*ندى الأزهري
لعل أول ما نلاحظه في فيلم «ناهد» هو أنه يكاد يكون صوراً رمادية تعكس شخصية بطلتها تتوالى لترسم لوحة لامرأة إيرانية تعاني من قوانين بلدها وعاداته. ومع هذا ليس» ناهد» فيلماً ملتزماً صُنع ليعبّر عن المرأة الإيرانية بل عن «امرأة» إيرانية في وضع معين كما تقول صانعته ايدا بناهنده. إنه من أفلام الواقعية الاجتماعية مع إسقاطاتها السياسية والدينية، غير المباشرة بالطبع، التي عودتنا عليها السينما الإيرانية. إنما ليس هذا فقط، فهذا الفيلم يحتاج الى أكثر من توصيف بارد كهذا، «ناهد» فيلم حميمي وشخصي، متميز شكلياً، إنه حكاية كتبتها المخرجة لتسرد عبرها ملامح من حياة والدتها التي ترملت شابة وكان عليها إعالة أطفالها.
ليس صعبا أن تكوني امرأة
الفيلم يعرض في الصالات الفرنسية هذه الأيام بعد أن كان حجز مكاناً له في قسم « نظرة ما» في مهرجان كان الأخير ونال جائزة التحكيم الخاصة. تنفي المخرجة في حواراتها مع الصحافة الفرنسية الفكرة المأخوذة عن نساء بلدها بل تؤكد «أن تكون امرأة في إيران ليس هذا بالأمر الصعب». ذلك لا يمنع أنهن في حاجة أحياناً إلى نضال مضاعف كي يحققن وجودهن وكي يتحايلن على بعض القوانين المجحفة، «ناهد» مثالاً.
«ناهد» مطلقة من زوج محبّ، إنما مدمن مخــــدرات ومنشغل بالحصول على المال بطرق غير مستقيمة. يقبل باحتفاظها بولدهما الذي يقترب من عتبة المراهقــــة شريطة ألا تتزوج. على أية حال القانون أيضاً يشترط هذا. تلتزم الشابة فتـــــرة إلى أن تقع في حب «مسعود» وهو رجـــل متزن ووسيم وغني! جاذبية وقوة الفيلم تكمنان في شخصية «ناهد»، هي أم محـــبة، لكنها أيضاً امرأة جميلة تقع في الحــــب وترغب في العيش مع الحبيب. إنها إنسانة عادية، ليست قديسة بل يمكن لها أن تكون عنيفة وكاذبة ومراوغة… تعمل من دون الحصول على ما يسد احتياجاتها، تتعلل أحياناً بالظروف لتترك عملها قبل انتهاء الدوام. كما أنها ليست مثالية في عنايتها بطفلها. فهي تنشغل عنه أحياناً لملاقاة حبيبها، وتستعير – حتى لا نقول تسرق – قطعة مصاغ من أمها المريضة لتفك أزماتها المالية المتلاحقة. وهي مرات تضطر للجوء إلى الكذب على طليقها وزوجها الجديد تجنباً للمزيد من المشاكل… بيد أن كل هذا لا يؤثر في التعاطف معها، قد يفاجىء سلوك لها إنما من دون أن يقود إلى الحكم عليها. عدم إلقاء الأحكام التي تجنّبت المخرجة الوقوع فيه، نجحت في إبعاد مشاهدها عن فعله كذلك. ثمة شيء هنا يذكّر بالمخرج الإيراني الذي بات عالمياً «أصغر فرهادي»، ليس فقط في تجنبه التام لإطلاق الأحكام على شخصياته، بل أيضاً في بساطة أسلوبه وإدارة ممثليه وإيقاعه وأمكنته… فمكان وقوع الأحداث في «ناهد» مدينة هادئة في شمال إيران تقع على بحر قزوين، تماماً كما فيلم فرهادي «عن إيلّي»، كذلك ثمة تشابه في إيقاع الفيلم السريع وتشعب السرد الذي وإن تمركز حول شخصية فهو لا يغفل بقية الشخصيات والارتباطات المعقدة في ما بينها، كما أنه يوغل عميقاً في دواخلها. بطلة «ناهد» سارة بيات هي نفسها التي لعبت دور الخادمة في فيلم فرهادي» انفصال».
ابتكار الحياة
إيحاءات لم تمنع تحلّي الفيلم بهوية خاصة فهي سرعان ما تدع المشاهد يندمج به وينسى كونه سبق ورأى شيئاً كهذا.
كيف ستحل «ناهد» مشكلة الاحتفاظ بابنها وحبيبها معاً على رغم القانون وعلى رغم طليقها الذي يلاحقها و يريد عودتها؟ لا حلّ إلا بزواج موقت «بمسعود» غير مشهر، انتظاراً لحلحلة الأمور. زواج المتعة الذي ينظر إليه «على نحو سيء» في إيران كما صرحت المخرجة، سيكون المَخرج لفترة إلى أن يعرف الزوج والأهل الذين يرفضون ارتباطاً جديداً لناهد.؟ هنا تصل عقدة الفيلم إلى ذروتها ويتطوّر السرد المبني على أسس متينة ليتفرع في اتجاهات مسدودة عدة في معظمها، مآزق ثقيلة تتراكم من طليق مدمن عنيف وذي علاقات مشبوهة وابن يبدأ بالسير على خطى والده، مروراً بديون تلاحق ناهد وصاحب بيت يطردها وصولاً إلى زوج يكتشف كذبها.
لكن «أيدا بناهنده» تنجح تماماً في الإمساك بخط السرد على رغم تشعبه، وتستعين بمؤثرات صوتية ومشهدية تخفّف من ثقل هذا التراكم، عبر الموسيقى وهذا اللون الرمادي الذي صبغت به كل مشاهدها، ما أتاح لها نثر ألوان هنا وهناك تلتقط انتباه المشاهد وتقود نظراته، كوشاح خمريّ أو قارب أحمر أو قطعة خشب زرقاء تبرز ضمن رمادية المشهد. نثرات كانت تضفي على المشهد جمالية من نوع خاص تذكرنا بدراسة المخرجة للتصوير قبل توجهها للإخراج.
المخرجة كانت أيضاً تكتب قصصاً قصيرة حوّلتها إلى سيناريو أفلام قصيرة، كما أنها عملت في التلفزيون قبل أن تنتقل إلى السينما وتحقق فيلمها الروائي الأول هذا. في حوار مع مجلة « تيلي راما» الفرنسية تقول إن النساء في إيران يُعاملن باحترام كبير على عكس ما يظنه الأوروبيون، وثمة اهتمام خاص بهنّ في عالم السينما على اعتبار أن قلة منهنّ يعملن في هذا المجال مقارنة بالرجال، فالمرأة «مهمّة كواجهة» والمنتجون أكثر اهتماماً بعملها. إنما هذ لا يمنع أن ثمة تمييزاً تجاههنّ كما يحصل في بقية أرجاء العالم.
أما عـــن مدى اهتــــمام الرقابة وتدخّـــلها بفيلمها فيبدو أن كل المطلوب مـــنها كان فقط «ألا تبدي انعكاسات ســـياســية» لعملها. هي على أية حال كانت مهتمة بإبراز البعد الإنساني لشخصياتها متجاوزة بهذا الخطاب السياسي.
_______
*الحياة