هل فجر الفيلسوف ميشال أونفري نفسه؟


*حميد زناز


لم يمض سوى يوم واحد على مجازر باريس الأخيرة حتى طلع علينا الفيلسوف ميشال أونفري بتغريده أقل ما يقال عنها في أول وهلة إنها متسرعة، لقد كتب مغردا يوم 14 نوفمبر “لقد زرع اليمين واليسار في فرنسا الحرب ضد الإسلام السياسي على المستوى الدولي وها هما يحصدان حرب الإسلام السياسي على المستوى الوطني”.
تبدو الفكرة تبسيطية جدا في اعتمادها على جدلية الفعل ورد الفعل في تفسير ما يحدث، ولكن يمكن لمن لم يكن متابعا لأطروحة أنفري حول داعش وحربها والحرب عليها أن يجد عذرا للفيلسوف إذ لا يمكن له أن يتجاوز كلمات معدودات في كل تغريدة، ومن هنا لا يمكن الحكم عليه من خلال التغريد فقط. والحقيقة أن تلك التغريدة التي أطلقها بعد التقتيل الذي قامت به داعش في باريس اعتبرها الكثير من المثقفين الفرنسيين عبارة عن زغرودة بررت بوعي أو بدونه ما ارتكبه الدواعش. فهل بعدما اتهم الفيلسوف بالإسلاموفوبيا ثم الاقتراب من أطروحات اليمين المتطرف، جاءت مرحلة الدعوشة؟
لقد اعتمدت داعش في أحد فيديوهاتها الدعائية مباشرة بعد جريمة باريس على ميشال أونفري صوتا وصورة لتبرر اعتدائها على المدنيين الفرنسيين حيث يظهر في الشريط منتقدا التدخل العسكري الفرنسي ويطالب بالكف عن قصف مواقع داعش. وهو ما يدعو إليه الفيلسوف منذ مدة معتبرا أن لا حق للغربيين في التدخل في شؤون البلدان العربية. ولئن كان محقا في القول إن هدف الغرب ليس ترسيخ الديمقراطية ولا الدفاع عن حقوق الإنسان في البلدان العربية، فمن الصعوبة الادعاء بأن داعش تذود عن حمى المسلمين أمام الضربات الغربية وترد الصاع صاعين، وأن الأمر لا يعدو أن يكون سوى دفاع عن النفس!
لا يخفى على صديقنا الفيلسوف أن داعش أفقرت وهجّرت وقتلت الآلاف من المسلمين في كلّ من العراق وسوريا، وفعلت مناكر وفظائع ربما لم يتجرأ حتى الاستعمار على فعل مثلها. أليس من الغريب أن يطالب أونفري التفاوض مع داعش؟ فماذا يمثل هذا الكيان الإرهابي؟ وهل من المعقول أن نتفاوض مع كل من يحمل السلاح ويرهب الآمنين؟ لم يترك صديقنا فرصة إلا وتهجّم فيها على الفيلسوف جان بول سارتر وكان محقا في أغلب انتقاداته لمسيرة بابا الوجودية، ولكن ها هو يتبنى اليوم ربما أسوا ما في آراء سارتر ألا وهو تبرير الإرهاب الأعمى باعتباره سلاح المظلومين الوحيد كما كتب بالحرف الواحد في التقديم الذي وضعه لكتاب فرانس فانون “المعذبون في الأرض”!
من المحزن أن ينظر فيلسوف بحجم ميشال أونفري إلى حركة إرهابية كداعش على أنها حركة مقاومة. وهو الحزن الذي نقلته إليه مباشرة عبر الرسالة القصيرة التالية ”صديقي العزيز.. كثير من أصدقائنا في الوطن العربي الكبير، والذين لا علاقة لهم بالفكر الديني، بل الذين يناضلون بكل ما أوتوا من قوة كيلا يطبّق ما يسميه أعداؤهم الإسلاميون ‘شريعة’، هؤلاء الذين لا يجدون في خطاب داعش وأفعالها غير الشر، هؤلاء يا صديقي لم يفهموا تصريحاتك بعد الجرائم التي ارتكبها التنظيم الإرهابي في باريس، لأنهم لا يرون بأن مجرمي داعش هم من يمثل العالم العربي ولا هم من يدافعون عنه، بل هم يدافعون عن أيديولوجية إجرامية دموية، ويحاربون كل ما تدعو إليه في فلسفتك المتعوية. فكيف، قال لي بعض أصدقائنا، يمكن لصديقنا ميشال أن يجعل منهم طليعة تدافع عن العالم العربي-الإسلامي؟ كيف يمكن رفع هذا اللبس صديقي العزيز؟”.
وكان رد صديقنا الفيلسوف هكذا سريعا مقتضبا نافيا ما يستطيع كل الناس مشاهدته على الإنترنت حيث تتوفر كل فيديوهات تدخلاته ونصوصه ”عزيزي.. هل قرؤوا ما كتبت؟ أو استمعوا إلى ما قلته بكل وضوح؟ أخاف أن ذلك لم يحدث.. أين ومتى قدّمت داعش كطليعة؟ وأين وضعت الإسلام كله في نفس الكفة مع داعش؟ ومع ذلك، هل يمكن الفصل المطلق بين الأفعال الإرهابية والدين الإسلامي؟ أظن أن الناس لم يعودوا يفكرون أصلا، وأن الإنترنت والإعلام يفكران في مكان الأغلبية. وذلك علامة من علامات التوتاليتارية. تريد الصحافة اغتيالي والتخلص منّي وأنا لا أطلب شيئا سوى الحكم عليّ انطلاقا مما أقوله وأكتبه وليس انطلاقا مما يقول الآخرون عني وما ينقلون. فلا مجال للشك، فأنا معكم، ولتبق صداقتنا متينة”.
لا أحد حكم على الفيلسوف انطلاقا ممّا ينقله عنه الآخرون فهو لم يترك إذاعة إلا وقال عبر أثيرها كل ما يريد ولا بلاطو تلفزيونيا إلا وشرح فيه مواقفه بكل وضوح وهي أفكار بسيطة جدا في هذا الموضوع لا تتطلب العلم الوفير لفهمها. وربما أخطر ما جاء على لسان من يتهم الآخرين بعدم التفكير هو ترديده لمقولة كثيرا ما يرددها الأصوليون إن لم تكن فكرتهم الفلسفية الوحيدة هي: لماذا نريد فرض فلسفتنا وقيمنا على المسلمين؟
أولا لا يقبل أيّ عربي أن تفرض عليه قيم مهما كان مصدرها، وثانيا هل يعتبر الفيلسوف أن الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية هي قيم غربية لا تصلح لغير الغربيين، أم هي كونية يحلم بها كل إنسان سويّ في بداية هذا القرن الحادي والعشرين؟ ذلك هو السؤال المحير! لقد اعتاد وبكل تألق تفجير القنابل الفكرية مثلما فعل مع فرويد وكامو وغيرهما. ولكن لا أريد أن يفجر في هذه المرة نفسه فكريا كما يفعل الدواعش في تفجير أجسادهم، إذ أحتفظ للرجل بكل الود والاحترام ولا أنسى أبدا شجاعته النادرة في الوقوف أمام الثلاثية الظلامية في وقت صمت فيه أغلب المثقفين في أوروبا والعالم العربي. ولا ينبغي أن نلوم السيد أونفري، فربما نحن سبب تلك الصورة التي يحملها الغربي عنّا عموما إذ بات يعتبرنا كلنا دواعش لأننا لم نستطع إيصال الصوت العقلاني الحداثي العربي إلى الرأي العام الأوروبي.
_____
*العرب

شاهد أيضاً

“تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة

(ثقافات) “تفسير الأحلام” بداية التحليل النفسي عند فرويد للكشف عن الرغبات المكبوتة  مدني قصري في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *