* مهند النابلسي
خاص ( ثقافات )
إنها قصة “هيو جلاس” (ليوناردو دي كابريو) الصياد البري وتاجر جلود القندس الذي تزوج من هندية قتلها الأوغاد البيض وحرقوا قريتها، بعد أن أنجب منها ولدا محبا ومخلصا ، يكافح الآن للبقاء على قيد الحياة بعد أن يهاجم ورجاله من قبل مقاتلي قبيلة الراي الفتاكة فجأة، ثم يتعرض لهجوم ضاري من دب وحشي أشيب، ويتركه فريقه بعد أن عجزوا عن اصطحابه صعودا لمرتفعات باردة زلقة في طريق عودتهم رجوعا للمعسكر، هكذا يتركونه مع ابنه المطيع وشاب مراهق آخر ونذل انتهازي كاره اسمه فيتزجيرالد (الممثل توم هاردي) مع وعد بدفن لائق في حال موته متأثرا بجروحه القاتلة، وهم لا يستطيعون التخلي عنه لأنه يملك خارطة الرجوع للمعسكر، ويتمكن بشجاعته من إنقاذ ابنه وآخرين أثناء هروبهم من بطش الهنود الأشداء ويركبون قاربا للوصول إلى بر الأمان، ولكن تعرضه لهجوم دب وحشي يغير خطة الرجوع للمعسكر، ثم يطمع فيتزجيرالد فيحاول خنقه وعندما يفاجأ بابنه مستبسلا للدفاع عن أبيه يطعن الابن ويقتله، ويكون صاحبنا المصاب شاهدا لا يقوى على الحديث لجرح نافذ في حنجرته، هكذا يسرق الانتهازي القاتل المؤونة والسلاح ويدفنه حيا ويهرب مع المراهق الآخر الضعيف الخائف والذي يذكره بأنه أنقذه من الهنود أثناء الهجوم على المعسكر…
ثم نرى جلاس المثخن بالجراح والمعاق يستبسل للبقاء على قيد الحياة فيمر بالأهوال ويعاني من الجوع والبرد القارص ومخاطر القتل والتنكيل من قبل قبائل الهنود (الراي وأركيرا) في البراري الوحشية المتجمدة، وما ينقذه أحيانا معرفته للغتهم…ويصاحبه في وحدته ومعاناته المرعبة شبح زوجته الراحلة، فنسمعها دوما وهي تهمس وتناجي (في اقتباس ابداعي لمنهجية ترانس مالك بفيلم شجرة الحياة)، وهي منذ البداية تحثهما هو وابنه على الاستبسال وعدم الاستسلام، ونسمعه وهو ينصت بحنين فائق لمناجاتها، ويبدو عاجزا عن الكلام بعد أن تعرضت حنجرته لجرح نافذ…ثم يتمكن أخيرا بعد طول معاناة وعذابات لا يتحملها البشر من الوصول للمعسكر مركز الحامية، فيما يهرب قاتل ابنه وقد سرق الخزنة باتجاه تكساس لشراء قطعة أرض والاستقرار.
دوما وطوال الفيلم نسمع مناجاة وهمس زوجته المقتولة، التي تعيد على مسامعنا حكمة هندية مجازية “عندما تهاجم الرياح العاتية أشجار الغابة، وبعد أن تنهار وتتكسر بعض الأغصان،، تبقى الأشجار لوحدها تقاوم بعناد الرياح العاتية”… ونراه طوال مشاهد الفيلم يأكل بقايا النباتات والأسماك الصغيرة الحية، ثم يقاوم هاربا من عاصفة ثلجية عندما يهاجمه الهنود فيقتل بعضهم قبل أن يقفز بحصانه الأبيض الجميل من مرتفع شاهق حيث يلقى الحصان حتفه وينجو بأعجوبة بفضل سقوطه على أغصان شجرة، فيقوم بمشهد ثاني غير مسبوق بتفريغ أحشاء الحصان من الأمعاء والأعضاء الداخلية ثم يدخل لبطن الحصان متدفئا من العاصفة الثلجية ومختفيا عن أنظار الهنود، ثم يعود لمركز الحامية ويذهب مع قائدها النقيب بريدجز لملاحقة فيتزجيرالد، وينجح هذا الأخير بفضل دهائه من قتل النقيب، فيتواجه أخيرا مع خصمه اللدود جلاس، ويتعاركان بوحشية ويجرحان بعضهما، ثم يتمكن جلاس أخيرا من طعن خصمه، ولكن هذا الأخير يذكره بأن الانتقام لن يعيد له ابنه، ويتذكر جلاس حكمة الهندي “المشنوق” بأن الانتقام بيد الله وحده (بعد أن أباد البيض قبيلته بالكامل)، ويستدرك اخيرا ويترك فيتزجيرالد المجروح لمصيره ويقذف به للنهر ليتم التنكيل به من قبل فرسان هنود كانوا يترقبون المشهد عن بعد، وتركوا جلاس دون أن يتعرضوا له لأنه سبق وأنقذ ابنتهم “بواكا” من الاغتصاب والقتل ..
ونعود لصديقه الهندي الذي أنقذه بإطعامه اللحم النيء من بقرة وحشية مذبوحة، والذي أنقذه من الانجماد بفضل تركيبه لخيمة أغصان حوله لتقيه البرد والانجماد بعد أن فقد وعيه بعد أن حاول تدفئته بالعشب المحترق، وعندما استفاق وجد صديقه الهندي المخلص مشنوقا على شجرة من قبل الفرنسيين “الأوغاد” وقد علقوا على جثته شعار: “كلنا همجيون”!
نراه بالمشاهد الأخيرة وهو ملقى على الأرض ومجروح وعاجز وبحالة شديدة من اليأس والقنوط، وكأنه سيواجه هذه المرة الموت ولن ينجو منه، ونرى شبح زوجته الراحلة وكأنها تدعوه للانضمام اليها بالعالم الآخر للنجاة من الأهوال والعذابات الجديدة المتوقعة في هذه الحياة الفانية، كما أن هناك لقطات “حلمية” غامضة ترينا بقايا حطام كنيسة متروكة في الأصقاع، وتظهر فيها “صورة السيد المسيح مصلوبا”، وربما المقصود تماهي عذابات البطل مع المسيح “المخلص”!
يحتوي هذا الفيلم على مناظر طبيعية خلابة للطبيعة من أنهار وجبال وسهول وشلالات وغابات أنجزها المصور السينمائي العبقري “ايمانويل لوبيزكي”، الشريط وإن كانت ثيمته مكررة (يذكرني بالأهوال التي مر بها البريطاني “جود لو” بفيلم الجبل البارد ومنها تناوله لدود الأرض كغذاء!)، إلا أنه يلقي الضوء على وحشية جميع المتخاصمين المتنافسين، وبما يتمثل ذلك بالمجاز المشتق من شعار “كلنا همجيون” الذي وضعه الفرنسيون على جثة الهندي المشنوق، وهو لا يتغاضى عن ضراوة ممارسات الهنود ووحشيتهم بمهاجمة خصومهم، الا أنه يشير لإجرام المستعمرين البيض الأوائل واغتصابهم للأرض والنساء وقتلهم الوحشي وحرقهم للقرى الهندية، فالجميع يتنافسون ويتقاسمون هنا الجلود والخيول والطرائد والأراضي والذخائر في حرب ضارية بلا هوادة!
لا شك أن دي كابريو قد قدم هنا أعظم أدواره السينمائية على الإطلاق ويستحق الأوسكار بجدارة، كما أن الممثل توم هاردي قد أبدع بدور الانتهازي الشرير الجشع، وبدا متقمصا للدور ومدهشا وهو يتحدث بلكنة خاصة وكأنه يلوك الكلمات والجمل.
يحتوي هذا الشريط الاستثنائي على مشاهد وحشية مدهشة وفريدة من نوعها، كطريقة صيد الوعول وهجوم الهنود ببداية الفيلم، وطريقة افتراس الذئاب لبقرة وحشية في البراري المتجمدة، وطريقة ملاحقة الثيران والخنازير البرية وحرقها وذبحها والاقتتات على لحمها نيا، ناهيك عن مشهد تعرض دي كابريو لهجوم الدب المتوحش الذي بدا بالحق طبيعيا وطويلا ومفصلا ويعجز المرء عن فهم كيفية تصويره بهذه الدقة وبإعجاز غير مسبوق شمل طريقة إظهار طبيعة الهجوم وتفاصيل الجروح وكأنها طبيعية، مما أدخلنا كمشاهدين منبهرين لصلب الحدث، حيث ترصد الكاميرا حيثيات المشهد من عدة زوايا، ونرى دي كابريو المثخن بالجراح القاتلة وهو يزحف ناجيا بحياته وكأن الكاميرا ملتصقة بجسمه، ونعجز عن فهم مغزى التقطيع والماكياج وضراوة الهجوم وطول اللقطة، كما أن الكاميرا ترصد الأحداث والغابات واالشجر والنهار والشلالات والتضاريس بمشاهد بانورامية وصور مقربة على حد سواء وبالتناوب.
يروي الفيلم قصة انتقام صائد الحيوانات “هيو غلاس” في القرن التاسع عشر، الذي تركه زملاؤه ينازع، وأقدم أحدهم على قتل ابنه الوحيد من زوجته الهندية المتوفاة، وقد صور وسط مشاهد برية خلابة تغطيها الثلوج في أصقاع كندا والأرجنتين، وتحديدا في منطقة “باتا غوليا” وفي ظل ظروف قاسية وصعبة التحمل وأجواء البرد القطبي القارص. كما أن الفيلم لا يقدم صورة نموذجية للهنود الحمر كضحايا مقاومين، وإنما يسلط الأضواء على شراستهم وعشقهم للتمثيل بضحاياهم، وقد لاحظنا أن فروة رأس فيتزجيرالد مسلوخة جزئيا، ونشاهد دي كابريو بعد أن يقوم بإنقاذ هندية اسمها بواكا من قبيلة الراي، من الاغتصاب الوحشي الذي يمارسه جندي فرنسي، فلا تلبث بعد أن تتمكن من مغتصبها أن تقوم بسلخ فروة رأسه بسكين قبل أن تقطع اعضاءه وتقتله، ونطلع على ضراوة هجومهم المفاجىء وإقدامهم الجريء في عدة مشاهد طوال الشريط.
وكما سبق ونوهت فهذا الفيلم يتضمن عدة مشاهد مبتكرة، ومن ضمنها مشاهد المطاردة الأخيرة، وتتمثل بقيام دي كابريو برفع جثة النقيب المقتول بواسطة غصن فوق الحصان الأول لتضليل توم هاردي، بينما ينبطح هو كالجثة فوق الحصان الثاني، هكذا ينخدع القناص فيصيب الفارس الأول ظانا أنه قد تمكن أخيرا من قتل غريمه جلاس، ثم يفاجأ بالخدعة عندما يقترب لمعاينة الجثة، ليتفاجىء بهجوم جلاس عليه والعراك الشديد بينهما الذي ينتهي بمقتل فيتزجيرالد على يد الفرسان الهنود المارين!
تكمن الطرافة اللافتة بسلوك القاتل “فيتزجيرالد” الذي بدا وكأنه يدعي الإيمان بطريقته “الفظة البدائية”، فهو يلجأ دوما للتعبيرات الدينية “المسيحية” وحتى أثناء ممارساته الإجرامية (وهو يقدم عل خنق جلاس)، كما تبدو الطرافة متجلية بقصة يرويها لمرافقه الشاب بعد هروبهما باتجاه الحامية، حيث يروي له أن ابيه الصياد المغامر الجلف المادي الغرائزي “الغير مؤمن” قد تعرف فجأة على “القدير” أثناء إحدى مغامراته القاسية في البراري المقفرة، وقد تمثل بصيده “لسنجاب كبير” أشبع جوعهم الشديد في الأصقاع الباردة!.
فيلم حاصد للجوائز!
قصة الفيلم مقتبسة عن رواية كتبها مايكل بونك في العام 2002 ومشتقة عن أحداث واقعية حصلت بالعام 1823 في براري أربع ولايات امريكية، وايومينع ومونتانا ونبراسكا وداكوتا، ويتصدر الأحداث تاجر جلود القندس هيو جلاس، ويصور مغامرات شاقة في أصقاع وحشية باردة، يستمد الفيلم عنوانه من عبارة جلاس التي وجهها للنقيب قائد الحامية في المشاهد ما قبل الأخيرة للشريط: “لقد عهدت الموت ولم أعد أخشاه”!
أبدع كل من ليوناردو دي كابريو وتوم هاردي بالأدوار الرئيسة، كما تفوق المكسيكي “أليخاندرو غونزاليز ايناريتو” بإخراج هذا الفيلم (صاحب شريط الرجل الطائر الذي فاز بالاوسكار لعام 2014) مع كاتب السيناريو مارك سميث، بالإضافة لكاميرا “ايمانويل لوبيزكي” السحرية، ونجحوا جميعا بإخراج تحفة فنية بتصوير طبيعي أخاذ مكلف وبأقل قدر من المؤثرات البصرية مع روعة الموسيقى التعبيرية المدمجة ببراعة مع الأحداث التي رصدت كل الأصوات الطبيعية والبشرية في البراري الباردة المقفرة، وقد ارتفعت تكاليف الإنتاج إلى 135 مليون دولار وفاز بتسع وعشرين جائزة متنوعة، وربما سيفوز مستقبلا بأربع جوائز اوسكار تشمل أفضل فيلم وإخراج وتمثيل وتصوير سينمائي.
______
*ناقد سينمائي