مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
صمت الحملان
يستعرض الفيلم الأمريكي المثير “صمت الحملان” (1991) (الحائز على العديد من جوائز الأوسكار)، أبعاداً جديدة للجريمة “السيكوباتية” المذهلة، فمعظم أبطال الفيلم مرتبطون بوثاق العقد النفسية المتراكمة، فالمحققة الشابة تعاني من طفولة ماضية كئيبة مليئة بالكوابيس، والطبيب النفسي الشهير هو نفسه مجرم مرعب، آكل لحوم البشر (ومتخصص بأكل الأدمغة والأكباد!)، حيث انعكست شخصيات مرضاه على نفسيته الشاذة بشكل تراكمي-تفاعلي، فحولته لمجرم نفسي بالغ الخطر، وحتى مدير المصحة النفسية يتميز بسلوك غريب وغير سوي… ونرى كل الخطوط تتقاطع وتتباعد وتقود المحققة المثابرة للدخول لخبايا شخصية المجرم الحقيقي، الشاذ جنسياً والسادي البالغ التعقيد، شبه المجنون الذي يتمتع بتعذيب ضحاياه من النساء قبل أن يجهز عليهن ويخيط من جلودهن زخارف فنية! ولا يخجل المخرج “جوناثان ديمي” من إظهار تعاطفه مع المجرم الطبيب البالغ الشراسة، مظهراً بعداً كاريزمياً في شخصيته الطاغية، كما يضفي لمسة عاطفية خفية لعلاقته مع المحققة الشابة، قبل أن يتمكن من الإفلات ليصبح طليقاً حراً! وربما تعزى لهذه العلاقة “الخفية المعقدة” الحبكة الدرامية الغامضة التي قادت الفيلم للنجاح ولحصد جوائز الأوسكار.
أين تكمن عبقرية الفيلم؟
لقد عبر الرسام البريطاني الشهير “فرانسيس بيكون” عن العنف السائد في المجتمعات الغربية، فرسم في لوحاته مشاهد معبرة لوجوه مشوهة ومدماة، وجلود سلخت عن أجسام ممزقة، وهذا ما شاهدناه حقيقة في “صمت الحملان”!
تألق الممثل البارع أنتوني هوبكنز في دور هانيبال ليكتر الطبيب النفسي المجنون المتخصص في أكل “المخ والكبد” البشري، وقد نال جائزة الأوسكار كأحسن ممثل على الرغم من أن ظهوره على الشاشة لم يتجاوز الست عشرة دقيقة، والغريب أن ليكتر مسجون لجنونه الإجرامي ونزعته “الافتراسية”، في حين أن المجرم المتسلسل الحقيقي الآخر ما زال طليقاً ويدعى “بوفالو بيل”، وهو متخصص بنزع الجلد البشري وتعذيب ضحاياه والتنكيل بهن قبل قتلهن! كما تبدو العلاقة بين ليكتر وكليرس (جودي فوستر وقد نالت أيضاً الأوسكار عن دورها الباهر) غامضة وبها انجذاب “شبه رومانسي”، حيث يوافق ليكتر على مساعدتها لبناء فكرة واقعية عن شخصية المجرم بوفالوبيل ونمط سلوكه البالغ القسوة والشذوذ، شرط أن ترفض شرط عميل الإف بي آي “جاك كراوفورد” بأن لا تسمح بشخصية ليكتر الطاغية بالنفاذ لعقلها والتأثر به! كما نجح المخرج ديمي (الذي نال الأوسكار كأحسن مخرج) في إظهار عزلة كليرس المرعبة، وأظهرها كشخصية عارية “مجازاً”، حيث كدنا نطلع كمشاهدين على كل خفايا سلوكياتها ومخاوفها. تمكن ليكتر ببراعة من النفاذ لشخصية المحققة “كليرس ستاريس” عندما أجبرها (وقايضها مقابل إعطاء معلومات عن القاتل المهووس) على سرد طفولتها البائسة، وخاصة عندما تيتمت وهي طفلة ولجأت مجبرة لمزرعة أقرباء تحتوي على مسلخ للحملان، وكيف عجزت عن إنقاذ حمل وديع أحبته، وبقيت ذكراه عالقة بذهنها وتؤرق لياليها: وربما من هنا تم مجازاً اشتقاق عنوان الشريط “صمت الحملان”: فهي تذبح وتسلخ صامتة ولا تستطيع أن تعترض!
بالإضافة لكاريزما ليكتر الطاغية، تكمن النقاط اللافتة في هذا الشريط المدهش في قدرة ليكتر على الهروب من حراسه على الرغم من إجراءات الحراسة المشددة، ثم في التركيز الفريد على دواخل نفسية القاتل الشاذ، الذي يبدو أنه كان كارهاً لجنسه “كذكر ظاهري”، ويتمنى في أعماقه لو ولد كأنثى وعاش كامرأة، من هنا فقد وجه حقداً مرضياً دفيناً مرعباً ضد جنس النساء، فنراه يستغل مهاراته كخياط بارع لكي يستخدم جلد ضحاياه المنزوع أو المسلوخ (وهن ما زلن على قيد الحياة) لحياكة الفساتين والملابس النسائية!
إن إعطاء عدة جوائز أوسكار لهذا الفيلم يدل على هيمنة هواجس الجنس والشذوذ بأنواعه على الثقافة الدارجة حالياً في الغرب، الذي يعترف صراحة بكل أنواع الشذوذ بلا رادع أخلاقي أو ثقافي، من منطلق تقديسه المبالغ به للحرية الفردية والشخصية ومن منطلق هيمنة “العلمانية-الليبرالية” على الفكر وأنظمة الحكم الديموقراطية، والذي يحرض “بحماس” لانتقال هذه “الحقوق” (المثلية) لبلدان العالم الأخرى، بلا اعتبار لثقافات وعقائد الشعوب الأخرى التي تقمع هذه التوجهات ولا تحبذ إظهارها علانية (إذا بليتم فاستتروا)!
فيلم “هانبيال”
متاهة من الملاحقات الشيقة ونمط إجرامي فريد وحابس للأنفاس!
في العام 2001 تم إنتاج فيلم رعب سيكولوجي جديد بعنوان هانبيال، ويعتبر امتداداً طبيعياً لـ”صمت الحملان”، وتم إسناد البطولة الرئيسية لأنتوني هوبكنز بمسماه الفيلمي “هانيبال ليكتر”، واستبدلت جودي فوستر بجوليان مور للقيام بنفس الدور كمحققة، ويحكم السيناريو الحابس للأنفاس هنا سعي ماسون فيرغر (ومثل الدور بشكل لافت جاري أولدمان) للانتقام من ليكتر، ومحاولة اعتقاله وتعذيبه وقتله، نظراً لقيام هذا الأخير بالتنكيل به و”أكل” جزء من وجهه، وتحويله لكائن مسخ معاق، حيث يخصص ثلاثة ملايين دولار لقاء القبض عليه حياً، ويرسل لملاحقته عميلاً ذكياً، لكن ليكتر بدهائه ومراوغته يتمكن من الإيقاع به وشنقه بطريقة استعراضية من شرفة أوتيل في مدينة فلورنس الإيطالية، حيث تدور الملاحقات الشيقة بلا هوادة، وحيث يحقق مفتش شرطة يدعى رينالدو باري في الظروف الغامضة لفقدان أمين مكتبة، ويضطر لمواجهة ليكتر الذي تختفي ببراعة وراء شخصية جديدة تدعى دكتور فيل بصفته أمين المكتبة الحالي! كما يصر فيرغر بالقبض على ليكتر حياً وإلقائه في حظيرة خنازير متوحشة جائعة (أعدت خصيصاً) ليتم افتراسه، ولكنه وبفضل دهاء ومراوغة ليكتر يفشل بتحقيق مسعاه بالانتقام، حيث يحدث العكس تماماً فيتعرض فيرغر نفسه لشراسة الافتراس من قبل خنازيره المتوحشة!
وفي لقطة مدهشة تمثل قمة الرعب والغرابة، نرى ليكتر يقوم بأسر عميل وزارة العدل باول كريندلر (الذي رشاه فيرغر للقبض عليه)، ويقوم بهدوء طبيب جراح بتخديره بجرعة مورفين كبيرة ثم يوثقه بكرسي متحرك في غرفة طعام فاخرة، ثم يقدم بهدوء مرعب بإطعام كريندلر الضعيف المنهك والمخدر جزءاً من دماغه، بعد أن يكون قد شق جمجمته بمهارة جراحية متقنة، وذلك قبل أن يقدم على قتله، ثم يتمكن من النجاة والهرب قبل مداهمة الشرطة للمنزل! تطلب إخراج هذه اللقطة براعة “مونتاجية” فائقة وتحضيراً خاصاً لإنجاز مشاهد كاملة حابسة للأنفاس وخالية من الأخطاء.
ثم نرى ليكتر لاحقاً وهو يستقل طائرة وبحوزته صندوق طعام صغير، يجهز نفسه لتناول وجبة تحتوي على جزء من دماغ المسكين كرندلير، وحيث يسأله ولد صغير في المقعد المجاور فيما إذا كان يستطيع أن يتذوق بعضاً من طعامه، ويقدم له ليكتر لقمة صغيرة، وينهي الطفل البريء الحوار بأن أمه تدعوه دوماً لتجربة تذوق أشياء جديدة!
كان الأمر يتطلب قيام جاري أولدمان بقضاء ست ساعات يومياً لكي يظهر بشكل “المسخ المقعد” الذي شاهدناه واستمتعنا بالأداء الاستثنائي لهذا الدور الصعب، بالإضافة للمسة إنسانية تفاعلية نادرة لا يقدر عليها إلا عباقرة الممثلين، أما هوبكنز فقد تفوق على نفسه بتقمصه الإبداعي لدور الطبيب المجنون السيكوباتي، وتمكن من تقديم صورة جديدة للقاتل السادي الانتقائي الذكي، الذي لا يقتل مجاناً، وإنما يوجه إجرامه الفريد للتنكيل بالخصوم “الوقحين السفلة والأوغاد”، وإن كنت تعاطفت تماماً مع ضحيته المسكين كريندلر الذي استأجره فيرغر للقيام بقتله، وربما قصد المخرج أن يجعلنا نقارن هنا مجازاً مع شخصية “روبن هود” الأسطورية، الذي كان يسرق الأثرياء ليعطي الفقراء، ولكنه لم يوفق تماماً بعمل هذه المقارنة! قام المخرج الأمريكي الشهير ريدلي سكوت بإخراج هذا الشريط، مستنداً لرواية ضخمة لتوماس هاريس ومستعيناً بميزانية كبيرة.
أفلام أخرى تتحدث عن الجريمة بأنواعها:
قبل أيام شاهدت فيلماً أمريكياً آخر يتحدث عن وقوع كاتب شهير في أسر ممرضة سادية (تعاني من حالات الهوس الجنوني)، وذلك بعد أن أنقذته من حادث انقلاب سيارته في عاصفة ثلجية، ثم تتصاعد وتتفاعل العلاقة الغريبة بين الجلاد. (الممرضة) والضحية (الكاتب) بوتيرة مشحونة بالكراهية والسادية والعنف لتنتهي بصراع دامٍ، تقتل على أثره الممرضة! كما تناول المخرج الأمريكي “أوليفر ستون” في الفيلم الشهير الذي يحمل اسم الزعيم الأمريكي الراحل “كنيدي”، معظم خفايا عملية الاغتيال المثيرة التي حدثت في دالاس عام 1963، حيث يلمح لتواطؤ محتمل لكل من المخابرات والمافيا في عملية الاغتيال!
تتحدث كل هذه الأفلام وغيرها، والتي هي نتاج إبداع فنانين أمريكيين، وتستند ربما لقصص واقعية، تتحدث عن الجريمة بأنواعها في المجتمع الأمريكي، وكأنها إفراز طبيعي لنمط الحياة الأمريكي أو الغربي (الذي نسعى لتقليده!)، والذي يعبد المال والملذات والمظاهر الشكلية الاستعراضية، ويبتعد عن القيم الروحية، واقعاً أسير منهج “البرجماتية النفعية”، مجتمع يلجأ أفراده للمسدس والبندقية عند أقل استفزاز أو إحباط، أو حتى بدافع الحقد والحسد والمرض والعقد النفسية، مجتمع تعاني مدنه من الغابات الإسمنتية المليئة باللافتات الإعلانية والإضاءة الباهرة الملونة وكل أنواع وأشكال التناقضات، وممتلئ بالاحتقان والكراهية الخفية والسموم العنصرية والأنانية والاغتراب، ومع ذلك فقد نجح بأعجوبة (لا يعرف سرها) في إقامة حالة متوازنة من التوازن والسلم الأهلي المقبول، يبدو أننا عجزنا من إقامتها في مجتمعاتنا العربية البائسة، التي عانت وتنتظر ربيعاً عربياً مدمراً ساحقاً ماحقاً، لم ولن يستفيد منه أحد ولم تنبت فيه لا الزهور ولا الورود، وإنما سالت فيه الدماء وحزت الرؤوس وقصفت القرى والمدن! وحتى أكون منصفاً فيجدر التنويه بممارسات العدالة والصدق وتكافؤ الفرص والنزاهة والحرية وقمع الفساد بأشكاله والشفافية والديموقراطية، كذلك بنمط الانضباط العلماني (العقلاني) المانع لسيطرة الانتهازيين وتجار الأديان والأوطان وأمراء الحروب والنزاعات، والتي تمثل بمجموعها صمام أمان (تتحكم به عناصر الحكمة والذكاء والوعي الجمعي)، مما يمنع انزلاق المجتمعات الغربية عموماً في دوامة الصراعات الأهلية والطائفية والاقليمية والعرقية، وهذا ما عجزنا في عالمنا العربي البائس من إقامته حتى الآن!
ويبدو أن أفلام “الجريمة المنظمة” قد أصبحت وسيلة تجارية للربح المالي في شباك التذاكر، كما أصبحت وسيلة للتنفيس عن الإعجاب الكامن بشخصيات المجرمين الشريرة والكاريزمية في آن، فأفلام آل كابوني والعراب والمافيا بأنواعها، وكذلك أفلام الرعب والجريمة النفسية هي التي تتصدر شباك التذاكر وتحقق الإيرادات والجوائز وتنال أحياناً إعجاب النقاد: إذن فهناك تمجيد للجريمة بأشكالها، كما تلمع هذه الأفلام الشخصيات الإجرامية وتضفي الجاذبية على سلوكياتهم العنيفة والشاذة، وبذلك فهي تشجع الإجرام دون مواربة، وتسعى بشكل أو بآخر لتحريك نوازع الشر الكامنة وتدفعها للتقليد والمحاكاة…
لقد اكتشف الخليفة عمر بن الخطاب ببصيرته العبقرية مكامن السلوك البشري القويم: “جعلنا على الناس لنسد جوعهم ونستر عوراتهم ونؤمن حرفتهم، إن الله خلق الأيدي للعمل، فإن لم تجد في الطاعة عملاً، التمست في المعصية أعمالاً”، كما أدرك بعده العلامة أبو حامد الغزالي تأثير المجتمع في توجيه أفراده للفضيلة أو للجريمة والرذيلة، فقال ببلاغة حكيمة: “الصبي جوهرة نفيسة ساذجة، خالية من كل نقش وصورة، وهو مائل إلى كل ما يمال إليه، فإن تعلم الخير نشأ عليه، وإن عاود الشر، فإن إثمه في رقبة القيم عليه”!