أيقونة أسمها ” نهرو”



*د. يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )
” إنني مدافع عن السلام ، وبانتهاج طريق السلام ، فإنه لا بد من الوصول إلى حل لهذه المشكلة ، ولغيرها من المشكلات”/[ من خطاب نهرو بصدد أزمة كشمير] 

والد لشعبه : 
توفى جواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند في السابع والعشرين من شهر مايو 1964 ، بين مشاهد العويل والنحيب والأسى شملت الأمة كلها ، مما لم يكن له مثيل إلا فيما حدث عند اغتيال زعيمه السابق / مهاتما غاندي في الثلاثين من شهر يناير عام 1948 ، ذلك لأنهما كانا ، كل بأساليبه المختلفة تمامًا عن أساليب الآخر ، أكثر من والد لشعبه ، فلقد استطاع تشكيل الهند الحديثة والتأثير في حياتها ، غاندي بتحريرها من الحكم البريطاني ، ونهرو بجعلها دولة عصرية .
ولد نهرو عام 1889 ، في أسرة من الطبقات الاجتماعية المتميزة عند الهندوس ، وتلقى تعليمه في إنجلترا ، حيث كانت مدرسته في (هارو) ، ثم انتقل إلى كلية (ترينيتي) في كمبريدج ، وأصبح محاميًا لدى المحاكم العليا في عام 1912 ، وعندئذ عاد إلى الهند وبدأ العمل في الحكومة والإدارة .
الشاب الوطني الهندي : 
كانت الهند في ذلك العهد واحدة من أقدم المستعمرات البريطانية ، وكان المؤتمر الوطني الهندي الذي قدر لوالد نهرو (موتيلال نهرو) أن يصبح رئيسًا 
له ، أحد الهيئات القليلة التي كان بوسع الهنود أن يفاوضوا عن طريقها حكامهم البريطانيين .
ومهما يكن من أمر ، فإن أيام عظمة الأوربيين وفخفختهم تلك كانت معدودة ، فإن المهاتما غاندي ذلك الوطني الهندي العظيم المنادي بمبدأ أللا عنف في حل المنازعات ، قد بدأ يطالب بان الهند للهنود ، وبإنهاء الاستعمار البريطاني .

وفي عام 1920 ، انضم المحامي الشاب / نهرو إلى غاندي في حملته للدعوة الوطنية ، كما اقتدت به شقيقة نهرو الصغرى ، التي اشتهرت باسم / مسز فيجايا لا كشمي بانديت ، وكان مقدرًا أن يتأثر كلاهما أعمق التأثر برسالة المهاتما غاندي .

والواقع أن الشقيقين الشابين ألقيا بنفسيهما متحمسين في تيار القضية الوطنية ، وكان من نصيب نهرو ذاته الزج به في السجن ثماني مرات فيما بين عامي 1920 ـ 1927 ، بسبب تحدي البريطانيين وإثارة القلاقل السياسية ، وقد أكسبه ذلك شهرة سياسية في الهند .

وفي عام 1929 ، خلف نهرو والده كرئيس للمؤتمر الوطني للهند ، وهو منصب كان مقدرًا أن يتولاه أيضًا في أعوام 1936 و 1937 و 1946 ، وأن يتولاه من جديد بعد الاستقلال في المدة من عام 1951 إلى 1954 ، وفي أثناء ذلك كان ضغط الوطنيين على البريطانيين في تزايد مستمر ، وعند نشوب الحرب العالمية الثانية ، كان واضحًا أن الاستقلال لا بد آت عن قريب .

فإن حركات الاحتجاج السلمي التي كان أساسها الإضراب الطويل بلا عنف ، وفترات الصيام الطويل المدى ، والإخلاص البادي في غاندي ورفاقه ، كان لها جميعًا بعض التأثير على البريطانيين .
الهند الجديدة : 
كان نهرو في أثناء الحرب العالمية الثانية ذا قيمة حيوية للهند ، فإن غدا رئيسًا للمؤتمر الشعبي لجميع ولايات الهند ، ورئيسًا للجنة التخطيط الوطني في عام 1939 ، وهنا كان نهرو في أفضل وضع للمفاوضات من أجل الاستقلال ، إذ كانت الهند في وضع أساسي حيوي ، باعتبارها بلدًا محايدًا في منطقة الشرق الأقصى ، وفي عام 1946 ، عين اللورد مونتباتن نائب الملك في الهند حكومة مؤقتة كان فيها نهرو نائبًا للرئيس .

وفي عام 1947 ، أعلن استقلال الهند ، وقسمت إلى أمتين بسبب المشكلة الدينية ، التي كان من جرائها تصعيب الأمور أمام حكومة الهند بأسرها ، والواقع أن انسحاب البريطانيين الذي بات وشيكًا ، قد بعث الأزمة من جديد بين المسلمين والهندوس ، وقد تقرر بنص قانون استقلال الهند لعام 1947 ، أن يعيش معظم المسلمين في الولايات الشمالية التي شكلت باكستان (قبل أن تنقسم باكستان إلى دولتين باكستان وبنجلادش ) ، وأن يعيش معظم الهنود في الولايات الهندية البريطانية السابقة ، أو الهند الجديدة .
ودستور الهند كما هو قائم اليوم من عمل نهرو إلى حد كبير ، وهو معقد ، ولكنه في أساسه نابع من الديمقراطية الإنجليزية ، وهو في دلالته يومئ إلى تأثير التعليم الغربي لدى نهرو ، وقد أصبح نهرو أول رئيس للهند وزعيمًا لحزب المؤتمر .

كانت سياسة نهرو في الهند تقوم على بناء أمة جديدة ، يغدو بإمكانها أن تعول وتطعم نفسها ، ويكون لها اقتصادها الخاص ، وقد وضع في عام 1951 أول خطة لهم ، وهي خطة السنوات الخمس الأولى ، وقد أدت هذه الخطة إلى زيادة إنتاج الطعام ، بالتركيز على الأساليب الجديدة في الزراعة ، واستكملت هذه الخطة بالإرشاد الحكومي لضبط النسل أو تنظيم الأسرة ، وهو إجراء مثير للجدل والخلاف في الهند ، حيث أن ضبط النسل محظور بموجب العقيدة الهندوكية .

ولم تصادف خطة السنوات الخمس إلا نجاحًا جزئيًا ، بسبب انتشار الأمية والخلافات الدينية ، ومع ذلك فقد ثابر نهرو واستمر في طريقه ، فوضع خطة السنوات الخمس الثانية (1956 ـ 1961 ) ، ثم خطة السنوات الخمس الثالثة ( 1961 ـ 1966 ) ، ويمكن القول أن ما فيه الهند الآن من تقدم كبير في شتى المجالات ، هي مدينة به إلى الجهد الكبير الذي قام به زعيمها / نهرو ، ويكفي ما نراه من تحقيق الاكتفاء الذاتي في الطعام ، والتوسع في الصناعات الأساسية والتكنولوجية .

نهرو في السياسة العالمية : 
لم يتهيأ لنهرو أن يكون فقط زعيمًا لشعبه الذي أحبه وآمن به ، وإنما كان كذلك جانب من مهمته في إقامة هذه الأمة الجديدة ، منصبًا على تأكيد مكانة الهند في شئون السياسة الدولية ، ولقد تمسك نهرو منذ البداية بسياسة الاستقلال والحياد الإيجابي في كافة المسائل الخارجية ، ولا تزال الهند إلى الآن عضوًا في الكومنولث البريطاني ، ولكنها تنهج في سياستها منهج الاستقلال ، وعلى سبيل المثال ففي موضوع السوق المشتركة ، كانت مصالحها تختلف تمام الاختلاف عن مصالح بريطانيا .

ونقرأ أن الزعيم الهندي / نهرو كان يقوم غالبًا بدور الحكم بين الشرق والغرب في أروقة الأمم المتحدة ، وقد رفض تأييد أي نوع من التحالف العسكري الأسيوي الذي قد يؤدي إلى توريط بلاده مع دول غير أسيوية ، كما رفض المساعدات العسكرية من جانب الولايات المتحدة الأمريكية ، وحتى عندما غزت الصين جزءًا من الحدود الهندية في العشرين من أكتوبر 1962 ، ولاحت في الأفق أزمة وشيكة ، لم يفعل نهرو أكثر من إرسال جنود هنود للنجدة ، وتحرى أن يتجنب المتاعب بالتزام جانب الدفاع .

وكان نهرو بحق واحدًا من أولئك الزعماء القلائل في العالم المجاهرين بنبذ سياسة العنف ، وعندما توفي نهرو عام 1964 ، بدا وكأن عهد الاستقرار في الهند قد انتهى ، ولكن مكانه الشاغر وجد من يملأه باقتدار في شخص كل من مستر / شاستري ، ومسز / بانديت شقيقة نهرو ، ومازلت مسيرة الهند التنموية القوية المتميزة مستمرة إلى يومنا هذا لتضرب خير المثل على التعايش السلمي والتعاون والتضامن من أجل واقع أفضل للهند المتعددة الثقافات والديانات والأعراق . 
_________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *