آلاء عثمان*
في عام 1940، وبداية من الـ14 من يونيو على وجه التحديد، تبدلت ملامح العاصمة الفرنسية الساحرة «باريس» هجرها جزء من سُكانها، تملك الجزء الآخر ريبة وحزن، فيما تخطو قوات الجيش نازي خطواتها الأولى داخل المدينة بعد سقوطها في معركة «باريس».
عم الصمت بعد العاصفة وودع البعض مدينته على أمل لقاء، ومن بين من صمدوا داخل الجدران فنان واجه بريشته وألوانه تنمر البوليس السري النازي في قلب العاصمة الفرنسية المُحتلة إبان الحرب العالمية الثانية، سنوات من الانتظار، وحرية مع نهاية الحرب.
كان الفنان الصامد هو «بابلو بيكاسو» الرسام الإسباني الذي اشتهر بمُعارضته للنظام النازي، بعد أن قدم عام 1937 لوحته الشهيرة «جويرنيكا» التي خلد فيها قصف سلاح الجو الألماني لمدينة باسم اللوحة ذاته إبان الحرب الأهلية الإسبانية، مُخلفًا 1664 من القتلى.
إلا أن قرار «بيكاسو» بالمكوث بباريس كان ليكلفه حياته، أو يضع حدًا لمشواره الفني على بوابات أحد مُعسكرات العمل داخل ألمانيا النازية، لولا تدخل ووساطة من نحات لطالما وُصف فنه بمعبر رسمي عن النظام النازي، يُدعى ذاك، أرنو بريكير.
بحسب عرض مُكثف لسيرة «بيكاسو» ضمن سلسلة «فنانون عالمين» الصادرة عن مكتبة الأسرة، لم تكن المشاعر السلبية التي حملها «الرسام» الإسباني تجاه النظام النازي من طرف واحد، حيث صنفه النازيون آنذاك كـ«بلشفي متدن» أي «ثوري عديم الخُلق».
يرصد الجزء الثاني من «فنانون عالميون» نقطة لتجلي الصراع بين الفنان والمُحتل الألماني عندما ضج استوديو «بيكاسو» بحركة «الجستابو» أو البوليس السري النازي، الذي احتل مقر عمله لفترة مؤقتة بغرض التفتيش إبان الاحتلال، فما كان من ضابط ألماني إلا أنه سأل «الرسام» حينما وقعت عينيه على صورة فوتوغرافية للوحة «جويرنيكا»: «هل فعلت هذا؟!»، فرد «بيكاسو» الاتهام لألمانيا صاحبة المذبحة قائلاً: «لا.. أنت من فعلت ذلك».
لم تستمر العلاقة متوترة بين «بيكاسو» والاحتلال طويلاً قبل أن تتطور لمرحلة جديدة من المواجهة، وذلك بتسجيل الرسام الإسباني كشخص مؤهل للنقل في أي لحظة لمُعسكرات العمل داخل ألمانيا النازية.
وبحسب موقع meaus.com الذي يعرض لمقتطفات من كتاب «الأعمال المُنتقاه لـ أرنو بركير» كانت حراسة قد فرضت على منزله، مع تأكيد وتفتيش على هويات زواره، لتُصبح حريته رهن قرار يدخل حيز النفاذ في أي ساعة، قبل أن يظهر «بريكير» في الصورة، والذي يُعد أحد النحاتين المُفضلين لدى «هتلر» بصفة شخصية.
تنوعت الأسباب التي عرضت «بيكاسو» للخطر، بحسب موقع مجلة The Atlantic الذي أورد من بين عوامل جذب الرسام لأعين السُلطات محاولاته تهريب أموال خارج ألمانيا وصناعته تماثيل من خام البرونز غير المُصرح باستخدامه بالفن آنذاك. إلا أن «بريكير» كان قادرًا أغلب الأوقات على احتواء الموقف مُستغلاً نفوذه لدى زعيم الرايخ الثالث.
بمجرد أن علم «بريكير» عن تطورات وضع «بيكاسو» في العاصمة الباريسية أثناء تواجده في برلين عبر اتصالاً هاتفي، توجه في اليوم التالي لرؤية هينريك مولر، أحد جنرالات البوليس السري الألماني، كما ورد في موقع meaus.com، للتفاوض على وضع زميله في عالم الفن المُعرض للهلاك. إلا أن «مولر» لم يُبدي تعاونًا ملحوظًا، بل سأل «بريكير» ما إذا كان صديقه يهوديًا، وأمام تصميم جنرال البوليس السياسي لجأ النحات للتهديد.
وكما ورد بموقع مجلة The Atlantic، صدر «بريكير» الاهتمام العالمي بفنان بحجم «بيكاسو» قائلاً: «كن حذرًا فإن وضعت يدًا على (بيكاسو) لن تترك الضجة التي ستُسببها وسائل الإعلام العالمية إلا وقد أصابك الدوار».
أنهى تهديده الذي غير مسار المُحادثة بإنذاره بأنه وفي حالة توقيع «مولر» على أي وثيقة بقرار نهائي يُتخذ ضد «بيكاسو» فإنه لن يلجأ للتفاوض، بل سوف يشكو «هتلر» ذاته.
في الجلسة ذاتها تراجع «مولر» عن قرار ترحيل «بيكاسو»، وطلب منه «بريكير» أن يتصل «بباريس» ويؤكد التغير قبل مُغادرته، فأجاب الجنرال: «سوف يستغرق ذلك وقتًا لكن يمكنك أن تثق بي».
ـــــــــ
* المصري اليوم لايت.