من سيرة الزقاق/ الحاجّة رئيفة وفرن أبو علي


*ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
في الزرقاء، حي الحاووز تحديدا، ماتت الحاجة “رئيفة” بعد أن كانت آخر جسد معمّر، ظل منسيا لوقت طويل بين أزقّة الحارة، بالتزامن أيضا، فقد تهدّم الفرن الأثري الوحيد في الحيّ… أخيراً. 
لم تعد شمس الصباح تصعد من تحت “شادر” بيتها الممزق، والذي بقي يظلل فسحة “الحوش” حتى آخر يوم لنا في ذلك الحيّ، لكن ذلك كان منذ سنوات طويلة، سبقت موتها.
تلك المرأة كانت الوحيدة التي ظلّت محتفظة بردائها المميز بين نساء الحارة، “البشنيقة” والملاية المطرزة، وكانت تعد الوحيدة التي بقيت هناك، وسط الزقاق، ولم ترحل،
ربما لم تجذبها رحابة الضواحي كغيرها؟!. 
حين قلت هذا لوالدي رمقني في استخفاف: وهل كانت تملك شيئا تلك المسكينة لتلحق بغيرها؟!
وبقيتُ أنا على موعد لا يتبدل مع شمس الصباح، وهي تشرق من تحت بيتها، أرافقها حتى تسقط غربا فوق أرض بعيدة، أو تغوص في بحرها المالح آخر النهار، كانت تسميه بحر “يافا”، وكانت تُحدّثُ به جارنا الفرّان أبو علي، الكهل، المعتد بلباسه التقليدي، “الدماية” أوالقنباز والكوفية الفلسطينية البيضاء، المهدّبة، وهو يسند ذقنه وكفيّه بعكازه الخشبي الأملس، عند بوابة الفرن. يشرد ببصره وهو يشاركها غمامة الصبح، والتي غالبا ما تمطر حزنا، وأنا أسترق السمع وأصغي لهما، دون علم أحد، لم أكن أفهم لما كانت تحدّثه بلوعة عن سحر المغيب هناك، في يافا، فيعقب بتنهيدة وهزة من رأسه، لتوحي بلوعة أكبر…!
قالت له ذات يوم بأن “الشّادر” الواسع كان يظلل أغلب العتبات المشمسة في حي “العجمي”، وكان ملكاً لأهلها فيما مضى، وأنها جلبته معها إلى “الأردن” لتحتفظ به لحين العودة.
منذ نزوحها الأول، وهي تظلل به فسحة “حوش” البيت، تطويه في صدرها وتأبى أن تفرط فيه : ( لا الإنجليز ولا الصهاينة ولا حتى العرب، قدروا يوخذوه منّي… فشروا ).
وكان والدي يهز رأسه في غيظ، كلما حدثته بما أسمع عند الفرن، لكن الأستاذ في حصة الجغرافيا كان أكثر انفعالا وهو يهز أركان المدرسة الابتدائية بصوته الغاضب، ويسارع إلى خارج الصف ليبرر كعادته، مبدداً غيمة الفزع التي حاقت بالمدير والموجه التربوي، والهيئة التدريسية، والمدينة بأكملها : تشرق الشمس من بيت الجارة ” رئيفة ..!”
هذا التنبل لا يعترف بالجهات، ليس هناك ما يسمى في قاموسه ” شرقا أو غربا”.
في عام 1982 سقط قفل ثقيل على بوابة الفرن، ولم يُفتح بعدها.
كنت أبكي وأنا أحث والدي وبعض الرجال في الحارة، بأن يعمدوا إلى فتح باب الفرن، لتحرير “علي” إبن الفران، ليخرج منه، ليفرّ، ليحيا كالآخرين، وكنتُ أواجَه بموجات عنيفة من الصدود و التجاهل. 
طلبت ذلك من استاذ الرياضة المدرسية ذات مرّة، لكنه نهرني بسخرية جارحة، رجوت شرطيا كان يمر بالجوار، صدّق أول الأمر، لكنه سرعان ما قادني من يدي بلطف وسلمني لوالدي بتوصية. قال لي والدي يومها مشفقاً: “علي” مات… إستشهد في بيروت وهو يقاوم الصهاينة.
ومع هذا، كنت أجلس أمام باب الفرن المغلق وأصغي للداخل، وأستهجن، لما لا يصرخ علي، لماذا يبقى صامتاً أيضا، كيف له أن يحتمل هذا البقاء وحيدا؟.
“فرن أبو علي” مثل الشّامة في ظاهر اليد، تم تشييده من حجارة صفراء بارزة وضخمة، وكان مختلفا في كل شيء، يحاذي رصيف الشارع الرئيس، أسفل “الحاووز”، فوقه يربض خزان معدني تآكلت حوافه واتسخت بالديزل.
ارتفعت من حوله – لاحقا – مبان طابقية عديدة، نهضت على أنقاض بيوت صغيرة، وظلّ هو لوقت طويل، كائنا حجريا مختلفا.
كنّا نتوافد إليه في الصباحات الغائمة، التي تنذر بالمطر، في حذر بالغ، يحمل كل طفل منّا فوق رأسه ” فَرْش العجين” السائب، وقطعة نقدية، “شلن” فضّي كأجرة.
ولده “علي” الذي يشبه “غوّار الطوشة” ببعض ملامحه، وشاربه، كان يتلقف منّا تلك “الفروش” بخفة، ويضعها على الأرفف لخبزها حسب الأولوية، ثم ينهرنا لنغادر قبل أن يقفز بخفته المعهودة إلى حفرة الموقد المشتعل. 
“علي” كان مبللا بالديزل والعرق وذرات الطحين، على الدوام، وحين كنت التقيه صدفة بين شبان الحارة في الأمسيات، ببنطلون “الشارلستون” عريض الساقين، وتسريحة الخنافس اللامعة على رأسه، كنت أقول هذا شبيه الفرّان “علي”، هذا ليس هو…!
صدقوني، “علي” يغلق باب الفرن في المساء ولا يفارقه، حتى أنه ينام فيه.
ظل الفرن مغلقا ومهجورا، حتى تهدّم أخيراً… 
تراكمت عند بوابته التي أكلها الصدأ وتقشّر أغلب طلاؤها، بعضاً من قمامة الحيّ، بينما ابتلع الرصيف الجديد بدوره، معظم “بسطته” الأسمنتيه، حيث كان يجلس أبو علي فوق كرسيّه القش، مسندا ظهره إلى جدار الفرن، ساهما بعكازه أغلب النهار، وكنّا نحن صبية، صغاراً، ننتظر جلوسا فوقها، طلائع الخبز، ونثرثر في شغب. 
في عزاء الحاجة” رئيفة ” والذي تكفّل به من تبقى من أبناء الحيّ، كنت أجلس وسط “الحوش” إلى جانب آخرين لا أعرفهم، وأنظر إلى جدار بيتنا القديم، المرتفع، الملاصق لتلك الفسحة السماوية الحرّة، لفت نظري رجل حليق الرأس، بشارب خفيف، تجاوز الخمسين من عمره، كان يدور بين الحضور أكثر من غيره، يصب القهوة، ويستقبل الناس، تأملته جيدا، كان يشبه “غوّار الطّوشة” رغم تغضن وجهه واختلاف ملامحه، اقتربت منه متسائلا: ألست “علي” الفرّان؟
رد بأناة: بلى أنا هو…
– ألم تستشهد في حصار بيروت؟
لا… كنتُ ممن غادرها إلى تونس، ثم … ثم عدتُ إلى هنا كي أهدم الفرن.
قالها وهو يبتسم بمرارة، ودون إهتمام ليعرف من أنا.
كان لدي تساؤل، منذ وطأت هذا “الحوش”… الشّادر، ما الذي حلّ به بعد وفاة الحاجة رئيفة؟ 
آه، الشّادر، يا للغرابة… أتدري؟ مات والدي وهو يوصيني بذلك الشّادر، وهنا لفظت الحاجة “رئيقة” أنفاسها الأخيرة وهي توصي به، وها أنت تسألني عنه…!
أطلق تنهيدة، ثم واصل: كانت كل الوصايا تقضي بدفنه معها… ففعلت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*قاص أردني 

شاهد أيضاً

قصة “الظل” لإدغار آلان بو

(ثقافات) قصة الظل[1]. إدغار آلان بو ترجمة: عبد القادر  بوطالب                أنت الذي تقرأ ما …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *