فدوى طوقان.. كابوس الرعب من الغارات الجوية


*عزمي عبد الوهاب


بعد أن كتبت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان سيرتها الذاتية تحت عنوان «رحلة جبلية.. رحلة صعبة» عاودت مرة ثانية كتابة السيرة، وأعطتها عنوان «الرحلة الأصعب»، حيث تنفتح السيرة الثانية على المشهد القاسي في يونيو /‏حزيران 1967 عندما كانت في القدس يوم الاثنين الخامس من حزيران، واقترح عليها أحد الأصدقاء أن تغادر إلى عمان أو بيروت «فالحرب وشيكة الوقوع، وهذا شيء مؤكد».
لكن فدوى طوقان رفضت فكرة الهرب، رغم أن فكرة الحرب كانت تملأها بالرعب، لقد مرت بهذه التجربة سنة 1948، حيث كانت طائرتان «إسرائيليتان» تضربان المدينة صباح كل يوم، وأصبح النوم في الطوابق العليا غير مأمون، منذ ذلك اليوم كما تقول طوقان «أصبحت مسكونة بكابوس الرعب من الغارات الجوية المباغتة، لست أخاف الموت، إنه النوم الأبدي، ما أخشاه ويملؤني رعباً هو الإصابة بعاهة تقعدني عاجزة مكسورة».
كانت تسير في الشارع وصوت أحمد سعيد في «صوت العرب» يزف البشرى للجميع أن صواريخ الدفاع المصري تسقط كذا وكذا من طائرات الجيش «الإسرائيلي»، وكما تصف طوقان الحال فإن «كلمات المذيع كانت تنطلق كالقذائف متلاحقة، محمومة، والوجوه من حولي تكسوها تعابير غير واضحة».
ظلت الحقيقة غائبة لمدة خمسة أيام، وفي اليوم السادس صمتت المدافع في كل مكان، عملاً بقرارات مجلس الأمن الدولي، التي أصرت على وقف إطلاق النار بعد أن اكتمل السقوط التام، سقوط الضفة الغربية والقطاع والجولان وسيناء، وفي ضحى اليوم الثامن طرقت شقيقة الشاعرة الباب، والدموع في عينيها وصوتها مختنق بالبكاء، لتبلغها نبأ احتلال الجيش «الإسرائيلي» لمدينة نابلس، كانت مكبرات الصوت تلف الشوارع معلنة حظر التجوال بأمر من القائد «الإسرائيلي».
تقول فدوى: «منذ اليوم الأول التزمت بيتي ولم أبرحه قبل مرور شهرين على الاحتلال، كنت أحس بضربات قلبي تتسارع كلما فكرت بالنزول إلى المركز التجاري في قلب المدينة، فلقد كان مجرد تصوري للواقع المتجسد بوجود «الإسرائيليين» ودباباتهم وأصوات مجنزراتهم يهز كياني ويعطل قدراتي على الحركة».
في هذا الجو الخانق والحصار بدأ الشباب المهتمون بالشعر والأدب يفدون على بيت فدوى طوقان، وكان القاص توفيق فياض أول هذه الوجوه، كان يأتيها بجريدة «الاتحاد» وغيرها من المجلات والصحف، ومن خلالها تعرفت إلى إميل حبيبي وإميل توما وعلي عاشور وصليبا خميس وغيرهم من «رسل القوة وأعداء الضعف والانهيار، أولئك المعلمون الكبار حاملو الشرارة من النار المقدسة، والمبشرون بانتصار الحياة» على حد تعبير فدوى طوقان.
انتزعت طوقان نفسها من الانهيار والدمار والغربة، وقامت بجولة في يافا، وزارت حيفا، ورأت الدمار الحقيقي، وبكت حين رأت، رغم أنها اصطحبت معها في الطريق إلى حيفا قصيدتها «لن أبكي» في حيفا كان لقاؤها الأول بالشاعر محمود درويش أو «شاعر الشعراء» كما تصفه، والذي قال لها: «ها نحن نلتقي يا فدوى، وقد أصبحت أخشى من مجيء يوم تأتي إلينا فيه أم كلثوم أو نزار قباني» كان وراء كلماته مرارة لمستها فدوى طوقان، وحين انتهت من قراءة قصيدتها قال لها: «نحن مدينون لك منذ اليوم بقصيدة».
تكررت الزيارات إلى حيفا والناصرة، للقاء «شعراء الرفض والتمسك بالهوية القومية»، في كل زيارة كانت تجد سميح القاسم تارة، ومحمود درويش تارة، محكوماً بالإقامة الجبرية في البيت، وبتسجيل اسمه يوميا لدى مركز الشرطة.
ذات مساء تلقت فدوى طوقان مكالمة هاتفية من محمود درويش يطلب منها مساهمة في باب اسمه «صفحات من مفكرة» حين كان رئيساً لتحرير مجلة «الجديد» وما كتبته في هذا الباب كان النواة التي انبثق منها كتابها «رحلة صعبة.. رحلة جبلية». تشير طوقان إلى أن سلطات الاحتلال كانت تصادر الكتب والمجلات، وكان بعض الشباب يستعيرون من مكتبتها الخاصة الكتب دون أن يعيدوها، وعن طريق واحد من جماعات الضغط الأمريكية، كانت تصلها مجلتا «الآداب» و«مواقف» وكانت تعيرهما إلى محمود درويش وسميح القاسم، فور الانتهاء، منهما، كان درويش آنذاك مفتوناً بأدونيس ومجلته «مواقف» وهنا تشير إلى مقطع من رسالة سميح القاسم اليها: «برغم كوني مديناً لك بعدة مجلات، فإنني أجد في نفسي المزيد من الجرأة، لأطلب المزيد من المجلات، حتى لو أنني فقدت بعضها، فلن تخرب الدنيا أكثر مما هي عليه من خراب: أنا فاقد وطنا فما خوفي على فقدان زهرة؟».
تتذكر طوقان لقاءها بجمال عبد الناصر في أواخر ديسمبر عام 1968، وكيف أنها حدثته عن «أولئك المتجذرين في أرضهم منذ عشرين عاماً، برغم تحديات الحركة الصهيونية التي تواجههم»، وتتذكر أيضا أن حملة ظالمة طالت القاسم ودرويش حين شاركا في «مهرجان صوفيا للشباب» ضمن الوفد «الإسرائيلي»، وقرأت هي مقالاً في جريدة «الأنوار» اللبنانية أثناء وجودها في عمان، وكما تقول: «كان واضحا كل الوضوح أن هدف الكاتب المفتري تحطيم هذين الرمزين الوطنيين وتشويه صورتيهما في الوجدان العربي».
كان غسان كنفاني آنذاك محرراً بجريدة «الأنوار» فأرسلت إليه طوقان رسالة تعقب فيها على الجريدة التي سمحت بنشر ذلك المقال المغرض، وقالت في رسالتها: «أنت يا غسان أول من عرفنا بشعراء المقاومة الرافضين، وأنت أول من علمنا تقديس أولئك الذين يقاتلون العدو الصهيوني الشرس من جبهة الكتابة، فكيف تسمح بنشر ذلك المقال؟»، وحين زارت بيروت والتقت غسان في جريدة «الأنوار» عبر لها عن حقيقة كونه لم يطلع على المقال قبل ظهوره في الجريدة.
تقول فدوى في أحد فصول سيرتها: «كان من عادتي أن أقضي بضعة أسابيع في القاهرة في فصل الشتاء بين العام والآخر، وكلما تيسرت لي الظروف، لقد ظلت هناك علاقة نفسية قائمة بين القاهرة وبيني، فمن خلال صحافة مصر الأدبية وبالذات مجلة «الرسالة» لصاحبها المرحوم أحمد حسن الزيات، انتشرت قصائدي وعرفني قراء العالم العربي، مما كان عاملاً مؤثراً شجعني على الثبات والاستمرارية في مسيرتي الشعرية».
«الحدود تفتحها الهزيمة والمسافات تقع بين نابلس وغزة» تلك هي الخلاصة التي توصلت إليها فدوى طوقان، لكن العبور من مكان إلى آخر يحتاج إلى تصاريح، وهي تكتب قصيدة «آهات أمام شباك التصاريح» لتكتب صحافة «إسرائيل» «شاعرة في القرن العشرين من أكلة لحوم البشر» وكما تقول فدوى طوقان: «انتشر خبر القصيدة في «إسرائيل» وأصبحت قصيدة سيئة السمعة إلى حد بعيد، تلقيت بعد ذلك رسائل بلا تواقيع، وكلها تتضمن معنى التهديد، ولعل أكبر نكتة تتصل بالقصيدة رديئة السمعة هي كما قيل لي إن بعض اليهود حين كان يدخل مطعماً في «إسرائيل»، كان يطلب قائمة طعام فدوى طوقان».
تختتم فدوى طوقان سيرتها بهذا المقطع الدال: «إن شعبا ظل على مدى عقود طويلة يمارس النضال بحثاً عن حريته، وإصراراً على استرداد وطنه الضائع، دون يأس أو تراجع، لهو بحق شعب فوق الفناء، فوق الاندثار، هذا ما تؤكده حركة التاريخ».
______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *