*نارت قاخون
حين بدأ الإنسان سيرة الوجود أدرك الضرورة الحيويّة لوجوده في مستوى الموجوديّة والديمومة، فهو يحتاج الطعام ليحيا ويقوى، ويطلب البيت للسكن والمأوى، فأخذ يلتمس من الموجودات ما يؤمّن الشبع خوفاً من الجوع، وما يضمن الأمن خوفاً من الاعتداء، وكلّما زاد ازدحام المنافسين على مصادر الضرورة الحياتيّة، زاد خوف الإنسان على نفسه، ومع تدافع الإنسان مع أخيه الإنسان، وأبناء العمومة من بني الحيوان، وفي ظلّ تجاذبات الوفرة والندرة، انتقل الإنسان من تأمين الحاجة اليوميّة إلى منطق الوفرة والادخار، فازدادت الحاجة وزاد الخوف معها.
ولأنّ الخوف يستدعي ضده الأمن مطلوباً، سعى الإنسان لتأمين احتياجاته، فبدأ بإقامة “الجدران”، جدران يحمي فيها ما يدّخر من طعام، وجدران يحمي فيها نفسه من غائلة حيوان أو إنسان.
وفي لحظة ما تأنسن الإنسان بالعقل واللسان، فاهتزت وتخلخلت علاقته المباشرة مع الموجود، لتصبح اللغة ونسقها العقلي نسقاً رمزيّاً يتوسّط وجوده والوجود الكونيّ، ولأنّ الخوف بما مثّله من دافع للوجود الحياتيّ انتقل إلى طور الخوف الوجوديّ المحمّل بأنساق اللغة والعقل وحمولاتها الرمزيّة، صار “الخوف” قرين لحظة الأنسنة وأحد أبرز دوافع التجلّي الوجودي الإنسانيّ منذ أن تأنسن الإنسان، فالخوف غرائزيّاً كان “الرذيلة” الضروريّة “لفضيلة البقاء والوجود والديمومة”، وحين أنشأ الإنسان لعوالم الموجود أنساق الوجود الرمزي، نقل الخوف من الغريزيّة إلى السيكولوجيّة ثم الوجوديّة الأنطولوجيّة التي لا تنفصل تجوهراتها وتمظهراتها عن دوافع “سيكولوجيا الخوف” وانبعاثاته، فالحضارة الإنسانيّة في مقاماتها الماديّة بدأت مع “الجدران والأسوار”، وكذلك فإنّ الخبرة الميتافيزيقية والرمزيّة للإنسان نشأت مع “الجدران والأسوار” داخلها أو خارجها، لكن دوماً بوجودها.
ولأنّ الخبرة الميتافيزيقية والرمزية للإنسان تنشأ دوماً في وجود الجدران والأسوار، كان يجب لهذه الجدران والأسوار أن تتمتع بالقوة والحصانة اللازمتين لتأمين “الأمن الوجوديّ والرمزيّ”، في مقابل الخوف على هذا المنتج الإنسانيّ العزيز بل الأعزّ، ولعلّ الخبرة الإنسانيّة لم تجد أفضل من سمتين تحقّقان له هذه المتانة الجداريّة، وهما: اليقين، والتعميم.
فإذا كان جدار القنّ والحظيرة والبيت والمدينة يُختبر ويؤمن بما فيه من قوّة وصلابة تمنع “الطارئ الدخيل” من اختراق الحيّز المكاني للذات الفرديّة والجماعيّة، فإنّ “اليقينيّة” هي ذلك الجدار الواقي الحامي الذي يحول دون اختراق حيّزنا الرمزيّ الفرديّ والجماعيّ من الطارئين الآخرين، فالنسق الرمزيّ الذي أنتجناه أو أُنتج لنا لا يحفظ نفسه إلا بيقين أنّه النسق الرمزيّ الأفضل والأصوب، بل هو “الصواب” والصواب فقط، فاليقينيّة آلية جداريّة تعمل باتجاهين؛ ما داخل الجدار، وما خارجه؛ فما داخل جدرنا الرمزيّة هو الصواب يقيناً، وما خارج جدراننا الرمزيّة هو الخطأ يقيناً.
حينها يصبح “التعميم” ضرورة لحماية “اليقينية”، فما نفع الجدار اليقينيّ ما لم نكن كلّنا الساكنين داخل جدراننا الرمزية الأنطولوجيّة على “الصواب يقيناً”؟ وكلّ آخر هو مخطئ يقيناً؟ فيصير “عدواً محتملاً” لا بدّ من حماية رأسمالنا الرمزي من أخطاره ومحاولة اختراقه جدرنا وأسوارنا.
في ظلّ هذه الجدارية اليقينية التعميمية تظهر الحاجة للأبواب في الجدر والأسوار، فالإنسان رغم رغبته بالاكتفاء الذاتيّ أو الجماعيّ المحكوم بنسق رمزي جامع مهيمن، يجد نفسه مدفوعاً للتدافع مع أنساق رمزيّة أخرى، فالمدن مهما اكتفت بحاجاتها لا تصبر على الإقامة داخل أسوار مغلقة وجدران محكمة دون الحاجة إلى الخروج من داخل هذه الأسوار إلى خارجها بحثاً عمّا لا يتوفّر لها داخل الأسوار، أو بحثاً عمّا هو أفضل ممّا تجده وتُنتجه داخل أسوارها، كما لا تستطيع منع كلّ وافد إلى مدينتها يحمل بضاعة لا تجدها عندها، فتبادل المنافع والاغتناء والتّطوّر في الاحتياجات يدفع سكّان المدن المسوّرة إلى خرقها بأبواب.
وإذا كانت الأبواب في الجدران والأسوار ضرورة حياتيّة، فإنّ الأبواب في جدران النسق الرمزي المعرفيّ ضرورة معرفيّة وجوديّة، ومن هذه الأبواب: الحوار.
الحوار بوابة التواصل بين الذات والآخر، خرق في الجدران والأسوار يسمح بانسياب البدائل الرمزيّة بالاتجاهين، لكن بوابة الحوار لا تستطيع تحقيق غاياتها الإنسانيّة والحضاريّة ما تكن بشكل من الأشكال شرخاً في جدار اليقينيّة، وحصراً وترشيداً لفتنة التعميم وإغرائه، فإنّ الحوار مع بقاء اليقين صلباً لا يتزحزح، والتعميم راسخاً لا يتأرجح، يحوّل الحوار من بوابة تواصليّة إلى بوابة توصيليّة، ومن بوابة تشاركيّة إلى بوابة تغالبيّة، غايتها أن نُدخل “الآخر” إلى نسقنا الرمزيّ عبر القهر الرمزيّ الذي نسميه حواراً، أو إقصاء هذا النسق الرمزيّ الآخر إن لم نستطع تحويله وقهره ليصير جزءاً من نسقنا الرمزيّ.
لذلك لا يصير الحوار مدخلاً وأفقاً للحياة واستعادة للضمير الإنسانيّ إلا إذا اشتغل في تدافع فاعل إيجابيّ بين مقصدين: إثبات أنّ نسقنا الرمزيّ هو الأفضل، والبحث عن النسق الرمزي الأفضل، فالمقصد الأول ينشأ في ظلّ فرض يقول: الأغلب أنّنا على صواب، والثاني ينشأ في ظل فرض يقول: الآخر يُمكن أن يكون على صواب. ولعلّ ذلك يتمثّل فيما يُروى عن الشافعيّ: قولنا صواب يحتمل الخطأ، وقول غيرنا خطأ يحتمل الصواب.
وحول هذين المقصدين وبينهما تظهر تجليّات حواريّة قد تجنح لتطرّف تشكيكيّ أو تطرّف يقينيّ، فقد يأتي من يقول: لا صواب على الحقيقة في شيء دون شيء، وهذا القائل إمّا أن يتطرّف في نفي الصوابيّة، فيقول: لا صواب في شيء، وأن يتطرّف في إثبات الصوابيّة، فيقول: الصواب في كلّ شيء.
ورغم ما يظهر من رحابة حواريّة في هذين التطرفين، إلا أنّها رحابة تضحي بالصواب نفسه، وإمكانية إدراكه في سبيل التواصل الحواريّ، وعندها يصير “الحوار” مقصداً بذاته لا غاية وراءه إلا الحوار مجرّد الحوار.
ولا يخفى عليّ أنّ لهذا التوسّع الحواري إغراءات لما تسم أنصاره بالانفتاح والتسامح واتساع الأفق. لكن ألا يؤدي هذا التوسّع الحواريّ إلى لزوجة وسيولة تماهي بين ثنائيات وتضاديات لا سبيل لبقاء السيرورة الإنسانيّة والصيرورة الحضاريّة إلا ببقائها؟ أليس تمييع “الصواب” هو في النهاية تصويب للخطأ؟ أليس في تسييل “العدل” تمكين للظلم من التسرّب والاستقرار والنماء؟
إنّ النسبيّة الجذريّة تشكيكية كانت أم تصويبيّة تجعل “المعنى” الكامن وراء الوجود الإنسانيّ لا نهائياً، واللانهائيّة وجه اللاوجوديّة الآخر. وبين لا نهائيّة من جهة ولا وجوديّة من جهة، تظهر الحاجة لأفق الممكنات الذي لا يتطرّف باليقين ووقاحته، أو اليأس السلبيّ وخطورته، فلم يزل هناك للمعنى عيارات تضبط القيمة الممكنة في الدلالات المقترحة، تقرّب بعضها للصواب، وتقرّب أخرى للخطأ.
وفي مقابل هذه “النسبيّة الجذريّة” يتطرّف آخر يرى اليقين الدائم بصواب قوله، ولا يرى نتيجة ممكنة للحوار إلا أن “يقنع” أو “يقهر” غيره ليقول بقوله، فالحوار عنده وسيلة لجلب الأتباع لا لاختبار الأقوال وتمحيصها وتعديلها بل ردّها إن لزم.
هنا يظهر اختيار بوابة الحوار بوابة جدل، جدلٍ يتجاوز تطرّفين: التوقّح الدوجماتي اليقيني واليأس السلبيّ الارتيابيّ، وقاحة التجرّؤ اليقينيّ في كلّ شيء، واليأس من معرفة أيّ شي وإدراك منسوب صوابيّته.
فالحوار بوابة لا تمنع كلّ راغب خير أو مالكه من دخول جدران مملكتنا الرمزيّة وأسوارها، لكنها لا تسمح للمحتلّ الطامع أن يقتحم مملكتنا الرمزيّة فيعمل فيها معاول الهدم، لا ليهدم ما يستحقّ الهدم، بل ليهدم ما نحتاج من أبنية رمزيّة لتحقيق وجودنا وديمومة البقاء الوجوديّ ماضياً وحاضراً. فإذا كان “المحتل والطارئ” منحازاً لأنساقه، فلا نقابله بحياد سلبيّ بل بانحياز إيجابيّ لا يُهدر القيم النفعيّة لما في أنساقنا، ولا يتعامى عن القيم النفعيّة في أنساق غيرنا.
وهذا الحوار لا يقف عند “حوار الإنسان مع الإنسان”، بل يتجاوزه إلى حوار “الإنسان مع الكون”، أو “الاشتباك معه”، فقد انتقل الإنسان من الاستجابة لمؤثّر فيزيائي يحدث في الفضاء الوجوديّ والكونيّ لمحلّ الإقامة الإنسانيّة إلى محاولة إدراك هذا المؤثّر، ثمّ تفسيره بالقبض على قانونه المتمثّل في صيغة رياضيّة ونموذج معرفيّ يمكن أن يحقّق له: التفسير والتحكّم والتنبؤ بالظاهرة الطبيعيّة التي يشتبك معها.
وهو في نمذجته المعرفيّة لهذه الظواهر الطبيعيّة يسعى عبر هذه الإمكانيات التفسيريّة والتحكّميّة والتنبؤيّة أن يقبض على حقيقة الظواهر الطبيعيّة، فالمطابقة بين ما يعرفه الإنسان عن الظاهرة، والظاهرة نفسها هي غاية من غايات النمذجة والجهد المعرفي لإقامة النموذج الجامع المانع إن كان لذلك سبيل.
في اشتباك الإنسان مع الطبيعة يسهل في أغلب الأحيان أن يتحقّق من المطابقة بين ما يراه الإنسان من الظاهرة الطبيعيّة، وبين ما يعرفه عنها عبر النماذج المعرفيّة التي اكتشفها أو اختلقها، لكنه قد يقف حائراً متردّداً من الجزم بأنّ “ما يراه” و”ما يعرفه” من جهة، يطابق حقيقة الظاهرة الطبيعيّة من جهة.
رغم وجاهة هذا التردّد وقيمته المعرفيّة الفلسفيّة، إلا أنّ هذه الوجاهة تتضاءل إذا ما نظرنا إلى أنّ كفاية النموذج العلمي المنمذج واتساق بنيته المنطقيّة المعرفيّة تتحقّق بتحقيق “النموذج” نجاحات دائمة في التفسير والتحكّم والتنبؤ، فما القيمة المعرفية العملانيّة لكون الظاهرة “س” تختلف عن النموذج المقترح للتعبير عنها الذي ينجح معطاه التفسيريّ بإعطائنا كفاية تحكميّة وتنبؤيّة؟
لقد استطاع “نيوتن” عبر نموذج علمي رياضي أن يقول لنا كيف تتحرّك الأشياء، واستطعنا بقوانينه أن نتحكّم بالحركة ونتنبأ بها بمجرّد حلّ معادلات رياضيّة على الورق.
وحين تعرّض النموذج النيوتني لمشاكل في التفسير تطوّرت الفيزياء باقتراح نماذج جديدة تستبطن ما تأيّد من النماذج السابقة وتطوّر في مقترحاتها لتفسير الظواهر الجديدة، ونتائج التجارب المستمرّة.
هذا النموذج العلمي الرياضي قد لا يجيبنا عن سؤالين: هل تتطابق حركة الأجسام في الحقيقة كما تصفها قوانين نيوتن وتراها عيون المشاهدة والتجربة؟ ما الذي يجعل الأجسام تتحرّك وفق هذه القوانين وهذا النموذج النسقي؟
قد يبدو في السؤال الأول نوع من الفضول غير الضروريّ، فإنّه يقوم على افتراض ماهيّة للأشياء وراء المشاهد المختبر المنمذج بالنموذج العلميّ، ويفترض أنّها ليست بالضرورة مطابقة لما نراه وننمذجه. وهذا افتراض لا طائل من ورائه معرفيّاً، فهي “ماهيّة” افتراضيّة لا يُمكن إدراكها على فرض وجودها. لكنّ هذا الموقف العملاني العلميّ لم ينسحب على الموقف الفلسفيّ في جزء كبير من تجليّاته؛ فالفلسفة في كثير من اتجاهاتها لم تحسم موقفها تجاه هذه المسافة بين “المشاهد” و”ماهية الشيء الحقيقية”، فمالت مرة إلى المطابقة بينهما، وإلى المفارقة بينهما وإلى التداخل بينهما في مرة أخرى، فيما اتجهت الفلسفة التحليلية مثلاً إلى نقل النشاط الفلسفيّ من طموح امتلاك “الواقع” و”المعرفة” والمطابقة بينهما تحت عرش “الحقيقة” إلى فعلٍ نقديّ أعلى ينشغل بتحليل أدوات الإنسان العقليّة من طبيعة الفكر وقوانين الاتساق، والعلاقات بين الأفكار والواقع، ومدى صوابيّة مختلف المناهج وصلاحيّتها التي نستخدمها لنعرف، ثمّ نعرف كيف نعرف.
هذا الاشتباك الفلسفيّ مع “الحقيقة” و”الوجود” و”الماهيّة” متداخل ومتفاعل مع محاولات الإجابة عن السؤال الثاني، وهو: لماذا يكون القانون قانوناً؟ أو كيف صار القانون الفيزيائيّ قانوناً؟
قد تكون الإجابة هي: هذه هي طبيعة الطبيعة، فهي تتحرّك وفق هذه القوانين بفعل ماهيتها وطبيعتها. لكن السؤال يظلّ هنا: إذا كانت هذه القوانين طبيعيّة فمن أين اكتسبت قوتها الحتميّة، وقدرتها على السيطرة؟ لماذا تخضع الطبيعة لقوانين ابتداءً؟
هنا لجأ الإنسان إلى الاستعارة والقياس، والمقيس عليه هو الإنسان وحركته؛ فالإنسان أدرك بتجربته الحضاريّة الممتدة آلاف السنين أنّ “النظام” في السلوك الجماعي للإنسان يكون بسلطة “قوة مهيمنة” تملك القدرة على فرض القانون والنظام. فإذا كان الأمر كذلك، فإنّ ما يجعل الكون الطبيعيّ خاضعاً للقوانين هو وجود قوة مهيمنة وضعت هذه القوانين وفرضتها على الطبيعة. فصارت تجربة الإنسان القصيرة نسبياً استعارة حاكمة لتجربة الكون الممتدة بلايين السنين.
ولأنّ هذه القوّة المهيمنة الفارضة أمست ضرورة استعاريّة للإجابة عن سؤال: لماذا تخضع الطبيعة لقوانين؟ أصبح البحث في الماهيّة والوجود ومدى المطابقة والمفارقة بين “الوجود” و”المشهود” ضروريّاً، وهي ضرورة ميتافيزيقية.
فهذه القوة المهيمنة المسيطرة التي ستصير ثيولوجياً “الخالق”، لا بدّ لها من “وجود”، لكنه وجود يفارق الوجود العياني المشهود، وإلا لكان خاضعاً للأسئلة التي يخضع لها عالم العيان والشهود.
وهكذا انتقل السؤال إلى مرحلة سابقة للوجود العياني. لكن آفة العقل أنّه يعقل، وأنّه فيما يعقل ينتزع المعقول من خبرة المشاهدة والتجربة، فالعقل في تجريده انتزاعي المخيّلة.. وهكذا أصبح الوجود الفيزيائيّ نفسه دليلاً للوجود الميافيزيقيّ، لا يتحقّق اتساق الأول واكتماله إلا بكمال الثاني وجوداً وصفاتٍ، فأصبح “الله” الضامن لوجود الوجود اتساقاً ومعنىً وحركة تحتكم إلى قوانين تمكّننا من اكتشافها والتحكّم بها.
________
*مؤمنون بلا حدود