فوكو..آركيولوجي المعرفة


روبير ماغيوري ــ ترجمة: أحمد عثمان

في الحقيقة، لا نشك في أن صورة فوكو أصبحت ضبابية، وتدريجياً انمحت «كصورة على الرمال عند طرف البحر». فوكو، حسب تعبير بيار بورديو، جسد صورة «المثقف النوعي»، إذ لم يكن وعيه «وعياً نموذجياً» كما رآه سارتر، ولكن بالحفاظ على خطاب الحقيقة، الحقيقة التي – عبر العمل التوثيقي والإعلامي والتحقيقي – يجب أن نبحث عنها في مكانها أو أن نحجبها.

بالتأكيد، من الممكن أن نتساءل إذا كان أي شكل أصبح عتيقاً ومتفككاً، أو على العكس أعيد ابتكاره، في اللحظة التي استعملت فيها الكذبة والكتمان بدون حالات روحية كأدوات سياسية دولية.
على أي حال، لا نشك في أن الضجيج الذي أحاط «بفوكو المثقف»، وكذا صياح أعدائه ساهما في منحه عصمة بابوية، ولا نتذكر كيف تمكن من الكشف عن روح العصر.
ولكن فوكو الفيلسوف لسنا في حاجة للتذكر، فكرُهُ «في العمل» حاضر في كل مكان، في الفلسفة بالتأكيد، ولكن أيضا في العلوم الإنسانية، التاريخ، علم النفس، الطب العقلي، القانون، السوسيولوجيا، التحليل المؤسسي، الأنثروبولوجيا، الابستمولوجيا…
قالها جورج غونغيلهم بطريقة سابقة لأوانها، غير أن الزمن في الوقت الحاضر «طبق، في نتاج فوكو، مناهج الإيضاح، أي الجينيالوجيا والتأويل، اللذين طبقهما بدوره في مجالات دراساته»، لأن هذا النتاج لا يمكن أن تشوهه النظرات الخاصة التي ردته ظرفياً، وكذا على وجه الخصوص لأن الموت منع فوكو من تحقيقها، إذ إن (النتاج) كان «في الورشة»، الملآنة بالمواطئ الواجب اجتيازها، الفرضيات، التعيينات، البوصلات، البطاقات غير المستغلة.
لم يصب الخطأ باحثي العالم بأسره: أدركوا النتاج الفوكوي كما فوكو نفسه، بالنسبة إلى «عمارة» كتبه، استوفوا دروسه: المعامل، بدءا من «أدوات الأرشيف وورشة المكتبة»، أعدت البنى الحاملة للنتاج المستقبلي.
بطاقة طريق للبحث الأثر الذي تركه فوكو في كتاب: «آركيولوجيا المعرفة» كبير للغاية؛ البحث في التاريخ عن التكوينات الاستدلالية التي تعطي مكانا «لسياسات (الحقيقة) العامة»، التي تقرر ما يجب أن يكون ملحوظاً، صواباً أو خطأ، وبأي وسيلة يكون مذاعاً، أو ينظم تجارب الناس في العالم ومع أنفسهم.
تنظيمات المعرفة القادرة ممتزجة جزيئياً بأشكال إنتاج وتوزيع السلطات، التي نراها مع انبثاق وظيفة المفاهيم مثل الذات، الهوية، العقل والجهل، الجنسانية، بناء الذات…
أيضا من الممكن القول إن فوكو لم يترك حول هذه الأسئلة ذات الحدود المتعذر تحديدها «ميراثاً» وإنما على الأرجح «نظام رسالة»، وحتى «بطاقة طريق» لأجل البحث الحالي.
لقد حيا ميشيل فوكو شكل البحث، «الجسد الحي للفلسفة» : من اللازم النظر الى نتاجه «كبحث»، إذا منع البحث «الملائمة التبسيطية للغير في نهايات التواصل» وأجبر «التجربة التعديلية للذات نفسها على الدخول إلى لعبة الحقيقة»، يرجع الكتاب الأول لميشيل فوكو إلى عام 1954.
آنذاك، كان متأثرا بأفكار هوسرل وميرلو – بونتي، النفسانية الوجودية والطب العقلي للودفيغ بينزفانغر، ترجم كتابا للأخير: «الحلم والوجود»، وفي مقدمته، حاول أن يجعل التحليل النفساني يلمس التقليد الفينومينولوجي.
ومع كتابه: «المرض العقلي والشخصية»، درس فوكو، المعروف، بداية المسلمات التي تموضع عليها البسيكوباثولوجي، بينما أن المفاهيم محققة عبر النظرية النفسانية، وبالتالي تقترح قراءة قصيرة لتمثلات الجنون الاجتماعية.
وضعنة الذات، هذا النتاج الأول محدد لأنه يدمج التقرير الابستيمولوجي لجورج غونغيلهم، نمط الدراسة الذي أعطى فوكو شهرته: قبل أي شيء «الجنون والجهل»، «تاريخ الجنون في العصور الكلاسيكية» الذي نشره لدى «بلون» في عام 1961، بفضل تأييد المؤرخ فيليب آرييس، و«مولد الطب التطبيقي» (1963)، هكذا تمثلت المشكلة في تحديد الظروف التاريخية التي جعلت المرض والجنون موضوعا علميا، مما أفضى إلى انبثاق البسيكوباثولوجي والطب العقلي، كذات كموضوع للمعرفة الإيجابية و – بالترابط – أبدعا أماكن (بنى استشفائية، مصحات عقلية)، حيث أصبحت المعرفة سلطة على الجسد.
كتاب «تاريخ الجنون» قنبلة موقوتة، تبدت آثاره في السبعينيات، وهذه الآثار بدورها حددت حركة الفكر التي – لدى رونالد لينغ، ديفيد كوبر أو فرانكو بازاغليا – عرفت تحت اسم «مقاومة الطب العقلي»،غير أن فوكو الغارق في الأبحاث «الآركيولوجية»، ابتعث هذه الأنساق الضمنية للقواعد، المجهولة واللا واعية، التي تعرف فضاءات الممكن التي تتكون داخلها المعارف النمطية لكل عصر، و«تقول» موضوع التاريخ.
في كتابه: «الكلمات والأشياء»، حلل ثلاث أنماط كبرى لوضعنة الذات في المعارف – ليس المجنون أو المريض، وإنما الذات على وجه العموم – وهم اللغة، العمل والحي، بالرجوع إلى مراحل النهضة، العصر الكلاسيكي والعصر الحديث، التي ترى الإنسان موضوعا للمعرفة وذاتا عارفة في آن واحد. التفكير بوجه آخر مع كتابه: «المراقبة والعقاب» (1975)، الذي قوض فكرة القوة المركزية، الهرمية، فكك فوكو «المشروع الطموح للحجز من أجل الإصلاح، الخاص بالمجتمع التأديبي ومع كتابه «إرادة المعرفة»، الجزء الأول من «تاريخ الجنسانية»، حلل خطاب الحقيقة على الذات، ولكن هذه الذات لم تكن الذات المختلفة (المريض، المجنون)، ولا الذات عامة، وإنما ذاتنا مباشرة بواسطة ذاتنا نفسها في علاقتها بالجنس.
من جينيالوجيا الأنساق إلى إشكالية الذات، بعد صمت طويل، (انقطع في عام 1984 ) ومع صدور ما بعد الوفاة: «وظيفة اللذات وهموم الذات»،هناك منعطف مؤكد.
خلف حداثة الغرب (خلال القرن السادس عشر والقرن التاسع عشر)، ظل تكون معارف الجنسانية وأنساق السلطة يصوب الممارسات.
تنفتح – في العصر الكلاسيكي، حيث تعد الفلسفة مقابل الأخلاق – عناصر بناء «جمالية الوجود الفردي»، المؤسسة على «تقنية الذات» التي «جلبها الأفراد لكي يحذروا من أنفسهم، لكي يفكوا شيفراتهم، لكي يتعارفوا وينذروا أنفسهم كذوات للرغبة»، أثار تفكير ميشيل فوكو الفلاسفة، أقلق المؤرخين، كدر العلوم الإنسانية…ولكن لا أحد يشك في أن نتاجه كلاسيكي: لأن في كل مرة نجتزئ جزءا، نكتشف أشياء جديدة، وأيضا – بعد انقطاع دام أكثر من عشرين عاما، يحتوي نتاجه على شيء ما يقود ليس فقط الفلاسفة والمؤرخين والسوسيولوجيين أو النفسانيين، وإنما أيضا كل واحد منا إلى التفكير «بوجه آخر»
لم يغب صوت ميشيل فوكو على مدى أكثر من عشرين عاماً. لم يزل بعد مسموعاً، صافياً أو متلعثماً، مألوفاً – «أمر طيب»، «بالطبع أبسط» ،«سنحاول أن نرى ما يمكن عمله معاً» -، محمولا، مؤكدا عبر الضحكة الشهيرة، بفضل صدور دروس سنواته الأخيرة في (الكوليج دو فرانس) والأربعة أجزاء من «القول والكتابة». كانت ضحكته تدوي في العديد من المشاركات الفلسفية، في الكتب، في الذاكرة، في الأطروحات، على مدار آلاف الصفحات المنشورة على الإنترنت. وأيضا، حاضرة في فصول الفلسفة بالمدارس الثانوية، بما أنه يمثل من الآن فصاعدا، أحد كتاب المنهج الدراسي.
______
*الاتحاد

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *