«أليس» الطفلة الأولى في جمهورية الأدب


*محمد إسماعيل زاهر


«اقتنعت أليس أن لا شيء، أو لم يعد هناك من شيء مستحيل في حقيقة الأمر»، تعتبر هذه القناعة التي يوردها لويس كارول في تلك القصة الرائعة والملهمة «أليس في بلاد العجائب» المدخل الأساسي ليس في قصته وحسب، ولكن في أدب الطفل، وربما في الأدب بأكمله.
تبدأ القصة بسؤال الضجر، ذلك السؤال الطفولي الذي يسكن داخلنا جميعاً: «هل إن متعة صنع باقة من الأزهار تستحق عناء النهوض ثم المشي لاقتطافها؟»، وبمنطق الحكاية لابد أن يحدث شيء يكسر زمن الطفلة الممل، حيث يمر أرنب راكض، أرنب مثل كل الأرانب، ولكنه يلبس صدرية ويخرج منها ساعة وينظر فيها مؤنباً نفسه لأنه سوف يتأخر عن موعد ما، هنا تقع المفارقة وتبدأ الحدوتة، التي تتعاقب فيها الكثير من المفردات، تبدأ بواقعة «المطاردة» و«السقوط» و«جحر الأرنب».. إلخ، لتنتهي بشهادة أليس أمام ملك وملكة أوراق اللعب، وبين البداية والنهاية، يظل السؤال: هل كان عالم الرياضيات تشارلز دودجسون، لويس كارول، يزحم سرده بكل هذه الأطروحات والأسئلة في عام 1865 ليكتب قصة للأطفال؟ أم أن عفوية وبساطة النص هي التي أفرزت كل تلك العوالم التي يتنقل بينها القارىء بخفة ومتعة؟
إن كل فقرة في القصة تحتاج إلى من يتأملها بعناية وروية، فعندما تطارد أليس الأرنب حتى جحره تتعرض ل«السقوط»، والجحر نفسه يبدأ على نحو أفقي مثل نفق ثم يتخذ شكل منحدر مباغت ووعر، ثم تشعر الطفلة بأنها تسقط في بئر شديدة العمق، وتسأل«أوليس لهذه السقطة من نهاية؟»، وهي مستمرة في السقوط، هو فعل السقوط بكل شروطه كما طرحته الكثير من الأعمال التي عالجت هذه النوعية من المشاعر، السقوط كفعل إنساني يتعرض له البطل الذي يبدو للوهلة الأولى واضحاً ومحدداً، اتجاه واحد يعقبه الغموض والتخبط وحدوث الأسوأ الذي ربما لا نتوقعه في كوابيسنا أو أحلامنا المركبة، حيث لا نلبث أن نتخلص من ورطة حتى تصادفنا ورطة أكثر تعقيداً، وهنا يضرب كارول في مساحة صغيرة من السرد على عبارة «كانت تسقط أكثر، فأكثر، ثم أكثر»، وفي سقوطها تحلم وتبدأ سلسلة من الأسئلة الخالية من المعنى، نطرحها في تلك الأحيان علنّا نخدع أنفسنا للهروب من السقوط الذي لا نعرف أسبابه «هل تأكل القطط الخفافيش؟، و«هل تأكل الخفافيش القطط؟».
بعد السقوط يأتي دور المتاهة، تجد أليس في آخر الجحر وبعد انتهاء مؤقت لمحنة السقوط، نفسها في قاعة محاطة بأبواب كلها مغلقة، وفي وسط القاعة مائدة عليها مفتاح، وهنا تبدأ المتاهة، فالمفتاح وسيلتها للعبور من البوابة الصغيرة الوحيدة في الغرفة والتي تقع وراءها أجمل حديقة يمكن لطفل تخيلها، وبجوار المفتاح قارورة تحتوي مشروباً لابد من تجرّعه حتى تبدأ مرحلة التحولات، وبعد تردد في تناول المشروب وتمني وجود «كتاب» يرشدها إلى الحل، تتجرع المشروب وتنكمش حتى لا يزيد طولها على خمسة وعشرين سنتيمتراً، ثم تتناول مشروباً آخر لتكبر، والهدف هو الوصول للحديقة الغنّاء.
وفي تحولاتها يكون المكان الغابة، حيث تسبح، وربما وبداخل كل منا أمنية أن يسبح معها في بركة الدموع، ونتحدث معها إلى الأرنب والفأر والببغاء والسلطعون.. إلخ، بعد أن كان عالمها/‏عالمنا يقتصر على القطة.
التحولات التي عاشتها أليس تتنقل بسرعة من المتناهي في الصغر، الذي يقذف بنا كارول إلى داخله، إلى المتناهي في الكبر، بالنسبة إليها، بتعبيرات غاستون باشلار، ولكن عندما تتضخم أليس لا نشعر بالمتعة والسعادة التي تنتابنا ونحن نتجول معها وهي صغيرة الحجم، هل كنا سنتعاطف مع بطل كافكا لو لم يتحول إلى كائن صغير، أو مع مذكرات ذلك القابع في قبوه لديستويفسكي ويشعرنا بضآلته و«ضآلتنا» في هذا العالم القاسي؟
هو الحجم الصغير الذي يتيح لها، ومرة أخرى لنا، الاستماع إلى «نصائح دودة القز»، ولماذا دودة القز؟ لأن أليس تقولها صراحة للدودة: «لأني لست نفسي، إذا كنت تفهمين قصدي»، فالتحول يهدف هنا إلى البحث عن مخرج، والوصول إلى الحديقة الغنّاء.
وفي فصل «شاي عند المجانين» تنثال أسئلة وتعبيرات مفتاحية مكثفة: «لماذا يشبه الغراب العقاب؟»، «هل سبق ورأيت رسماً يمثل المدة؟»، «إن الوقت كائن حي»، «يرفض الوقت تنفيذ ما أطلبه منه»، ويستمر اختبار السؤال العفوي، حتى يمكن اعتبار القصة الشهيرة حزمة من الأسئلة البسيطة الموجهة من عالم رياضيات عاش في القرن التاسع عشر بتحولاته المأساوية التي انعكست بشدة في الأدب إلى أطفال اعتاد على اصطحابهم ليقص عليهم الحكايات، وهي في الوقت نفسه أسئلة تعبر عن محنتنا نحن في متاهة السقوط، تلك التي لا تنتهي بشهادة أو محاكمة أليس الغائمة نوعاً ما في النهاية أمام ملك وملكة أوراق اللعب، ثم الاستيقاظ من كل ذلك، فالوقت كائن حي والزمن يختلف فيزيائياً ووجودياً عبر مراحل عمر الإنسان المختلفة، ويتمايز في أوضاعه المتعددة، ويخضع الإحساس به لمشاعرنا المتباينة، هو الوقت عندما نضعه في خانة «الكائن الحي» فتتحول بلاد العجائب إلى واقع حقيقي، لا ندرك وهمه إلا مع الاستيقاظ.
إن جمالية وإمتاعية حكاية «أليس في بلاد العجائب» تعود إلى اكتشافها قارة من المفردات التي ستزدهر في أدب القرن العشرين، وإذا استخدمنا تعبيراتنا السخيفة سنقول أدب الكبار، ولكنه ازدهار بطعم المرارة، فلن تستطيع المئات من الأعمال الأدبية الهروب من فتنة المتاهة والسقوط، وأرق الأسئلة البسيطة، وما يعقب كل هذا من بحث مضنٍ عن مَخرج، فضلاً عن ترميزات للأبواب والمفاتيح.. إلخ، ولكن سيحدث ذلك عن طريق معاناة البطل الفرد، أو وعي جماعي شقي، ومن ثم نقل هذه المعاناة إلينا، تلك المعاناة حملت مفردات أليس ولكنها تقتحمنا حتى من دون استئذان، والوقت في العديد من تلك الأعمال كائن ميت، حيث المتاهة أبدية وساكنة وهناك استمتاع بلانهائية السقوط وبمحنة الشك الدائم في العثور على مخرج، بعكس أليس الضجرة في الحقيقة من كل هذه المفردات.
«لم يعد هناك من شيء مستحيل»، هو مفتاح أليس أو لويس كارول في التأثير في «جمهورية الأدب»، المصطلح قاله أحدهم ذات مرة واصفاً العلاقات المتشابكة بين آداب العالم، ولكن الطفلة من خلال عدم اعترافها بالمستحيل تمكنت من اللعب بتحولات الكائن والخروج من متاهته، والتحكم في الوقت والقيام بعد سقوط، والتنقل بسهولة ويسر بين الوهم والواقع، وهي نتائج نخرج بها من حكايات وحواديت سابقة، ولكنها المرة الأولى التي تصل فيها طفلة إلى البطولة المطلقة لتردد النتائج نفسها التي قالها أسلافها من الحكائين، ولكن بعفوية ووضوح وبساطة، لتصبح الطفلة الأولى في جمهورية الأدب.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *