شكري والمازني.. صداقة احترقت بنيران النقد


*محمد ولد محمد سالم



نسجت بين الشاعرين عبد الرحمن شكري (1886-1958م) وإبراهيم عبدالقادر المازني (1889-1949) صداقة عميقة تأسست على رؤى ثقافية وأدبية ووطنية مشتركة، كانا التقيا حولها أثناء صحبتهما في مدرسة المعلمين في القاهرة، فتوثقت صلتهما، وقد اكتشفا طريقاً جديدة في الأدب وقرض الشعر، واشتركا في مشاعر الوطنية التي كانت متقدة في تلك الفترة، وعلى بساط هذه الصداقة، انهمكا في القراءة والبحث عن الجديد، وتأليف الشعر الذي يغاير الطريقة السائدة، ما أرهص بحركة أدبية جديدة سيكون لها فيما بعد صدى كبير، وأثر واضح في تطور الشعر العربي.
تعلم عبد الرحمن شكري في الكتاتيب ثم التحق بالمدرسة النظامية في مدينة بورسعيد، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1904 والتحق بمدرسة الحقوق في القاهرة، ولكنه فصل منها لاشتراكه في المظاهرات التي نظمها الحزب الوطني غضباً من حادثة دنشواي التي قتل فيها مصريون، ثم التحق بمدرسة المعلمين العليا، التي سيلتقي فيها بصديقه إبراهيم المازني، وأثناء ذلك كان شكري قد تمكّن من اللغة الإنجليزية، وأخذ يقرأ بها الأدب، ففتحت له قراءاته تلك عالما كان غائبا عنه، ومجالات من الرؤى والتخيل لم يكن شعراء العربية قد ارتادوها، وكان يطلع صديقه المازني ذلك الفتى المتقد الذهن المولع بالجديد على تلك الأفكار، فيطرب لها، وتستهويه بشدة، ويأخذان في تطبيق تلك الرؤى في شعرهما، وهما على وعي بما يقدمان عليه من تجديد، ونقد الشعر المصري السائد في تلك الفترة على أساسها، وتكون حصيلة تلك الفترة ديوان عبد الرحمن شكري «عند الفجر» الذي أصدره وهو طالب عام 1909، وهو الديوان الذي حمل بذور حركة التجديد في الشعر العربي، وجعل من شكري الرائد الأول لها، حمل شكري لواء المدرسة الرومانسية وأعانه عليها صديقاه العقاد والمازني، وفي نفس السنة التي صدر فيها الديوان يتخرج الصديقان من مدرسة المعلمين، فيحصل عبد الرحمن شكري على منحة دراسية لمدة ثلاث سنوات إلى جامعة شيفلد بإنجلترا، حيث سيدرس الاقتصاد والاجتماع والتاريخ والفلسفة إلى جانب اللغة الإنجليزية، أما المازني فيذهب للتدريس.
كانت حماسة الشعر والكتابة الأدبية تجري في عروق إبراهيم عبد القادر المازني، وقد حاول قبل أن يلتحق بمدرسة المعلمين أن يدرس الطب أو الحقوق لكنهما لم يستهوياه، وبعد تخرجه مارس التدريس لفترة وجيزة، فلم يلبث أن أصابه السأم منه، وجذبته الكتابة الصحفية، فترك التعليم وانخرط في الصحافة متنقلا بين عدة صحف ومجلات، وأثناء ذلك عاد عبد الرحمن شكري من بعثته الدراسية، وعاد الصديقان إلى علاقتهما، وعرّف المازني شكري على العقاد الذي انضم إليهما في أفكارهما النقدية ورؤاهما الشعرية التي بدأت تنضج، وقد اتخذت من أطروحات المدرسة الرومانسية الغربية أسسها، وظهر أن شكري القادم من إنجلترا يحمل في جعبته الكثير من المعارف الأدبية والثقافية الإنجليزية التي سيعرّف صديقيه عليها، لتكون المبادئ الأولى لأفكار كتاب «الديوان في الأدب والنقد» الذي سيصدره المازني والعقاد لاحقا وسيكون عنوان مدرسة ذلك الثلاثي «مدرسة الديوان».
لم تلبث عرى الصداقة بين شكري والمازني أن تقطعت واستحالت إلى مواجهة أدبية عنيفة، وكان ذلك عندما كتب شكري عام 1917، في مقدمة ديوانه الشعري الخامس منتقداً مسلك المازني في الأخذ من الشعراء الغربيين، يقول: «لقد لفتني أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها «الشاعر المحتضر» البائية التي نشرت في عكاظ واتضح لنا أنها مأخوذة من قصيدة «أودني» للشاعر شيلي، كما لفتني أديب آخر إلى قصيدة المازني التي عنوانها «قبر الشعر» وهي منقولة عن هيني الشاعر الألماني، ولفتني آخر إلى قصيدة المازني «فتى في سباق الموت» وهي للشاعر هود الإنجليزي، ولفتني أيضا أديب إلى قصيدة المازني التي عنوانها «الوردة الرسول» وهي للشاعر ولز الإنجليزي وأشياء أخرى ليس هذا مكان إظهارها، وقرأت له في مجلة البيان مقالة تناسخ الأرواح وهي من أولها إلى آخرها من مجلة السبكتانور لادسون الكاتب الإنجليزي، ولو كنت أعلم أن المازني تعمد أخذها، لقلت: إنه خان أصحاب هذه الأعمال، ولكني لا أصدق أنه تعمد أخذها، ولا أظن أن أحدًا يجهل مدحي المازني وإيثاري إياه وإهدائي الجزء الثالث من ديواني إليه وصداقتي له ولكن كل هذا لا يمنع من إظهار ما أظهرت، ومعاتبته في عمله لأن الشاعر مأخوذ إلى الأبد بكل ما صنع في ماضيه حتى يداوي ما فعل ويرد كل شيء إلى أصله»، وكانت تلك قاصمة الظهر بين الاثنين، فقد انقلب المازني على عبد الرحمن شكري يتفّه شعره، ويسفّه أفكاره ويصفه بالجنون، وتوالت مقالاته التي حمل فيها بلا هوادة وبلسان سليط على صديقه، ودون أن يرد عن نفسه تهم السطو على الأدباء الغربيين.
اصطف العقاد مع المازني وناصره في هجومه عليه، فانقطعت الصلة بينهما وبينه، وعندما صدر كتاب الديوان في الأدب والنقد عام 1921 تضمن ذلك النقد اللاذع الذي وجهه المازني إلى صديقه شكري الذي سماه فيه «صنم الألاعيب»، رغم أن مذهب شكري في الأدب والنقد هو نفسه مذهب صاحبيْه. كانت تلك المعركة بداية التحول في حياة شكري الذي أصيب بالحزن بسبب انقلاب صديقه عليه، وإنكاره لريادته الأدبية وفضله عليه، وأحس عندما صدر الكتاب بأن المازني والعقاد طعناه في ظهره، فاستقال من الحياة الأدبية وانصرف لعمله وحياته الخاصة حتى توفي بعد ذلك بأعوام مريضاً.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أبورياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع لإنارة الطريق

الأديب موسى أبو رياش: المثقف معني بكل شيء في وطنه وعليه إشعال المزيد من الشموع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *