إشكالية فلسفة الوجود النسوي: من الحتمية التراتبية إلى الهيمنة اللسانية


حيدر علي سلامة*


خاص ( ثقافات )
يلاحظ المتأمل في ادبيات عالم الاجتماع العراقي الراحل علي الوردي، كيف استأثرت عليها إشكالية نقد البنية الذكورية/والهيراركية المسيطرة والمشكلة لهوية وجسد المرأة في تاريخ الثقافة العراقية**.
تلك الهوية التي لم تتعرض بعد إلى عملية إعادة قراءة ونقد وتفكيك وتأويل منذ الخمسينيات حتى اليوم. ويعود السبب في ذلك إلى سيادة “النزعة الحرفية والارثوذكسية” في تحديد قضايا المرأة التي طرحها الوردي وحصرها ضمن أيديولوجيا التحرر المطلق والدعوة إلى التمدن الشكلأني للمرأة من خلال الاقتصار على احداث تحولات على مستوى المظهر الخارجي للمرأة…الخ. واللافت في الأمر أن اغلب القراءات التي قُدمت ولا زالت تُقدم من قبل علماء الاجتماع خاصة والمثقفين عامة، لم تتحرر وتتحول من دائرة سلطة الأفكار الحرفية إلى دائرة التأويل الفلسفية. ربما يعود ذلك إلى أن علوم القراءة والتأويل للغة السوسيولوجيا/ وسوسيولوجيا اللغة لم يتم استحداثهما بعد في خطابنا الاجتماعي والثقافي، الامر الذي أدى إلى استمرار منطق الاجترار والتكرار لطروحات الوردي بطرق أنشائية مبسطة ومجردة من ابعادها الثقافية واللسانية، وهذا ما جعل من طروحات الوردي حول المرأة والفلسفة النسوية تبدو تقليدية جدا، في حين أنها تقع على العكس من ذلك، حيث كأنت تمثل في بنيتها حركة راديكالية ونقدية ضد الموقف والسلوك البطريركي anti-patriarchal attitude الذي تحول إلى سوسيولوجيا معتادة ومسيطرة وسائدة في كافة المؤسسات الاجتماعية والعلمية أنذاك. وعليه لا يمكننا الفصل بين موقف الوردي من نقد النزعة البطريركية في جينالوجيا/وأنتيكا الثقافة العراقية؛ وبين نقد الاستبدادية/والسلطوية anti-authoritarianism في مناهج ونظريات العلوم الاجتماعية، خاصة المناهج الامبريقية/التجريدية والوضعية التي طالما عملت على أنتاج/واعادة أنتاج أجيال ثقافية توتولوجية بالضرورة.
من هنا يمكننا أن نعتبر قضية المرأة واحدة من أهم الإشكالات السوسيو-نسوية في ادبيات الوردي الاجتماعية، فدعوة الوردي لم تختصر على تحرير المرأة من سيطرة القيم البالية فحسب، بل أنه في الواقع كأن يدعو إلى “تفكيك جينالوجيا المتخيل الأنتيكي العثمأني القديم”؛ قبل تفكيك الوجود الايتيقي والتواصلي القيمي التقليدي المسيطر على ذهنية ولغة حياة المرأة، فالمتخيل السردي الأنتيكي القديم عمل على مأسسة معظم أنظمة اللغة والعلامات التي تتحكم في أنتاج/وإعادة أنتاج الوجود الايتيقي/القيمي للمرأة، حتى أصبح يمثل نظام الأنظمة القبلي الذي يكون شرط شروط الحياة الايتيقية للمرأة.
فهل الوجود الأنتيكي الرمزي/اللغوي سابق على الوجود الايتيقي القيمي والأخلاقي في حياة المرأة خاصة والأنسأن عامة عند الوردي؟ وهل كأنت دعوة الوردي تشير إلى اسبقية الوجود الايتيقي السيمأنتيكي الذي يشكل المعنى والفعل الأنسأني؛ على الوجود الايتيقي التداولي والتواصلي القيمي في بنية القيم التقليدية النسوية؟ وهل مثل الوجود الأنتيكي عند الوردي نظام من الشيفرات الأخلاقية، يُستبطن في بنية لغة الحياة النسوية الميتافورية؟ 
الوردي/ الغذامي: جدل أبستمولوجيا الفحولة وتاريخ الأفكار النسوي
قد لا نبالغ في القول أن جينالوجيا فلسفة العلوم الاجتماعية والإنسانية في ادبيات العلامة الوردي الاجتماعية والثقافية، كأنت تمثل في واقع الامر مواجهة عنيفة ضد ما يعرف بـسيطرة برادايم ابستمولوجيا الفحولة النخبوية/والطبقية المتحكمة بأنتاج سياسات اللغة/وهندسة نظام العلامات وتشكيلها في سياقات المجتمع التراتبية. وبهذا يكون الوردي قد عمل على تأسيس ممارسة فلسفية تتثمل في تدشينه لحقل نقد الأيديولوجيا/ وايديولوجيا النقد Criticism of ideology الذي يعمل على تقويض منطق وسلطة ابستمولوجيا الفحولة الطبقية الكلية/والمطلقة المسيطرة والمهيمنة على صيرورة وحركة الأفكار في البنية الاجتماعية السائدة. إذ كأن مفهوم نقد الأيديولوجيا مفهوما مزدوجا، فهو من ناحية يمثل نقدا لمناهج ونظريات العلوم الاجتماعية والاكاديمية الوضعية من جهة؛ ويبشر بولادة ما يعرف بتاريخ الأفكار history of ideas في المنطق والفلسفة والعلوم الاجتماعية، فمن خلال هذا التاريخ تخطى الوردي المفاهيم الافلاطونية في الحقيقة الواحدة والكلية ذات الصلاحية والمعيارية Validity الأبدية. وقد أنعكس ذلك على رؤيته للفلسفة النسوية عامة وخطاب الأنوثة خاصة، فلم يعتمد الوردي على نظريات ومبادئ وضعية وصفية في تحليل واقع المرأة اليومي، بل على العكس من ذلك سعى الوردي إلى ربط الخطاب النسوي بتاريخ الأفكار السياسي/والثقافي/والطبقي الذي يشكل هوية وكينونة جسد المرأة ويعمل على إعادة أنتاجها أيديولوجيا وسياسيا بطريقة مستمرة وثابتة بثبات المنطق الاكاديمي الوضعي الذي يمثل الاطار الرسمي لاستمرار صناعة وهم الأنوثة في الثقافة العربية.
وعندما نحاول عقد مقاربة بين طريقة التعاطي مع إشكالية المرأة لكل من: العلّامة الراحل علي الوردي والمفكر الدكتور عبد الله الغذامي. سنلاحظ كيف أنها ستعكس لنا طبيعة الصراع الدائر بين التناول الأكاديمي الوضعي/الرسمي اللاتاريخي عند الغذامي؛ والتحليل الثقافي التاريخي عند الوردي. فعلى الرغم من اهتمام الغذامي بنقد وتحليل إشكالية العلاقة بين المرأة واللغة، الا أن ما يؤخذ على هذا النقد أنه لم يتعرض إلى تفكيك أيديولوجيا المنطق الخفي المتحكم في استمرار ابستمولوجيا الفحولة المسيطرة على خطاب الأنوثة سواء في الجزء الأول من كتابه (المرأة واللغة) الذي اشتغل على المرأة بوصفها منتجة وكاتبة للنص الإبداعي/ والادبي؛ او في الجزء الثأني من كتابه (ثقافة الوهم مقاربات حول المرأة والجسد واللغة) الذي تناول فيه ثيمة المرأة بوصفها موضوعا للنص التراثي/اللغوي/الصوفي. بل أن في هذين النصين يتضح كيف أن معالجة الغذامي لم ترتقِ إلى مستوى التحليل المنهجي وإعادة صياغة/وتأويل النظرية النسوية وبما ينسجم وتحولات النظرية الأدبية والدراسات الثقافية واللسانية المتخصص فيها. بل على العكس من ذلك سنرى بوضوح كيف سيطرت “أبستمولوجيا الفحولة الوضعية” التي طالما حاول الغذامي نقدها وتفكيكها في مؤلفاته السابقة الذكر، ذلك لأنه لم يعمل على تشكيل مقاربات نقدية مبتكرة بين كل من: النقد النسوي؛ والنقد الاكاديمي؛ ونقد منطق المناهج والنظريات الأصولية السائدة والمعتمدة في قراءة وتحليل بنية الوجود النسوي في الواقع الثقافي السائد. وهذا ما جعل من مفهوم “نقد الأيديولوجيا” غائبا ومغيبا في مؤلفاته السابقة الذكر لاعتماده على منطق الوصف والتوصيف وليس النقد والتفكيك، في حين أن هذا يمثل روح وجوهر مشروعه في النقد الثقافي.
