية :
تتكون هذه الرواية من 248 ص من الحجم المتوسط. وتنقسم إلى ثمانية فصول على الشكل التالي:
• الفصل الأول:”براندة”،83 ص ويعتبر أطول فصول الرواية .
• الفصل الثاني:”الرنين استراحة المكلوم”،5ص، ويعتبر أقصر الفصول.
• الفصل الثالث:إدريس العمراوي ،36 ص.
• الفصل الرابع:”مصطفى الدرويش 34 ص.
• الفصل الخامس :”عبد العزيز صابر،29 ص.
• الفصل السادس: أحمد الريفي “15 ص.
• الفصل السابع:”سعد الأبرامي”،23 ص
• الفصل الثامن : “الخروج” 10 ص والخروج هنا دال على خروجين مختلفين : من السجن ،ومن الرواية.
2- المتن الحكائي:
يمكن الحديث عن متنين متمايزين، ومتكاملين:
2-1-المتن الحكائي في الفصل الأول “براندة” ويتكون من دائرتين حكائيتين : الحكاية الكبرى أوالعامة ، وهي حكاية براندة الجبلية ثم الحكاية الصغرى :
– حكاية الماء والصراع حوله بين أهل لمراح وأولاد بن عبيد.
– حكاية القائد ابن عبد سلام .
– حكاية الفقيه بن يرماق.
– حكاية السانية.
– حكاية الخنزير وأهل براندة.
– حكاية الاستسقاء.
– حكاية الشجرة وقطعها .
– حكاية خانة اليهودية.
– جكاية البئر ومأساة حفره.
– حكاية شامة.
– حكاية السياسة وأهل براندة.
– حكاية أهل براندة والهجرة…
وهذه الحكايات متداخلة ومتكاملة فيما بينها مما يحقق للسرد لحمته في الرواية 
2-2:المتن الحكائي في باقي فصول الرواية : 
وتشكل حكاية المناضلين الذين تعرضوا للسجن بسبب أفكارهم ومواقفهم السياسية، في مرحلة من مراحل تاريخ المغرب المعاصر،وأهم هذه الحكايات هي : حكاية “سعدالابرامي” التي تعتبر رابطة بين جميع الحكايات، بحكم الدور الوظيفي الذي يلعبه “سعد” كسارد أساسي في الرواية.
ويتميز المتن الحكائي – عموما- بانفتاحه على مجموعة من قضايا المجتمع المغربي : قضايا اجتماعية –اخلاقية –سياسية ثقافية /فكرية…ونفسية.
3- وضعية السارد:
انطلاقا من طرحنا الأسئلة التالية:من يتكلم؟من يحكي في الرواية، ومن يرى، ومن ينقل الأحداث؟
يمكننا ان نحدد – عبر الجواب عليها – وضعية السارد في “الساحة الشرفية” فلنعمل على ملاحظة الجمل السردية التالية:
– “عندما وصلت براندة ” ص5 .
– “الخطبة الطويلة التي كنت قد مللت سماعها، وما طلبي للعزلة الأدبية هنا إلا إصراري على إنكار فحواها”.ص:84 .
– “وفي لحظات كثيرة كنت أسألني: ألا أكون بهذا الهروب قد ظلمت نفسي؟”ص:87.
– ” يا سعد خض في الهناءة ” ص: 87 .(سعد يخاطب نفسه).
لنستنتج بأن السارد (الراوي) يستعمل ضمير المتكلم (أنا).
ونعرف أن اسمه “سعد الإبرامي” أحد أبناء براندة.
مثقف وسجين سابق ، ونتعرف عليه أكثر في فصل خاص به معنون بـ”سعد الإبرامي” (ص ص:211 -233).
وهذا النوع من السارد يطلق عليه :السارد/الشخصية، فهومشارك في الأحداث، وقريب منها، وهويلعب دورين في الأحداث: 
أ‌- دور القيام بالأفعال (المشاركة في الأحداث:الحوار-السجن…)
ب‌- دور القيام بالحكي (السرد) إذ ينقل لنا أخبار البلدة ويعرفنا على الشخصيات، من خلال ما يعرفه هوأوما ينقله عن غيره.
لكن بملاحظتنا لفصل:”سعد الابرامي” الذي أشرنا إليه سابقا، وانطلاقا من هذه التعابير:” نفزة التي تداعبه/لم يقل شيئا ذا بال في” النقد الذاتي” يوم دعي لمكاشفة الرفاق ../ كان يقول لعبد اللطيف الزروالي../…”” نسجل أن “سعد” الذي كان ساردا لباقي الفصول ، أصبح موضوعا للسرد في هذا الفصل ولكن المتكلم بضمير الغائب ليس هوذاته، وإنما صوت آخر لا نعرفه، حيث استعمل ضمير الغائب (هو=سعد).وهذا تكسير للرؤية مع ، من خلال استعمال السارد العارف بكل شيء (الرؤية من الخلف) لكن في الفصل الأخير يعود صوت “سعد” السارد/الشخصية.
4- القوى الفاعلة:
4-1- الشخصيات: يمكن اعتبار سعد الأبرامي شخصية أساسية، نطلق عليها تسمية “الشخصية الرابطة ” قد يلعب دور “البطولة الفردية” إذا تعاملنا معه بالمعنى التقليدي المألوف ( البطل الروائي يحتكر أهم الأحداث، وقد تكون له صورة سلبية (الضعف) أوايجابية (القوة) ولكن يمكن الحديث عن بطولة جماعية تساهم فيها تلك الشخصيات التي عنونت بها فصول الرواية: ادريس العمراوي –مصطفى الدرويش-عبد العزيز صابر ، أحمد الريفي .
والمشترك بين هذه الشخصيات الرئيسة كونها :
– شخصيات تعرضت للإعتقال السياسي، مثقفة وكانت تنتمي إلى التيار اليساري.
– شخصيات فاشلة عاطفيا وسياسيا.
– ينفرد أحمد الريفي بالإنهيار الحاد الذي عاشه بعد الخروج، ليقوده إلى الإنتحار.
فمن خلال الإطلالة على التجربة الجماعية لهذه الشخصيات (الإنتماء إلى منظومة فكرية /إيديولوجية واحدة = اليسار). أومن خلال الإطلالة على التجربة الفردية لكل واحدة من الشخصيات المذكورة، فإننا نرصد –مع السارد –مظاهر وعي سياسي عاشه جيل من المغاربة خلال مرحلة تاريخية معينة ، وتجارب هذه الشخصيات ترصد لنا أنواعا من الصراع المرير :
أ‌- الصراع ضد السلطة من اجل تحرير المجتمع.
ب‌- الصراع بين الرفاق(الإلتزام # الخيانة).
ت‌- الصراع مع الذات(الداخلي)،حيث نكتشف الهواجس والعيوب الذاتية لكل شخصية وتمزقاتها النفسية/العاطفية وحتى الإنسانية .
4-2. شخصيات أخرى:
أما الشخصيات الأخرى والتي لا تخلومن أهمية في الرواية ، فهي المذكورة في “الفصل الأول :براندة”. ونتوقف هنا عند : الفقيه-القائد- خانة- شامة- شكيب.
الفقيه: شخصية تقدم بنوع من السخرية، فهويلعب دورا مزدوجا ، يساهم في حل بعض مشاكل السكان، ويعرقل بعض مصالحهم ، وسلوكه فيه تناقض ولكنه في النهاية يرمز إلى القوة الدينية بصورتها المعهودة في مجتمعنا، فهومناهض للشعوذة(تحريضه على قطع الشجرة ذات التمائم-ص15)ولكنه محافظ، وربما متخلف في التعامل مع التكنولوجيا (إنكاره لمشاهدة التلفزيون أوالمرناب كما يسميه)على الناس – ص 17). وهومعارض للمخزن ثم متعاون معه! إنه جزء من المشهد الإجتماعي لبلدة “براندة”.
القائد.”ابن سلام”: اسم لا يدل على مسمى! إنه رمز للسلطة المخزنية كما هي معروفة في مجتمعنا المغربي، السلطة المبنية على القهر والتآمر والمسكونة بهواجس الأمن والدسيسة…وهويدخل في صراع غامض مع الفقيه، صراع السلطة المخزنية ضد السلطة الدينية! والقائد في هذا الفصل يلعب دورا تخربيا في العلاقة بين “أهل المراح” و”أولاد بن عبيد” كما لعب دورا قذرا في حكاية الخنزير الذي أغار على البلدة وعاث فيها فسادا:” لما نظر القائد بن سلام في تلك الشكاية بعينين ذابلتين تبسم بمكر ووعدهم كأنما يشمت فيهم” ص :55 .
خانة : شخصية درامية إلى حد كبير، فهي تقدم – في هذا الفصل – كحالة استثناء، متمردة على التقاليد والعلاقات المحلية، وتحمل شحنة كبيرة من الغموض والتعقد.
خانة اليهودية جاءت(…) على براندة في تاريخ لا يعرفون له بداية، ربما قبل تاريخ أغلبهم (…) إنها نبتت مع السانية (…)”ص 71 وقد ارتبطت “السانية(…)” كما سنعرف لا حقا، بطرفين سلبيين : الاستعمار والدعارة. وكانت “خانة” هي السيدة المتوجة على عرش هذا المكان “الباطرونة” المشرفة على إدارة عالم المتعة السرية المحرمة لكبار البلدة وغيرهم ، فهي التي حولت ذلك الموقع العسكري إلى موقع للدعارة . حولته من عار على الوطن إلى عار على كرامة السكان ….” فخانة “، والإسم هنا حامل لمعنى سلبي “الخيانة ” رغم أنه ليس عربيا !! تحمل بعدا سلبيا في الرواية لكنها مع ذلك تلعب دورا حيويا في حياة “البرانديين” إذ تعرف أسرارهم (حكاية الحاج العربي –ص 76 ).وتعلقه بشامة أوشوشو= شومي ، تهويد الاسم !).
إذا كان دور إشراف خانة على الدعارة أساسي في هذا الفصل فإنه ليس الوحيد: فقد لعبت دورا اجتماعيا /إنسانيا! بحيث كانت تمثل المرآة الفاضحة للكثرين، فأصبحت مثار نقاش واختلاف بين “البرانديين”: ” لا يبدوأن قوما اختلفوا في شأن قدر اختلاف البرانديين في شأن اليهودية “خانه” ص 65 .وأصبحت مصدر إزعاج لبعض كبار القوم “اليهودية إذا نزلت إلى قاع البلدة حاسرة وزعت على المعروفين منهم تلك الشتائم التي كانت تذكرهم بماضي براندة (…) تنفث سمومها اللاذعة في من أصبح من كبرائهم القانتين.”الحاج العربي يا الشارف الهارف” تكشف له عن البؤرة المتيبسة المنكمشة تحتها(..) ص 65. فيسكت مكرها عن نعوتها حتى لا تفتضح أسراره…..بين قومه” ص 50 .
كما كانت مصدر إزعاج للسكان، فقد ابتعدوا عن المكان (السانية وناحيتها) الذي كانت تحتله:”سكان براندة كانوا قد تركوا هذا الوسط المهمل لتلك المجنونة خانة التي ظلت تجوب أركانه”.
شامة: امرأة من النساء اللواتي توظفهن “خانة” في “السانية” ويتم التركيز عليها في الفصل الأول كنموذج لفتيات “في عمر الزهور[هربن إلى السانية ] منجاة لهن من قهر القبيلة أوالعائلة أوالزوج” ص:74 . وحكايتها مأساوية ، فقد هربت من زوجها “الأهبل الفقير” احميدو، بفعل تحريض “نسوة الفرات” واغترارها بجمالها، الذي يسبب لها مشاكل (كثرة الإقبال عليها وتدليلها- الغيرة منها…) وتنتهي حياتها الماجنة بقتلها”كانت هناك طعنات ظاهرة وحادة عند بطنها وتحت رقبتها وآثار عنف بالغ عند عينيها” ض 76 .
ظلت شامة ترمز بجمالها الفاتن لكل مظاهر الفتن الغاوية والشر الصامت. وكان اغتيالها حلقة من حلقات القتل في “براندة” التي عانت من شرور القتل والإختطاف بسبب العداوة التقليدية بين فخدتي أهل المراح وأولاد بن عبيد ما شابت له الرؤوس “ص76 .
أحمد شكيب: شاب “براندي” من أهل المراح، مثقف، أصيب بالجنون، على اثر حادثة غريبة وغامضة بالغابة.أصبح مرتبطا بخانة حيث وحٌدهما الجنون، والتمرد على البلدة.
يرمز إلى غربة الثقافة والمعرفة في مجتمعه :”يقرأ ويقرأ ويقرا” ص 66 وقد عاش الاغتراب داخل قومه “يبدوانه لما كان يخالف القوم في كل شيء تقريبا فقد الصقوا به كل ما جافوه عن كراهية مضمرة (..)ص66 .كما تعرض لعدة مضايقات وإشاعات، إلى أن جرد من أرضه، وفقد عقله إنه صورة لاغتراب العقل في مجتمع لا عقلاني متخن بالدسائس والوشايات والكراهية.
5- دلالات المكان :
5-1 : “براندة ” اسم غريب لبلدة السارد/سعد ، ويمكن أن نسميها :”مكان القبل ومكان البعد” أي قبل السجن وبعده، وهي مكان الطفولة، الذي سيتحول – بعد الخروج من السجن – إلى مكان للخلاص أوالهروب : “في لحظات كثيرة كنت أسألني : ألا أكون بهذا الهروب قد ظلمت نفسي؟”ص:87 ثم يردف السارد قائلا “كانت تراودني الهجرة إلى براندة وكنت أحار في تفسير هذا الهوى الغامض وأقول إن براندة هي الهجرة الممكنة.أنا مقتنع بهذا رغم أن “براندة” لا يمكن أن تكون لي ملاذا .إنني مقتنع بالوهم(..)ص241 .
عبر هذا المكان نطل على عالم الطفولة (طفولة السارد ) وذكرياته لكن أهم ما نعرفه هو”تاريخ براندة” وتحولاتها المأزومة، في علاقتها : بالمخزن، بالطبيعة بالمجتمع(الصراع-الهجرة…)…وتقدم لنا معطيات جغرافية وهندسية كثيرة عن بلدة “براندة(توجد في موقع يجمع بين الجبل والغابة ، بين الهضبة والسفح…).ولنفهم هذا المكان “الكبير” لابد من التوقف عند الأمكنة الصغرى المشكلة له وأهمها: الغابة – البئر- الضريح – السانية.
1.1.5 الغابة:هي “مجمع الشرور” ص 59/60 ، وهذا يتفق تماما مع معناها في نظرية لوتمان)وقد:”بقيت الغابة في موضعها الساكن إلى الأسرار، تزداد كل يوم غموضا وتتعالى في هذا الغموض إلى منتهى الطلسم(…) ص 60. 
إنها مكان غامض ، وخطير، داخله نفدت عدة مؤامرات ودسائس(اختطاف البنات والنساء-إشتعال النار- إصابة احمد شكيب بالجنون …خروج الخنزير منها…).
2.1.5 : البئر:”كانت هناك حفرة متيبسة من عهود. الحفرة صارت الآن ردما.الردم الذي غمر البئر فطمرها. البئر التي استجمعت أنفاس قتلاها عندما انحدروا عليها بحثا عن الماء فاندفنوا فيها واحدا بعد الآخر(…)” ص 27 .
هذه البئر تمثل جزءا أساسيا من فضاء براندة وذاكرتها، وهي تحمل دلالتين متناقضتين:
أ:- دلالة إيجابية : الحياة –الخصب-التضامن الجماعي…
ب:- دلالة سلبية : الموت-العقم- القتل الجماعي/الإنتحار.
ففي الوقت الذي كانت فيه براندة” تحضر نفسها للتمتع بمصدر مائي جديد يصمن لها الرفاه، تفجع في الشباب الذين تكلفوا بحفر البئر ورغم المأساة فان سكان أهل المراح وبني عبيد “حولوها إلى وسيلة للتضامن والتعايش بدل الصراع حول الماء.كما كان الحال بسبب الجفاف “ثم كيف أن ندرة الماء كادت أن تشعل فتيل الحرب بينهم وكيف تحول حفر البئر في ناحية من أرضهم إلى مقبرة لخيرة شبابهم” ص28.
موت الشبان الخمسة (إثنان من أهل المراح وثلاثة من أولاد بني عبيد، وكلهم من شبابهم الذين تعاقدوا على تجاوز العداوة بحفر البئر حتى تبقى بين أهاليهم آصرة ص33.
3.1.5 الضريح :”سيدي عبد الله بن عبيد” هواسم الوالي الصالح الذي أقيم عليه ضريح ” ببراندة” .وإليه ينتسب “أولاد بن عبيد” إحدى أهم الكتل السكانية لبراندة. وهم استقووا بانتمائهم للولي الصالح واعتبروه راعيا لمصالحهم : إنهم توهموا إلى الأبد أن الماء الذي أوقفه عليهم سيدي بن عبد الله بن عبيد هبة لن ينضب صبييه، فقد توارثوه سنينا(…)” ص:36 .
ويعتبر الضريح مكانا ذا دلالات متعددة يستوحيها من علاقته بباقي الأمكنة المجاورة، فهويوجد في موقع مرتفع يشرف على بلدة “براندة”: “إن لارتفاع الأرض هنا مزية فهي تراقب المدخل إلى براندة الذي منه يأتي الغرباء والمتسوقون، ناهيك عن المنظر الذي كان مضرب المثل في المتعة(…) هناك جبل “الشيات” (…) كخيمة أسطورية (…) والجبل الأقرع(…)الموحي بالفراغ ذي الأساطير المذكورة بينهم بوقوع مصب رأس الماء في ناحية منه …ورباط سيدي عبد الله بن عبيد الولي الغامض(…) فحينما وليت وجهك من هذا الارتفاع قابلك السحر البكر الذي يشعر الناظر بالديمومة” ص:38 .
ولهذا فالضريح يحمل دلالات دينية – مثل جميع الأضرحة – هي القداسة فهوفي ذاكرة سكان براندة – خصوصا بني عبيد- رمز للكرامات، والبركة إذ يساعدهم على الحياة ،…الماء، وهورمز للحياة والخصوبة، ارتباط الضريح بالعين المائية).وارتفاعه الهندسي (أي في الجغرافية) يرمز إلى قيمته الرفيعة في وعي الساكن ص35 .وكذا قيمته كولي صالح عند الله.
إن وجود الضريح في ثقافة السكان “ببراندة” يعكس جزءا من الواقع الاجتماعي المغربي ، بحيث تكثر الأضرحة، وتشكل نصيبا كبيرا من ثقافتنا الشعبية ذات المنحى الخرافي.
4.1.5 : السانية : تقدم كبناية دخيلة وغريبة عن البلدة والمنطقة، ويرتبط ظهورها بالأجانب (الاستعمار) . يوم عسكر فيه جنود زعر..بتلك الناحية من براندة ذات الارتفاع الذي لم يكن يوازيه في الارتفاع أي أثر آخر” ص:72.
ويصفها السارد بدقة “بناية منيعة (…) لا يمكن أن ترى ما إلى داخلها بسبب الإنكفاء الذي تبدوعليه من الخارج (…) ويقال أن البناة جعلوها مستطيلة إلى حد ما تتوازى حجراتها في الداخل في صفين متقابلين ينتهيان عند صالة الاستقبال “ص72وبهذا نعرف أن المكان له دلالة أصيلة إذ كان مركزا من مراكز الاستعمار :”لا يمكن أن تعود السانية بتاريخها إلى أبعد من اليوم الذي استقرت فيه الأمور لأولئك الأجانب الوافدين من بعيد، من الشمال ومن البحر، بعد أن طاردوا فلول المحاربين…” ص 71 .
فيحمل بذلك بعدا تاريخيا يحيل على مرحلة من تاريخ المغرب المعاصر (حرب الريف/الشمال)
ونعرف”أيضا” أن السانية أصبحت لها دلالة طارئة جديدة بحيث أصبحت ترتبط بشخصية خانة المرأة اليهودية التي أصيبت بالجنون ، وماتت في ظروف غريبة ومأساوية .لقد أصبحت السانية تعرف كوكر للدعارة بعد انسحاب الأجانب وأصبحت خانة هي المشرفة، على ذلك الوكر الذي جلبت إليه عدة نساء مومسات(كما توضح لنا ذلك قصة شامة ص 74) وهذا المكان يعري جزءا من أخلاق المجتمع، بحيث أن كبار البلدة في براندة – اوغيرها – كانوا متورطين في ذلك(….ساومها الحاج العربي عليها ص 75) كما ان موقع هذا المكان يساهم في رسم معالم العزلة التي فرضت على شخصية “خانة” واستبعادها عن المجتمع “البراندي”.
إن تقاطع هذه الأماكن الصغرى في إطار فضاء أشمل هو”براندة”، يشكل ملامح المكان ودلالته المتعددة في هذه الرواية. ونستنتج أن للمكان دلالات مأساوية ، فهويرمز إلى” الشر والخطر” كما هوالحال في “الغابة والبئر” ، ويرمز إلى الفساد كما هوالشأن في “الضريح والسانية” وطبيعته الغامضة والمرتبكة والمتدهورة آتية من طبيعة الشخصيات المتحركة داخله.
5-2السجن: هومكان أساسي بنفس درجة المكان السابق”براندة” وإذا كان المكان الأول يرمز إلى الخارج، بكل ما له من دلالات الإنفتاح والحرية، رغم فساده! فإن السجن يرمز إلى الداخل بكل ما يحمل من دلالات الانغلاق والقيود. إن “السجن” كمكان له دلالة عامة تختصر في كونه : مكان معاد ومغلق ، بالنسبة للشخصية المتحركة داخله(المعتقل)! فقبله/خارجه تتعرض الشخصيات الأساسية للاعتقال وهوسلب لحريتها الفردية ، وبعد الدخول إليه تعاني الشخصيات من افتقاد الحياة المتجددة والحرة”لكن السجن لا يتبدل، الوجود داخل السجن لا يتبدل، والانفعالات اليومية ، الحراس هم أنفسهم” ص 101.
ولنقترب أكثر من جوهر هذا المكان لابد من التوقف عند ثلاثة أماكن صغرى مشكلة له هي : الزنزانة – الساحة الشرفية + والصورة.
1.2.5 :الزنزانة: يقول السارد ” الاعتقالات التي ستؤلف بين قلوبنا داخل السجن” ص95 وسيكون قوله هذا نسبيا إذ سنعلم لا حقا أن “السجن” سيكون مكانا للصراع أكثر منه مكانا للألفة ….
والأهم من هذا التوظيف المختلف للاماكن والزنزانة “نموذج لذلك، ففي معناها الأصلي هي 
: “ٌكان مغلق معاد للشخصيات وهومعنى وارد في الرواية ،”فالزنزانة “هي المكان الأكثر انغلاقا في السجن، والمكان الأكثر عزلة . لكن هذا المعنى يصبح جزئيا أمام توالد معاني مستحدثة /مستجدة، أهمها :
– الزنزانة تصبح منتدى للنقاش السياسي بين الرفاق!.
– الزنزانة تصبح مكتبة للقراءة.
– الزنزانة تصبح مكانا للموسيقى واجترار الذكريات والكتابة.
والمثير للانتباه هوتحويل طابعها المعادي إلى طابع إيجابي وحميم :”هناك زنزانة في الممر جاهزة للإستقبال بمناسبة الحفل الخاص. جيء بشراب في قناني الماء المعدني حتى لا يكتشف أمرها الحراس في المزار.
أوان من البلاستيك الأبيض مصفوفة على حافة المسطبة الإسمنتية الباردة وقد حوت أنواعا من الفاكهة اليابسة “. ص 142 .
تصبح الزنزانة – هنا- مكانا للاحتفال الفرح بين الأصدقاء والذي قد يكون مرفوضة في عيون “الرفاق الآخرين” مثل “حمدان” ص 145 .
2.2.5 :الساحة الشرفية(ومنها أخذ عنوان الرواية) : “فضاء عار قيل لنا أنها الساحة الشرفية ” ص 158 ويعرفها السارد بقوله:”هي المكان الذي يستوفي فيه العلم الوطني، ومنها ترتفع الطرقات والاتجاهات نحوأحياء السجن المترامية” ص 158 .
إنها آخر محطة قبل الوصول إلى الباب بالنسبة للخارجين، وأولها بالنسبة للداخلين.هذه الساحة تحمل دلالات الانفتاح والشساعة، رغم انتمائها للسجن كمكان “للقلق” ص150 . وتصبح متنفسا للسجناء حيث يتمشون ويتشمسون ويشمون الهواء ويدردشون ويلعبون ويتخاصمون ويوزعون المناشير…!! إنها مكان يكسر عزلة المكان السابق (الزنزانة) ويمنح للذات المسجونة إيقاعا آخر للحياة، وإن كان إيقاعا لا يسلم من سمفونية الرتابة القاتلة التي ينتجها المكان الأب: السجن!
3.2.5 :الصورة: هي مكان مخالف للاماكن المعهودة(أي الأماكن ذات البعد الجغرافي/الهندسي) التي ترسمها الرواية. ولكنه مكان “الساحة”. فهذه الصورة الضوئية هي جزء من الذاكرة، هي تاريخ لزمن السجن “كان يبدوعلينا جميعا إننا ما وجدنا في الصورة إلا لأننا تواعدنا ذلك اليوم على الغذاء المشترك، وأننا كنا في مكان واحد بالساحة إياها تلك التي انتظرنا شمسها في الأيام الباردة كلها، وإن الصورة لا يمكن أن تنطق بالأسرار المطفأة، إننا في الساحة ونحن الآن في صورتها الهازئة” ص 189 . يحدد لها السارد ظرفيتها وموقعها وينطلق منها لتذكر الوجوه المرسومة عليها. لكنه يعلق عليها فيقول : “ما يحيرني في هذه الصورة بالذات أنها لا توحي بهندسة السجن ولا بالرطوبة التي فككت عظامنا ولا بأي شيء ،إنها صورة ملونة خلافا للسنوات الطويلة الكاحلة التي هدمتني. صورة تامة لا ينقصها إلا السجن الذي كنا فيه، أوكنت فيه صحبة هؤلاء المعتقلين” ص:189 .
إنها مكان رمزي موارب كثيف ومضلل، فهي محايدة لأنها لا تظهر المعاناة وحجمها ، ولا القلق وألوانه رغم أنها ملونة ، إنها تحمل وجوها…وكل منها لغز مترع بالأسرار …إنها المكان المخادع …ولكن السارد يمتلك مفاتيحه، التي يستطيع بواسطتها فتح وإقفال تلك الوجوه/الذوات التي تصطف في الصورة.
إن هذه الأماكن الصغرى المشكلة لفضاء السجن تشخص دلالاته العميقة وترسم تضاريسه المتوحشة التي يحفرها في الذوات المعتقلة….وهوفي تضاده مع الخارج يشكل ثنائية ضدية تحقق توترا سرديا هائلا يضمن للأحداث ديناميتها المتفجرة.
6- التمات الأساسية ( الموضوعات/القضايا ):
يمكن الحديث عن تيمة أساسية في هذه الزاوية، إنها تيمة: “الاعتقال السياسي” ، وهي تتحدد عبر عدة أبعاد:
أ‌- الاعتقال السياسي في بعده الفردي: الارتباط بوقائع فردية عاشتها كل شخصية أساسية من شخصيات هذه الرواية.
ب‌- الاعتقال السياسي في بعده السياسي: الارتباط بوضعية سياسية اشتهرت في المغرب المعاصر، وسميت بمرحلة سنوات الرصاص، خاصة السبعينيات من القرن العشرين.
ج- الاعتقال السياسي في بعده الاجتماعي/التاريخي: انفتحت الرواية على أوضاع اجتماعية وسردية تاريخية تمس المغرب المعاصر، وهذه الأبعاد بطبيعة الحال متداخلة ومتقاطعة ومتكاملة فالشخصيات الروائية كذوات فردية، لها انتماء اجتماعي وتتحرك في واقع تاريخي، وتعبر عن انتماء سياسي محدد كما يمكن الحديث عن تيمة أخرى مرافقة للأولى، ولا تقل عنها أهمية: إنها تيمة “الحب” أو”التجربة العاطفية” .
وما لاحظناه من خلال تتبع المتن الحكائي هوارتباط أهم الشخصية الذكورية باسم امرأة: 
• أحمد شكيب/ خانة.
• إدريس العمراوي/ سيلبيا .
• مصطفى الدرويش/ فتحية (أخته) [ارتباط عاطفي خاص مبني على الأخوة].
• عبد العزيز صابر/ فهيمة.
• سعد الأبرا مي/ نفزة.
وكل امرأة هنا تمثل حكاية عاطفية كاملة، بكل أبعادها الرمزية (باستثناء فتحية ذات الدور الخاص). وتعتبر كل حكاية عاطفية بمثابة خلفية لحكاية سياسية. كما أنها تساعدنا على اكتشاف البعد الإنساني في الشخصية الروائية.
= _________________
* “الساحة الشرفية” رواية عبد القادر الشاوي، ط 2، 2005، منشورات الفنك. 284 ص، (كل الإحالات بالصفحات على هذه الطبعة).
– مراجع تمت الاستفادة منها:
– مجلة “أفاق”، ع 8/9، ملف عن “طرائق السرد”. 
– كتاب “تحليل الخطاب الروائي” حسن بحراوي ط I.

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *