*عبده وازن
ما زلت أصرّ على عدم دخول عالم الـ «فايسبوك». تكفيني الإنترنت والإيميل للتواصل مع العالم والأصدقاء من بعيد، ووفق الإيقاع الذي يحلو لي. لست متخلفاً إزاء وسائل التواصل الحديثة، وليس لدي رهاب الارتماء في بحر الفايسبوك المتلاطم الأمواج. لكنني كلما سعيت الى الالتحاق بصفوف الفايسبوكيين، أشعر بأنني على خطوة من هاوية العبث والعبثية. شخصياً، لا أحتاج الى هذا التواصل المنفتح أيّما انفتاح على الآخرين الذين هم الآخرون بلا مواصفات أو معايير. لا يبقى الأمر وقفاً على بضعة أصدقاء يتم تبادل لعبة التواصل معهم. في عالم الفايسبوك، إما تكون فايسبوكياً حقيقياً وملتزماً أو لا تكون. وإلا فأنت لا تحتاج الى ما هو أكثر من الإيميل. جدار الفايسبوك أشبه بجبهة مفتوحة لا يمكنك الهروب منها والتخلّي عن موقعك. يصبح التواصل هذا عادة يومية قاتلة وإدمانا يشبه الإدمان على التدخين والشراب. أعرف صديقاً يمضي أمام الشاشة نحو اثنتي عشرة ساعة يومياً. وآخر يمضي قسطاً طويلاً من الليل سهراناً مع أصدقائه البعيدين في جلسة فايسبوكية ملؤها التسلية وتبادل النكات والصور… طبعاً، بضعة أصدقاء آخرين يمضون في نقاشات ثقافية مهمة، لكن متقطعة، فهم ليسوا وجهاً لوجه مهما قرّب الفايسبوك بينهم.
ولعلّ من حسنات الفايسبوك القليلة في نظري، التواصل من صميم العزلة الشخصية. أنا وحدي أمام الشاشة وأنت وحدك، لكننا نتواصل. أنت لا تكسرعزلتي ولا أنا أكسر عزلتك. تواصلْ معي ولكن من بعيد، لا تقترب، لا صبر لدي لأحتمل وجودك. لكنّ تواصلنا المتوهم هذا لا يعني أننا مفترقان، أنت هنا وأنا هنا، في غرفة افتراضية، ونحن الاثنين منصرفان واحدنا الى الآخر، نضيع وقتنا معاً أو لعلنا نربح وقتنا معاً.
وقد تكون هذه الحسنة الفايسبوكية ملائمة جداً للتواصل «القسري» بين شخصين كانا حبيبين ثم انقطعت بينهما أواصر الحب. رجل وامرأة أو رجل ورجل أو امرأة وامراة، وفق «الأخلاقيات» الحديثة. يجرؤ الحبيبان السابقان هنا على قول كل ما يريدان قوله. الحرية هنا لا تخوم له،ا والكلام المفتوح لا رادع له. أنت لا ترينني أيتها الحبيبة المغادرة، غدراً أو بلا غدر، وأنا لا أراك، ولا أنظر الى عينيك، أنت حتى لا تسمعين صوتي لتتأثري، ولا أنا أسمع صوتك لأتأثر. تكتبين لي ما تريدين وأكتب لك ما أريد ونقرأ كلانا ما نكتب. هذه واحدة من حسنات الفايسبوك، وإن كانت وقفاً على العشاق المنفصلين أو الذين سينفصلون أو العشاق الخائنين والذين يفتحون دفاتر خياناتهم بالسر وبعيداً من أعين العاذلين.
يتباهى بعض الكتاب أو الصحافيين الفايسبوكيين بما يملكون من أعداد من القراء، هذا عشرة آلاف وهذا عشرون ألفاً وهذا خمسون وهذا مئة… وقد يكونون على حق. لكن، هل هؤلاء قراء حقاً؟ ماذا يقرأون؟ بل ماذا تكتبون لهم أيها الكتّاب ليقرأوا؟ رصدت مرة مجلة «كتب» الفرنسية الأثر الذي يتركه رواج القراءة الفايسبوكية في مبيع الكتب، فبدا الأثر ضئيلاً جداً. والخلاصة أن القراء الفايسبوكيين ليسوا في معظمهم قراء كتب. لكنّ الفايسبوك هو حتماً أداة لترويج الكتب الصادرة ونشر أخبار عنها أو مقالات، لكنّ القراء يكتفون غالباً بتلقي الأخبار، وقلّة قليلة جداً منهم يعنيها شراء هذه الكتب. لكن، لا يمكن إنكار فئة يقرأ بعضها كتابات بعض، برصانة. ومن هؤلاء كتاب حقيقيون، واقعاً وافتراضاً، وإن لم يزد الفايسبوك من حجم قرائهم. والأسماء غير قليلة في هذا الصدد.
ويمكن الاعتراف أيضاً، بحسنة أخرى للفايسبوك في نظري، وهي الفرصة التي يتيحها لك كي تستعيد أصدقاء لك من الماضي البعيد، أيام الدراسة الابتدائية أو الثانوية، فإذا بك تُفاجأ بهم كيف أضحوا وأين أمسوا، فتفرح لبعضهم وتندم لاستعادة بعضهم، نتيجة خيبتك منهم ومن المصير الذي آلوا إليه. لكنّ الأجمل أن تلتقي عبر الفايسبوك فتاة كنت تحبها قبل ثلاثين عاماً وأكثر، فيطرق قلبك لمرأى صورتها ولو أنها كبرت مثلك أيضاً.
مهما كثرت إغراءات الفايسبوك، سأظل أعاند فكرة دخول عالمه. إنني أؤثر أن أبقى في مرتبة الإنترنت والإيميل بعيداً من ذاك الصخب كله، صخب الفايسبوك. لكنني قد أكتب يوماً رواية عن الفايسبوك أو عبر تقنيات المراسة الفايسبوكية المغرية والجذابة، مع أن روائيين أجانب وعرباً سبقوني إليها.
_________
*الحياة