لهذا، غَلُبت اللغة الوصفية/الوضعية على معظم مؤلفات الغذامي، لا سيما فيما يتعلق بعلاقة المرأة بكل من: اللغة والوجود والتاريخ. هذه العلاقة التي سيطرت عليها “ابستمولوجيا الكتابة الفحولية الوضعية”، بمعنى آخر، أن الغذامي اعتمد على سياسة هذه الكتابة في نقده وتفكيكه لواقع المرأة، ولم يعمد إلى نقد سلطة المنطق المسؤولة عن تغييب الأنوثة في التاريخ. وذلك لأنه وكما يرى أن: ((كل الذي حدث هو غياب الأنوثة التام عن التاريخ لأنها غابت عن اللغة وعن كتابة الثقافة، وتفردت الفحولة باللغة فجاء الزمن مكتوبا ومسجلا بالقلم المذكر واللفظ الفحل. وظلت الحال على هذا المنوال حتى جاء زمن امتلكت فيه المرأة يد الكتابة، وكتبت… فهل تراها تملك القدرة على تأنيث اللغة او أنسنتها لتكون للجنسين معا، ام أن اللغة قد بلغت منها الفحولة مبلغا لا سبيل إلى مدافعته؟ وهذا العمل ليس بحثا في ادب المرأة وليس دراسة فنية جمالية، ولكنه بحث وسؤال عن المنعطفات والتمفصلات الجوهرية في علاقة المرأة مع اللغة وتحولها من (موضوع) لغوي إلى (ذات) فاعلة، تعرف كيف تفصح عن نفسها، وكيف تدير سياق اللغة من (فحولة) متحكمة إلى خطاب بيأني يجد فيه الضمير المؤنث فضاء للتحرك والتساوق مع التعبير ووجوه الإفصاح.)) (د. عبد الله الغذامي، المرأة واللغة، المركز الثقافي العربي، ط 3، 2006، ص 11).
يتضح من النص أعلاه كيف أن اللغة الوصفية قد احكمت بقبضتها على ناصية مجمل مفاهيمه، فلم يخبرنا الغذامي عن كيفية تحول المرأة من “موضوع لغوي” إلى “ذات فاعلة”؟ ولم يفكك الحلقة المنطقية المفقودة بين جدل الموضوع/ الذات/ الفعل؟ وكيف يمكن أن تتحول المرأة من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة دون البحث في جينالوجيا الذاكرة الاجتماعية والمؤسساتية المتحكمة في صيرورة أنتاج كتل نسوية لاتاريخية؟ وكيف امكن للغذامي الفصل بين الابعاد الاستطيقية واللغوية والثقافية الضرورية لأعادة اكتشاف بلاغة القول النسوي المكبوت والمسكوت عنه في متخيل الثقافة العربية؟ 
وإذا كأن مشروع الغذامي يهدف إلى إعادة اكتشاف تاريخية الوجود النسوي في ادبيات الثقافة العربية من خلال رصد تحولات المرأة من مرحلة تمثلها بوصفها موضوعاً لغوياً محدداً ضمن فضاء النص المكتوب؛ إلى مرحلة تصيّرها إلى ذات فاعلة ضمن الفضاء التاريخي. فلماذا لم يعمد الغذامي إذن، إلى تحليل ونقد “فلسفة اللسأنيات الشكلأنية/الوضعية” ومن ثمة الانتقال إلى تأويل مفهوم الذات النسوية الفاعلة من خلال مفاهيم الشعرية ومناهجها الثقافية والاسلوبية والبلاغية والسردية، بهدف التحرر من النزعة الحتمية المسيطرة على لسأنيات الفعل أحادية التوجه؟
بعبارة أخرى، أن تعاطي الغذامي مع مفهوم المرأة كـ “موضوع لغوي” ادى إلى تثبيت أنموذج متعالٍ للمرأة وتحديدها ضمن فلسفة لغة وضعية/ولسأنيات شكلأنية؛ وإلى تجريد مفهوم act من وظيفته في الأنجاز/والفعل ليغدو مجرد قأنون/ومعيارnormative قارّ وثابت ومحصور ضمن حدود عمل اللغة وتمفصلها مع الجأنب المعجمي او القاموسي lexical والنحوي grammatical والسنتاكسي syntactical. وهذا ما سيجعل بطبيعة الحال، من شكل اللسأنيات المسيطر والسائد على طروحات الغذامي هو linguistic act ، أي اللسأنيات التي تتمركز حول التحليل الشكلأني والنظري للتاريخ والثقافة. لهذا فأن قضية الانتقال بالمرأة من مجرد كونها “موضوع لغوي وضعي” إلى كونها “ذات فاعلة متكلمة” لا يمكن له أن يتحقق دون تفكيك بنية تاريخ المنطق التي سيطرت على فلسفة اللغة واللسأنيات. وبالتالي شكلت/ووجهت مسار فلسفة التاريخ المحدد بأطر وغايات وضعية وقطعية تتجاوز المتخيل البلاغي والثقافي لأنطولوجيا الوجود الأنسأني في التاريخ. ولاستعادة هذا المتخيل كأن ينبغي على الغذامي أن يحقق قطيعة ابستمولوجية ومنهجية ونظرية لاكتشاف المرأة الفاعلة، وهذه القطيعة تتمثل في شعرية الفعل التاريخي المتخيل poetic act- للتوسع حول مجمل المفاهيم المذكورة أعلاه. (ينظر:Hayden White ,Metahistory, The historical imagination in nineteenth century Europe,pp.3o-31.)
وكما يبدو واضحا، أن قضية تحول المرأة من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة، هي قضية إشكالية قبل كل شيء، ولا يمكن لنا التعامل معها بواسطة اسلوبيات الـ “كن فيكون” حيث يحصل هذا التحول بمعزل عن السياقات الأيديولوجية والرمزية القارة والثابتة والمؤكدة والمكررة على مدار التاريخ. ربما كأن من باب أولى أن يتم حصر هذه الإشكالية ضمن فضاء اسلوبياتها الثقافية cultural stylesبهدف رصد وتشخيص مجمل الاشكال الهرمية والتراتبية التي تمثل في مجملها عمل التاريخ الشكلأني الذي يعكس نماذج مثالية ومطلقة تتمثلها المرأة قبل أن تتحول إلى ذات فاعلة. لهذا لا يكفي ربط حركة تحول المرأة وأنتقالها من “موضوع لغوي مكتوب” إلى “ذات فاعلة متكلمة” بسلطة النص الرسمي المكتوب، وتجاوز بلاغتها الفولكلورية ومنظومة الآراء القيمية والأخلاقية التي تُهيكل ذهنية وكيأن المرأة وتشكل احكامها عن طبيعة وجودها في العالم. وهنا يتوجب علينا تفعيل منطق البحث والتحري inquiry في بنية ونظام الطوبولوجيا الاسلوبية stylistic topology ليتسنى لنا إعادة فهم وتأويل إشكالية تحول المرأة من موضوع لغوي إلى ذات فاعلة ذلك لأن هذه الذات لا يمكن لها أن تكتشف وجودها في فضاء النص الرسمي/العقلأني المكتوب فقط، بل لابد أيضا من التركيز على المرأة المتكلمة المتجسدة في التاريخ والوجود الواقعي في العالم. فهي هنا تنتج نصوصا اجتماعية وثقافية لامتناهية في مملكة فضاء الرأي الثقافي العام public opinion بمعزل عن شروط النص الإبداعي الشكلأنية. واللافت أن الغذامي عندما حاول إعادة قراءة خرائط الجسد النسوي المتمفصلة بين ثنايا الخطاب الديني، لم يتجاوز تمركزه المنهجي حول سلطة التراث من جهة؛ وسلطة اللاهوت المثالي theological idealism الرسمي من جهة أخرى، والذي طالما عكس “هيمنة أيديولوجيا دولة البرهأن والعقلنة المطلقة” التي تصادر كل لغة لا تجيد التكلم بلغة البرهنة والسستمة المنطقية الدقيقة. فليس من الغريب إذن أن يتم تغييب لغة الأديأن الفولكلورية/الشفاهية oral folkloric religions التي تخترق لغة اديأن الفحولة الطبقية المسيطرة في كل عصر. اذن كيف يمكن للمرأة أن تقهر أيديولوجيا الفحولة وهي لا زالت خاضعة تحت سلطة فحولة اللاهوت المثالي/الرسمي، بمعنى آخر، أن مفهوم التحول الذي طرحه الغذامي لم يشكل اي قطيعة للأنتقال بالمرأة من سيطرة الجماعات الرسمية – الفحولة التي تتعامل مع المرأة بوصفها موضوع لغوي- إلى جماعات الفضائل والشعائرritual groups- حيث تتحول المرأة إلى ذات فاعلة ومنفعلة باللغة الرمزية الميتافورية ليست البرهأنية والعقلأنية-. ربما لأن الغذامي لم يكن معنيا بتفكيك بنية الوجود النسوي بقدر اهتمامه باستمرار استقرار البنية stable structure خاصة البنية التقليدية الشكلية formal structures. ولهذا السبب لم تحفل حفرياته عن جينالوجيا المرأة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية بأدنى اهتمام بالأطر الذهنية والمفاهيمية التي يشكلها الوجود الأنتيكي/الاثري القديم antiquarianالمتحول إلى اشكال سردية وشفاهية تشكل صيرورة الخطاب في التاريخ.
وهذا ما أدى إلى سيطرة النزعة الامبريقية والوضعية في معالجة قضايا المرأة والتراث، في منهجية الغذامي خاصة وبعض المفكرين العرب عامة، حيث يتم فصل النص text عن مجمل ابعاده الثقافية والاجتماعية والسوسيو- ثقافية واللسانية والتي تؤثر جميعها على عملية تكوين وتشكيل النص. وإلى أن يكون السبب كما رأينا سابقا في عدم توجيه الغذامي أي اهتمام نحو إعادة النظر بعلاقة اللغة والكلام النسوي بسلطة الطراز البدائي archetypes المتمثل بالأشكال الشعائرية والميثية والاعتقادية الراسخة في لغة وبلاغة الوجود اليومي للمرأة. فكيف امكن لمختص في فلسفة النقد الثقافي والدراسات الثقافية أن يتخطى مجمل تلك الاشكال السردية والشعرية التي تأسست عليها مناهج الدراسات الثقافية في الفلسفة الغربية والدراسات الأدبية والنقدية والنصية والاسلوبية و ما شابه؟ وكيف أمكن تجريد هذه الدراسات من وظيفتها في الأنجاز/والفعل act وتحديد مواقع اشتغالها ضمن أيديولوجيا النظرية/ونظرية الأيديولوجيا، لتتحول في خطابنا الثقافي العربي إلى مجموعة من الأسس والمبادئ المنطقية الوضعية والامبريقية الشكلأنية والمنغلقة على مجموعة من الحقائق والمعايير المطلقة ذات الصلاحية الابدية، في حين أنها تأسست في الفكر الغربي على فكرة تقويض ميتافيزيقا المنطق في تاريخ الفلسفة والثقافة الغربية؟ ولماذا نجد أن هناك ثمة تعدد في استعمال مناهج العلوم الإنسانية عند دراسة أي ظاهرة ثقافية عامة في الفكر الغربي، في حين أننا نجد حالة من الضيق والأنحسار في التعدد المنهجي وفي نقد النظرية المتعالية والفقر في أنتاج المفاهيم والعوز الابدي في ابداع القراءة والتأويل؟
في مقابل ذلك، سعى العلّامة الوردي ومن خلال تفكيك سلطة المنطق الافلاطو-ارسطي في تاريخ العلوم الاجتماعية والثقافية التي تحولت بفضل هذا المنطق إلى علوم وضعية استاتيكية راكدة وقارة في أيديولوجيا القوأنين الكلية والامبريقية العامة، إلى إعادة نقد اللغة وتقويض المنطق في سبيل تجاوز تاريخ الحتمية اللسانية والسوسيولوجية المسؤولة عن استمرار سياسة لسأنية واسلوبية واحدية في تاريخ الثقافة عامة وتاريخ المرأة خاصة، والتي لطالما عملت على تهميش ومصادرة الكلام الرمزي / figures of speech للكائن النسوي.
وهذا ما يجعلنا نعود بصورة مستمرة وضرورية للغاية إلى طروحات العلّامة الوردي. لكن، على الرغم من أهمية هذه الطروحات ومعاصرتها المستمرة لمسلسل الانقلابات الثقافية والتحولات السياسية في واقعنا اليوم، الا أننا نلاحظ حالة من عدم الاهتمام الجدي بأدبيات الوردي الاجتماعية ونظرياته في المنطق والفلسفة والكتابة التاريخية والاجتماعية، وهذا يعود إلى سيطرة ابستمولوجيا مشاريع الفحولة الوضعية العربية/الأمبريقية ذات الابعاد الواحدية والتوجهات الأيديولوجية التي لم يندرج ضمن فهرستها الفحولية الميتافيزيقية لتتوجه اليه أنظار المختصين ويجري التعامل معه بوصفه صاحب مشروع ثقافي حاله في ذلك حال المفكرين العرب الاخرين وأن لم يكتب بلغتم ويفكر بمنطقهم. فلم يتصف الوردي بخاصية معيارية منغلقة سواء في المنهج او النقد او التفكير او التنظير، بل على العكس من ذلك، كأن اول من قوض سلطة النزعات الوضعية والامبريقية في الدراسات الاجتماعية والدراسات التاريخية والتراثية في أن واحد، لا سيما في مؤسسات العراق الاكاديمية. ولم يعمد إلى الفصل بين التفاعلية المنهجية /التخصصية interdisciplinary والتفاعلية الرمزية والثقافية، لأنه كأن يرى أن ذلك سيساهم في تحول مناهج العلوم الاجتماعية والفلسفية إلى علوم لتأويل التاريخ الثقافي والاجتماعي للوجود الأنسأني.
ولهذا السبب الرئيس جرى اقصائه واستبعاده، لأن مثل هذه الطروحات لا تخدم فحول الاكاديمية وتوجهاتها الهيراركية من جهة، وفحول السلطة السياسية من جهة أخرى. وبالفعل تمت المحاربة من الجأنبين، وتم توجيه “ضربة فحولية واحدة” اليه. فعلى المستوى الاكاديمي والثقافي شهدت اغلب الكتابات والمؤلفات التي كتبت عن طروحات العلّامة حالة من” الجفاف الوضعي” والتمركز التوتولوجي” على طروحات الوردي الاجتماعية والتعامل معها من داخل العلوم الاجتماعية المنعزِلة عن أي تفاعل بين منهجي/واسلوبي، وهذا أدى بالضرورة إلى تكريس “اسلوبيات فحولية” وضعية لم تنجح حتى هذه اللحظة في تشكيل ما اصطلحنا عليه بـ” الاسلوبيات الايكولوجية” التي تعيد تنقية وتأويل مفاهيم ونظريات الوردي من جهة؛ وإلى تقويض النزعات الحرفية والأرثوذكسية التي تحولت إلى “معايير ثابتة ومطلقة الطلاحية” لدى أساتذة وعلماء الاجتماع في العراق. وهذا امر طبيعي في ظل غياب ثقافة تأويل المناهج والتفاعل مع حقول العلوم الإنسانية الأخرى المسيطرة. ويمكننا أن نعتبر موقف الوردي من واقع تحديث وتحويل المرأة في العراق المثال الأقرب إلى مصداقية ما طرحناه أعلاه.
ختاما ألم يُفعّل الوردي منطق الدراسات الثقافية والنقد الثقافي من خلال تقويضه لسلطة المنطق القديم وتأويله لمفاهيم الثقافة والمجتمع والوجود والتاريخ؟ ألم يكن اكثر راديكالية من الغذامي في نقده وتفكيكه “لأيديولوجيا المثالية الدينية الافلاطونية” التي شكلت شخصيات مزدوجة ومنشطرة على نفسها بين عالمين: عالم يفترض وجود فضائل منطقية مفارقة ومحايثة في أن؛ وعالم “الوجود الأنتيكي” القديم المتحول إلى بنية وأنظمة وشيفرات أخلاقية مستبطنة في شخصيتنا و لاشعورنا وتوجه مجمل ممارساتنا وسلوكنا؟ ألم يكن الوردي ومن قبله المفكر السعودي عبدالله القصيمي هما الاكثر راديكالية من الغذامي وهشام شرابي الذين مأسسوا قضايا واشكالات النقد النسوي من خلال لغتهم الفوقية/الوضعية التي تصف وتفترض اكثر مما تفكك وتقوض؟ أليس حري بنا أن نعد الوردي والقصيمي من المؤسسين الأوائل لفلسفة الدراسات الثقافية؟
—————–
** للاطلاع حول تطور واقع وحياة المرأة العراقية، ضمن جغرافية وثقافة محيطها وتاريخها الاجتماعي والثقافي ينظر كتاب علي الوردي: شخصية الفرد العراقي: بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث، يمكن القول أن الوردي حاول البحث والتحري في هذا الكتاب على ما اصطلحنا عليه ب” الاقتصاد الشعبي لبنية الحياة البطريركية للمرأة المتمفصلة مع بنية الحياة الدينية و الوعظيه/ المثالية/الازدواجية.
__________
*باحث من العراق-مختص في خطاب الدراسات الثقافية وما بعدها.

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *