أبراهام لنكولن..عصاميٌ من طراز فريد



*د. يسري عبد الغني عبد الله


خاص ( ثقافات )
إن اغتيال أبراهام لنكولن قد روع كافة الأمريكيين في كل الولايات الشمالية والولايات الجنوبية على السواء، فلقد فقد الشماليون الرجل الذي قادهم إلى النصر في صراع طويل ضار، وفقد الجنوبيون الشخص الوحيد الذي كان في مقدوره أن يعيد بناء بلادهم المحطمة، دون أن يفرض عليها مزيدًا من الأعباء الثقال .
فلا غرابة إذن أن كان نبأ مصرع الرئيس الأمريكي / أبراهام لنكولن في الخامس عشر من شهر إبريل عام 1865 م، قد أثار أسى عميقًا في نفوس الجميع في كافة أرجاء العالم، إن ممثلاً نصف مخبول يدعى / جون ويلكيز بوث، قد اندفع إلى مقصورة لنكولن أثناء مهرجان تمثيلي في المسرح، وأطلق النار على الرئيس الأمريكي من مسدسه، ثم قفز من المقصورة إلى خشبة المسرح، حيث تمكن من الإفلات، وقد بقى لنكولن على قيد الحياة تلك الليلة، ولكنه لفظ أنفاسه الأخيرة في وقت مبكر من صباح اليوم التالي .
وعلى هذه الصورة مات واحد من كبار الرؤساء الأمريكيين، الذين ما كان يمكن للولايات المتحدة الأمريكية بغيره أن تبلغ ما بلغته اليوم .
كان مولد أبراهام لنكولن في عام 1809 م في ولاية كنتاكي القائمة على الحدود، وكان أبواه يعيشان في فقر مدقع، بينما تعيش أسرة لنكولن في كوخ خشبي صغير عند طرف الغابة، وعندما توفيت والدته كان بعد في سن التاسعة من عمره، ولكن كان من حسن طالعه أن تزوج والده مرة ثانية، وكانت السيدة / ساره جونستون زوجة أبيه امرأة طيبة القلب، فأخذت تشجع أبراهام في كفاحه لتعليم نفسه بنفسه، ولقد اضطرته ظروف حياته أن يتولى هذا التعليم معتمدًا على نفسه وحده عن طريق الكتب التي كان من العسير الحصول عليها ف منطقة نائية على الحدود .
لقد أفلح لنكولن ذات يوم في شراء عدد كبير من الكتب من مسافر كان متجهًا إلى الغرب، وكان يحمل الكتب في برميل كبير، ولم يكن يريد حمله معه أكثر من ذلك .
والواقع أن هذه الكتب قد زودته بمادة وافرة للدرس والتحصيل، وذلك برغم أن أباه كان يقاوم جاهدًا هذه الفكر، وفي هذا الصدد لعله كان يقول : أظن أن أبراهام يبدد وقته بهذا التعليم، إنني حاولت منعه، لكنه كان مشبع الرأس بهذه الفكرة الحمقاء، ولم يتسن انتزاعها منه ..!!
وكانت أول رحلة لنكولن قدر أن تفتح الدنيا أمامه هي تلك التي قام بها وهو في سن التاسعة عشرة من عمره، حين ذهب فيها أجيرًا أو عاملاً على ظهر مركب مسطح (صندل) وجهته ميناء نيو أورليانز، إذ كان بهذه المغامرة أثر كبير ظل طويلاً في قرارة نفسه .
وعندما بلغ لنكولن الحادية والعشرين من عمره انتقل للإقامة في مدينة نيو سالم بولاية إلينوي الأمريكية، وفي هذه المدينة اشتغل في عدد من الأعمال المتواضعة التي أكسبته الخبرة الحياتية وكيفية التعامل مع الناس من مختلف الفئات، ومنها عمله كوكيل بريد في القرية، ومع أنه كانت تعوزه الرشاقة في الحركة والتعبير، وهو ما كان مكملاً لطول قامته ودمامة مظهره، إلا أنه سرعان ما أصبح ذا شهرة كبيرة كراوي قصص، ومقلد للحركات التمثيلية .
إن الشعبية التي اكتسبها رجلنا في هذا المضمار، كان أكبر عون له عندما استقر عزمه على الانخراط في الشئون السياسية، وفي عام 1834 م، تم انتخابه في مجلس إلينوي التشريعي (وهو البرلمان المحلي) منتميًا إلى حزب المحافظين، أو بالأحرى كمعتدل يؤمن بضرورة المحافظة على نظام الحكومة الاتحادي، ثم انتقل في عام 1837 م إلى مدينة سبرنجفيلد، عاصمة الولاية، لكي يكون في موضع أفضل يمكنه من متابعة مستقبله السياسي، لكي يصبح زعيمًا للهويج في البرلمان، وفي نفس الوقت بدأ لنكولن يتدرب على ممارسة المحاماة، وكانت دراسته للقانون ترجع إلى بعض الكتب التي عثر عليها في البرميل الذي اشتراه في صباه . 
في عام 1842 م تزوج لنكولن السيدة / ماري تود، وأنجب الزوجان أربعة أبناء، ولسوء الحظ لم يتح لغير واحد منهم فقط أن يبقى على قيد الحياة ويبلغ مبلغ الرجولة، على أن حياتهما الزوجية كانت في مجموعها مقرونة بالسعادة، رغم ما كان يظللها من غرابة أطوار زوجته، ثم انتخب لنكولن عام 1846 م عضوًا في الكونجرس (البرلمان الاتحادي)، ولكن فترة وجوده في المجلس لم تكن ناجحة، فقد ضايق الكثيرين باعتداله السياسي، ولم يكرر الحزب المنتمي إليه ترشيحه كنائب عنه في الكونجرس مرة أخرى .
كان الخلاف يتزايد بين الولايات في الشمال، وهي التي لم تكن تسمح بامتلاك العبيد الزنوج، وبين ولايات الجنوب التي كانت تعتمد على أعداد كبيرة منهم في زراعة القطن، كما كان ثمة تفاهم مؤداه أن يسمح لولايات الجنوب بالاحتفاظ بما لديها من العبيد، بشرط بعدم السماح بانتشار الرق شمالاً إلى الولايات التي كان يجري إنشاؤها بسبب تراجع الحدود .
وما إن جاء عام 1850 م، حتى غدا رجال الشمال المناهضون للرق (أنصار إلغاء الرق )، وهم على غير استعداد لاحتماله أكثر من ذلك، كما أن بعض المتهورين أو المتشددين في الجنوب كانوا يريدون السماح بالرق في ولايتي : كانساس و نبراسكا الجديدتين، ولم يستطع الحزب السياسي الذي ينتمي إليه لنكولن (الهويج)، والذي كان يأخذ بسياسة الحل الوسط لأنها كانت تبقي على النظام الاتحادي للولايات، ولم يستطع هذا الحزب أن يصمد لضغط المتشددين من كلا الجانبين، وأخذ بالتالي يفقد كل مؤيديه .
وعليه ونتيجة لذلك أنشئ حزب سياسي جديد في الشمال سمي الحزب الجمهوري، وهدفه إلغاء الرق، وقد استقر رأي لنكولن على الانضمام إليه .
وفي عام 1858 م، وقع الاختيار على لنكولن ليكون مرشح الحزب الجمهوري لعضوية مجلس الشيوخ (السيناتور)، عن ولاية إلينوي، وسرعان ما تحدى منافسه الديمقراطي ستيفن دوجلاس للاشتراك في مناظرة علنية لمناقشة المسائل الكبرى التي تشغل بال الرأي العام، فوافق دوجلاس ومع أن لنكولن خسر الترشيح ولم يفز في الانتخابات، إلا أن الخطب التي ألقاها في مساجلاته مع دوجلاس جعلت لاسمه الشهرة الذائعة في كافة أرجاء الولايات المتحدة الأمريكية . 
وفي عام 1860 م اختير لنكولن كمرشح للحزب الجمهوري للرئاسة، واستطاع بسهولة أن يفوز بالانتخابات بسبب الانقسام الخطير لأنصار الحزب الديمقراطي بين شماليين وجنوبيين، ولكن قبل أن يستطيع لنكولن أن يتبوأ مقعده في البيت الأبيض، قررت معظم الولايات الجنوبية الخروج من الاتحاد الأمريكي وإعلان استقلالها، وقد اتخذت هذه الولايات لنفسها اسم الولايات الكونفدرالية، وفي عام 1861 م قام الانفصاليون بإطلاق المدافع على حصن يعرف باسم (فورت سومتر) وعلى إثر ذلك بدأت الحرب الأهلية الأمريكية .
ورغم أن الولايات الشمالية كانت أوفر عنى وأكثر سكانًا من ولايات الجنوب، فإن الحرب تطورت تطورًا سيئًا بالنسبة إليهم في البداية بسبب القيادة البارعة للقائد الجنوبي الجنرال / روبرت . إ. لي، ولم يستطع لنكولن أن يوفق إلى القائد العسكري الذي وجد فيه ندًا لعدوهم إلا في عام 1863 م، وهو الجنرال / جرانت، وحالما اضطلع جرانت بمهام القيادة، تغير سير التيار أو الأحداث، وفي عام 1863 م أحرز الشمال انتصارات كبيرة في فيكسبرج، و جيتيسبرج، وفي نفس العام أعلن لنكولن تصريحه المشهور عن تحري كافة العبيد .
وبحلول عام 1865 م بلغ الجنوب حد الإنهاك، واضطرت مدينة رتشموند عاصمته إلى إلى الاستسلام، بيد أن لنكولن لم يعش طويلاً لكي يشهد انتصاره العظيم وإنقاذ الحكم الاتحادي، ففي الرابع عشر من شهر إبريل، أي بعد خمسة أيام من استسلام الجنرال / روبرت لي، استهدف لنكولن للرصاص الذي أطلقه عليه جون ويلكيز بوث، وقضى نحبه في اليوم التالي .
ولعل القارئ الكريم قد سمع أو عرف خطاب لنكولن في مدينة جتيسبرج، هذا الخطاب المنقوش فوق النصب التذكاري للنكولن بمدينة واشنطن العاصمة الأمريكية، وهو الخطاب الذي ألقاه في هذه المدينة في يوم التاسع عشر من نوفمبر 1863 م، في مناسبة تكريس مكان من ساحة المعارك التي دارت في هذه المدينة أثناء الحرب الأهلية الأمريكية، لتكون مثوى لأولئك الذين لقوا حتفهم فيها، وفيه يكرم الضحايا الذين جادوا بأرواحهم لتبقى الحياة للأمة الأمريكية، عاقدًا العزم الأسمى لكي لا تذهب أرواح هؤلاء الموتى هباء وبددا، معلنًا أمله أن الأمة الأمريكية سيؤذن فيها بمولد جديد للحرية، وإن حكومة الشعب، وبالشعب، ومن أجل الشعب لن تبيد هذه الأرض .
وقبل أن نختتم هذه السطور الموجزة عن الرئيس الأمريكي / أبراهام لنكولن، نحب أن نسرد هذه المعلومة التاريخية : في بداية الحرب الأهلية الأمريكية، انقطع مورد القطن الخام من الولايات الجنوبية الأمريكية إلى مصانع الغزل والنسج في مقاطعة لانكشير بانجلترا، نتيجة الحصار البحري الذي فرضه الشمال الأمريكي، ولم تمض إلا فترة قصيرة حتى أصبح عمال مصانع الغزل في مدينة مانشستر والمناطق المحيطة بها بلا عمل، ومع ذلك فإنهم اعتبروا قضية الشمال عادلة، وعقدت في مانشستر اجتماعات عامة لإظهار التأييد للنكولن و سياساته الخاصة لتحرير العبيد والإبقاء على النظام الاتحادي الضامن لوحدة الولايات الأمريكية جمعاء .
وفي أحد هذه الاجتماعات التي عقدت في عام 1862 م، أعد خطاب وأرسل إلى لنكولن متضمن هذه الأفكار بصورة وافية، وبعد أسابيع معدودة بعث لنكولن برد إلى عمدة مانشستر الذي كان رئيسًا للاجتماع، قال له فيه : إني أعرف وأشعر بعميق الحزن بالمعاناة التي لحقت العمال في مانشستر، وتكبدهم واحتمالهم لهذه الأزمة التي طالت العديد من المدن في أوربا، وفي هذه الظروف لا يسعني سوى اعتبار أقوالكم الحاسمة في هذا الصدد بمثابة ظاهرة سامية للبطولة لم تسبقها ظاهرة مثلها في أي عصر، وفي أي بلد .
أقول لكم : إن الصداقة التي نبتت على هذه الصورة في تلك الأيام الحالكة للحرب الأهلية الأمريكية لم تطو في زوايا النسيان، إذ يقوم الآن تمثال للرئيس الأمريكي / أبراهام لنكولن في بلات فيلدز بارك بمدينة مانشستر الإنجليزية، كما يوجد في البيت الأبيض بالعاصمة الأمريكية واشنطن تمثال نصفي لجون برايت، الذي كان على رأس مؤيدي لنكولن في إنجلترا . 
___________
*باحث وخبير في التراث الثقافي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *