علي السوداني *
( ثقافات )
وهذا عنوان مستعار من قصيدة بديعة طيبة حنينة ، من خلق الشاعر حميد سعيد ، قال أنه قد يحتاج الى تخت شرقي يغنّي معه ويموسق ، سلة من بستات بغدادية شعبية مرشوشة على جسد النص . أما مقامنا الليلة البارحة ، فكان ببيت الرسام الجميل ابراهيم العبدلي ، وببطن صالته الدافئة التي شالت جدرها ، لوحات ووجوهاً حميمة ، منها لوحة فلّاح يحمل مسحاة ، قال العبدلي ، أن هذه اللوحة العزيزة ، قد سرقتْ من مركز صدام للفنون ، أمام عيون الوحوش الأمريكان ، وقد استعادها مؤخراً بعد دفعه ثمنها . سعدت الجلسة وطربت على صوت قارىء المقام العظيم حسين الأعظمي . كان أبو غسان ، مرة يخشعنا بقراءة مقام من بديع خزائنه ، وثانية ، يشمر علينا ، طرفة أو حكاية لطيفة ، من حكايات الأعظمية أيام زمان ، وكان على شماله رجل من أهل المدينة ، بدا وكأنه خزان ذاكرة مجيدة ، هو قصي الطائي ، الذي جاء على الحيدرخانة وحسن عجمي وشربت زبيب حجي زبالة الطيب ، وحلاق الملك ، وكعك السيد ، وقفز بالزانة صوب شارع المتنبي والسراي ، فمرّ على الطباعين والختامين وباعة الكتب ، في الدكاكين والخانات ، وعلى البسطات ، وتوقف عند كباب الإخلاص اللذيذ ، ونادله المشهور زاير ، الذي كان يحفظ فواتير الزبائن ، حتى لو زاد عديدهم على النصف مليون زبون وزبونة . ثم عبر الى الصوب الآخر ، حيث مزاد نعيم الشطري ، الكتبي المشهور ، وصار يتقافز ويتنادم من جهة الى أختها ، حتى حطّ بمقهى الشابندر ، وقبلته ، كبة السراي . وكان معنا في قعدتنا الرحيمة ، الطباع البغدادلي ناصر حمزة ، الذي رشّ على أنوائنا ، طاسة قفشات عذبة ، كأنها طاسة ماء مبروكة ، ترشّها أُمّ خلف وليدها الجندي السائر نحو خنادق القتال ، طمعاً ودعاء بعودته ثانية الى حضنها ، وهذا توصيف لواحدة من أشهر لوحات الرسام المضيف أبي زيد ابراهيم العبدلي ، الذي تحت يمينه وحنجرته ، قراءة كل المقامات العراقية والبستات ، بصوت صافٍ مقتدر لا شائبة تشوبه ، ولا نشازاً يجرحه . ومن الجالسين الشاربين معنا كأس العوافي ، كان ماجد الجبوري الذي فتح لنا باب الطيور والمطيرجية ، فكان بحق ، باباً مريحاً للسامعين المنصتين ، بما حواه من طرائف ولطائف ومراجل وعادات . ولأن جلسات اهل العراق ، تكاد لا تخلو من ذكر الموت والميتين ، فلقد انجرحت الجلسة بنبأ موت المطرب الريفي المذهل ، نسيم عودة ، صديق خالي الحميم ، الذي يستحق أن يسمى بإسمه طور جنوبي متفرد لا شبيه له ولا شريك معه ، واسمه طور نسيم عودة . وحتى يكتمل طعم الأسى ، ويقفز فوق ساتر كباب حجي حسين الفلوجي ، من أثاث وأعمال السهرة ، فلقد ناح هاتف ناصر حمزة ، برنين رسالة متأخرة ، قرأها أبو مها بوجه يكاد يخلو من الترويع ، زبدتها تفيد بوفاة المطرب النجفي ، أبو صوت الذهب ، ياس خضر ، لكن هذه الرسالة لم تجرح جلستنا ، إذ اتفقنا على أن أبا مازن ، قد موّتته الرسائل ، عشر مرات ، ثم رددنا بصوت مموسق ، أن اسم الله عليك ياس البديع ، واسم الله على الريل وحمد والمكير والبنفسج ومغربين وروحي وشموع الخضر والهدل ، واسم الله على البلاد وأهلها ، ومن دخلها وسار عليها وعشقها . أما أنا ، فكان حظي من الجلسة ، شدة مديح بباب قصار القصص ، وأيضاً بباب المكاتيب ، وقد زادني القوم ، مدحاً على مدح ، إذ جائوا على ذكر جرة الطرشي ، التي زرعتها فوق مائدتهم ، وتوقفوا طويلاً عند طعم ثوم العجم والخيار الأصابع ، وأظنني ، وعلى وشالة الكأس الأخيرة ، قد وعدتُ كل واحد منهم ، ببرطمان طرشي عملاق ، تعطّ من حلقه ، أضواع ثوم العجم والكرفس والبهارات ، لكنني لم أحدد زمناً للإنتهاء من تصنيع وتخليل وتخمير جرار ودبّات الخيار ، وقد يستغرق الأمر منّي ، أربعون سنة ، ما يجعلني ألطش رأسي الليلة ، فوق مخدتي ، من دون قلق أو إثم . أراكم بخير وسعد وعافية .
* قاص من العراق يعيش في الأردن