*محمد زيدان
خاص ( ثقافات )
في المدينة الكبيرة، في كل مكان تقريباً، تنتشر ماكنات خدمة ذاتية لبيع أشياء كثيرة، أشياء صغيرة وأخرى كبيرة الحجم، منتجات غذائية ومواد تنظيف ومشروبات غازية، ومنها ماكنات لدفع التذاكر الخاصة بمواقف السيارات وأخرى لشحن الهاتف النقال وغيرها الكثير الكثير، حتى انني قرأت مرة أنك، في اليابان، تستطيع شراء كل شيء تقريباً من هذه الماكنات، كل شيء من طبق سوشي إلى وجبة ساخنة حتى الملابس الداخلية! إنها نعمة العصر حسب ما قاله لي زميلي في العمل، فأنت لا تحتاج لأن تكلم أحداً من البشر بعد الآن، تستطيع في أي مكان أن تحصل على ما تحتاجه، تدفع للماكنة الذكية وتمضي، دون أن تسمع كلاماً تافهاً كما قال زميلي، دون أن يزعجك إنسان بحديث طويل أو قصير لا طائل منه، دون أن يُكتب عليك أن تكتوي بنيران أحد الأزواج المتشاحنين مع زوجاتهم قبلها بليلة أو أن تُطيّرك عواصف إحداهن النفسية المحتدمة ذلك النهار، كل ذلك معقول ومقبول ومفهوم، ولكن المصيبة الكبرى هي أن هذه الماكنات لها تأثير يشبه السحر على الناس، فما أن يمر بجانبها أحدهم حتى تسحره بألوانها الزاهية وموضعها اللافت فيجد المرء نفسه منساقاً لها واضعاً نقوده فيها سواء كان بحاجة لذلك الشيء الذي تبيعه الماكنة أم لا، والأمر الذي ليس لأحد أن يقاومه أو أن يناقش فيه هو وجود أطفال معك في أماكن تواجد تلك الماكنات، عندها لن يسعفك شيء إذا ما تعلق طفل بواحدة من هذه الماكنات، سوف تجد نفسك مرغماً على شراء ما يطلبه.
في عطلة نهاية الأسبوع الماضية، حصل موقف ظريف عندما وقفت أتأمل المدينة الكبيرة، بشوارعها الممتدة ومبانيها العالية، وماكناتها الكثيرة أيضاً، فجأة بدت لي تلك الماكنات المحيطة بالمكان وكأنها مخلوقات تفهم وتسمع وتعي ما نقوله نحن البشر، فجأة خيل لي أنها تضحك من أعماقها منا، تضحك لسذاجتنا وسهولة خداعنا والحصول على أموالنا، وسرعان ما قادني هذا الخاطر إلى منعطف آخر، فكرت في الناس الذين يسرقون أناساً آخرين، أناس ليسوا ماكنات وإنما بشر مثلهم، في الزعماء الذين أفقروا شعوبهم، في أصحاب الكروش الممتلئة جراء السرقة والنصب والضحك على البسطاء، مهما كان من أمر هذه الماكنات فإنها تقدم لك خدمة مقابل أموالك، تبيعك منتجاً، تعطيك شيئاً ولكن أنتم، يا إلهي كيف يمكن لإنسان أن يفعل شيئاً كهذا بأخيه الإنسان، وفجأة أفقت من أفكاري المجنونة تلك على صوت رجل يبدو وكأنه كان غاضباً، تتبعت الصوت وإذا به رجل قد علقت نقوده في إحدى الماكنات ولم تعطه الماكنة علبة المشروب التي دفع ثمنها، خبط الرجل بقبضة يده على مقدمة الماكنة، “ماكنة غبية” قال بعصبية وهو يقوم بكتابة رقم هاتف موجود في أسفل الماكنة، كتمت ضحكتي لهذا المشهد، وفجأة سمعت الماكنة نفسها تضحك، تقهقه من أعماقها وتقول للرجل: أنت الغبي.
_______
*كاتب فلسطيني مقيم في أستراليا