«إلى الجميع، إني أموت الآن، ولا أتهم أحداً، ولا أريد أدنى ضجة، فالموتى يبغضون ذلك، يا أمي، يا إخواني، يا رفاقي، سامحوني، إن ما فعلته ليس مخرجاً، ولا أنصح به أحداً، لكنه كان مناسباً لي، ولا حل آخر غيره كان يلائمني» كتب الشاعر الروسي «ماياكوفسكي» هذه الرسالة وانتحر، وفي اليوم التالي – كما يقول الشاعر رفعت سلام ،في ترجمته ل«غيمة في بنطلون وقصائد أخرى» – «عندما اكتشفوا الواقعة كان وجهه هادئاً لا يشبه أبداً وجوه الموتى، وكان شهود الجريمة دم ومسدس ورسالة أخيرة، وكان مناخ الحصار هو القاتل» انتحر الشاعر لأن العالم لم يحتمل حالات نزقه، ورؤيته المختلفة لفكرة العدل والثورة.
كانت معركة الشاعر مع وضعه الاجتماعي، ففي إحدى قرى جورجيا ولد، وعاش طفولة متحررة من كل كبت، كان يقضي ساعات طويلة في اللعب مع أطفال الفلاحين، وعرف عن طريق الأم الأساطير والحكايات الشعبية، وقصائد بوشكين وليرمونتوف ونيكراسوف، وعندما التحق بالمدرسة أدركه الشعور بالاغتراب وسط الأبناء المتعجرفين للموظفين الروس، وافتقد الإحساس بالبراءة والتآلف الذي عرفه مع أطفال قريته، لكنه عرف الصعلكة والطرد من المدرسة.
وشارك في المرحلة الثانوية في المظاهرات، وانضم إلى الحزب البلشفي، واعتقل، وخرج ليوضع تحت الرقابة البوليسية، ثم يلتحق بكلية الفنون التطبيقية، وفي السجن يكتشف بايرون وشكسبير ودستويفسكي وتولستوي، وتبدأ أولى إرهاصات المواجهة، حين ذهب لزيارة أحد رفاقه في الحزب، وقال له: «أريد أن أخلق فناً اشتراكياً» ضحك منه الرفيق، وقال له: «إن عقلك أكبر من معدتك».
كانت الساحة تعج بحركات ثورية في مجالات الفنون والمسرح والشعر، وظهر «المستقبليون» الذين واجهوا الذوق العام بحدة، وصلت إلى العدوانية، وأصدروا بيانهم الأول «صفعة في وجه الذوق العام» ودعوا فيه إلى تحرير الشعر من التجريدات الميتافيزيقة، والبحث عن أشكال جديدة للتعبير، وكان «ماياكوفسكي» يقتحم الساحة في ذلك الزمن الصعب، الذي يصفه رفعت سلام على هذا النحو: «قوبل دخوله إلى الوسط الأدبي بالعدوان والضجيج الغاضب من قبل المجتمع البرجوازي، وواجه الكثير من الشتائم في الجرائد والمجلات، أما رجال البوليس فكانوا يحضرون أمسياته الشعرية».
أمه كانت تسأله: لماذا تكتب هذا النوع من الشعر؟ وكان يجيب: «إذا كتبت كل شيء بوضوح فلن أستطيع العيش في موسكو، إنما في مكان ما في سيبريا، فهم يراقبونني» لكنه يصدر ديوانه الأول، وتعرض مسرحيته الأولى، التي شارك بالتمثيل فيها، وبعد جولة يعود إلى كليته، ليجد نفسه مطروداً منها، إثر محاضرة أدبية ساخرة، تحدث فيها باحتقار عن الفن البرجوازي، ومع اشتعال ثورة أكتوبر/تشرين الأول 1917 تتفجر طاقاته في كل اتجاه، إنها ثورته، التي سيدعمها بالملصقات الدعائية، وبالقصائد التحريضية، وبكتابة السيناريو للسينما والمسرح، ويمثل الأدوار الرئيسية فيها. ويقوم بجولات خارج البلاد إلى ألمانيا وفرنسا وأمريكا ويلتقي كبار الأدباء، ويعود ليصطدم بقيادات الحزب الشيوعي، وكما يوضح رفعت سلام: «قامت هذه العلاقة الملتبسة بين قيادة الحزب والدولة وبين شاعر الثورة، على أساس من النظرة السلبية من جانب القيادة إلى «مستقبلية» ماياكوفسكي، باعتبارها نزعة مضادة للواقعية، كما يفهمها القادة، وكما يحاولون تسييدها بالاستناد إلى جهاز الدولة والحزب، وبذلك أصبحت «المستقبلية» وصمة في ذاتها، حتى وإن تغنى الشاعر بالثورة.
في مايو/أيار 1921 كتب لينين إلى لوناتشارسكي – مفوض التعليم – ألا تشعر بالخزي من نفسك وأنت تقترح طبع 5 آلاف نسخة من قصيدة ماياكوفسكي «150 مليونا»؟ إنها لحماقة، ودعا لينين إلى طباعة ألف و500 نسخة فقط «من أجل المهاويس بالمستقبلية» وطالب بمكافحة «المستقبلية» ووفقا لشهادة جوركي فقد كان موقف لينين من ماياكوفسكي يتسم بعدم الثقة، بل والحدة.
كان لينين يقول: «إنه يصرخ، ويخلق كلمات مخادعة، ولكن ليس كل ما يكتبه هو المطلوب تماما، فيما أرى، كما أنه صعب الفهم، وكل شيء عنده مبعثر للغاية وصعب القراءة»، وهكذا يجد شاعر الثورة نفسه محاصراً من قيادات الثورة، حيث أصدرت اللجنة المركزية للحزب رسالة موجهة ضد المستقبلية.
في أحد اللقاءات الجماهيرية سأله أحدهم: لماذا تكرر في كلامك ضمير أنا ألا يدل ذلك على طغيان الروح الفردية لديك؟ وأجابه: هل تعتقد أن نيقولا الثاني كان يؤمن بالروح الجماعية عندما كان يقول نحن؟ اتهموه بغموض قصائده، فطلب من جمهور الحاضرين الذي لا يفهم شعره رفع الأيدي، فرفعها عدد قليل، فقال: ألا ترون أن نسبة غير المتعلمين ليست عظيمة؟
كتب أحد الشعراء واصفاً شعره بأنه «غشاوة باطنية، وعدم مقدرة على التقاط وفهم إيقاع ومدلول العصر، مما قاده إلى طريق مسدود» وكتب آخر «كفانا ماياكوفسكية» وقال البعض إن شعره يعاني أزمة، ويتسم بالضحالة والبؤس، ولا يمثل روح الثورة، ولم يستطع التعبير عنها أو الاندماج فيها، وظل على هامش الأحداث الثورية، إنه غريب عن الثورة، وموغل في الفردية بالمعنى البرجوازي للكلمة، إنه خطيب بارد متفلسف، إنه جثة.
وكتب «ماياكوفسكي»:«يخيل إلي أحياناً أن أرحل إلى مكان ما وأعيش فيه سنة أو سنتين فقط حتى لا أسمع الشتائم» من هنا كانت رحلاته إلى الخارج هروباً من الحصار الذي انتهى به منتحراً، وحين تحدث عنه مفوض التعليم قال: «لسنا كلنا نظراء لماركس الذي قال إن تجربة الشعراء تحتاج إلى كثير من الحنو، لسنا كلنا نفهم ذلك، ولم نفهم أن ماياكوفسكي كان في احتياج إلى كثير من الحنان».
___________
*الخليج الثقافي