*د. فتحي عبد العزيز محمد
خاص ( ثقافات )
يمثل التاريخ الإنجليزي أرضية خصبة للأعمال الدرامية سواء كانت روائية أو مسرحية أو سينمائية لما يحوية ذلك التاريخ من شخوص أغلبها حفر اسمه على صفحته بما حقق من إنجازات أو إخفاقات والبعض من تلك الشخوص تمكن من حفر اسمه بما أثاره حول شخصيته ومسلكه من جدل. من ذلك النوع الأخير يبرز الملك هنري الثاني الذي تناولته السينما في فيلمين “بيكيت” و “الأسد في الشتاء” وقد حازا مكانة عالية في عالم الفن السابع، ومن الغريب أن يؤدي الدور فيهما ممثل واحد هو بيتر أوتول.
عرض فيلم الأسد في الشتاء بقاعة مسرح لينكولن للفن في برودواي يوم 30 من أكتوبر 1968م، من إخراج أنتوني هارفي وهو مأخوذ عن مسرحية تحمل نفس العنوان للكاتب جيمس جولدمان الذي قام بكتابة السيناريو، وترى الناقدة الفنية ريناتا أدلر أن الفيلم لم يختلف كثيرا عن المسرحية، غير أن جولدمان برع في وضع المشاهد في جو الأحداث استنادا لما عمل عليه من تحليل لشخصية الملك بشكل خاص وباقي شخوص الفيلم بشكل عام.
ضم الفيلم اثنين من النجوم ذوي العيار الثقيل أوتول بما له من حضور ومقدرة على التعبير بجسمه وصوته والتوافق الحركي بين الجسد والصوت في لحظات الانفعال العالية والتي يمكنه الوصول بها إلي القمة ثم الهبوط إلي الهدوء والسكون بشكل رائع وجمله المنطوقة في أروع إلقاء، إلي جانب كاثرين هيبورن الرائعة صبوحة الوجه رغم تقدم السن، تباري بيتر في أداء واثق تعبر عن شخصية إليانوردي أكوتين الملكة المبعدة عن الحياة الملكية. إلى جانب هذين العملاقين تأتي جين ميرو في دور آليس محظية هنري، وانتوني هوبكنز في دور ريتشارد قلب الأسد.
جاءت افتتاحية الفليم غاية في الإبداع حيث نرى هنري يمرن جون أصغر الأبناء في مبارزة قصيرة دالة على مدى تدليله له ويتركه ليحادث محظيته آليس قائلا : سيكون ملكا ممتازا ، هذه هي الطريقة ويلتفت إلى ابنه:”استمر يابني”. تجيبه: هل أتيت بدين جديد، هل تنظر من عليين لترى من يحق له الجلوس علي عرشك؟. ليرد بقوله يجب أن أعرفه قبل موتي.. هناك أسطورة عن ملك يدعي لير أشبهه في كثير من الوجوه، كلانا له مملكة وثلاثة أبناء نحبهم هو قسم مملكته أجزاء، وأنا لا أستطيع فعل ذلك. لقد بنيت إمبراطورية ويلزمني التأكد من بقائها كل بريطانيا ونصف فرنسا أنا السلطة الأعظم عبر ألف عام ومن بعدي يأتي جون.
الافتتاحية هنا بالفعل مفتاح الفيلم تلقي الضوء علي المشكلة التي تواجه الرجل على مدار توليه العرش وصراعه مع ابنائه حول التوريث، وتآمرهم عليه مرات تهبط به وبمكانته.
هو حريص على ألا تقسم مملكته وهذا التقسيم أضعف من قبل إمبراطورية شارلمان، وهذه حكاية أخرى لم يستشهد بها كاتب السيناريو واستشهد بأسطورة الملك لير ليضعنا في جو شكسبيري مأساوي.
والواقع أن دافعه الحقيقي لم يكن اسطورة لير ولا ما واجه شارلمان ولكن لأن أمه ماتيلدا لم تتمكن من اعتلاء العرش كوريث لجده هنري الأول وذلك لأن البارونات رغم ايمان الولاء التي قطعوها لهنري الأول بذلك تراجعوا عن الأيمان بحجة أنها خالفت شرطا وهو عدم الزواج بأجنبي حيث تزوجت من جيوفري بلانتجنت فصار الملك لستيفن كونت بلوا بدلا منها إلى أن تمكن هنري من استرداد العرش.
تتوالى مشاهد الفيلم يطلب الملك إحضار زوجته الملكة إليانوردي أكوتين من محبسها “برج سالزبوري” التي قضت فيه ما يربو علي عشرة أعوام، لحضور احتفال البلاط بميلاد السيد المسيح عام1183م في شينون المقر الفرنسي للملك . تأتي إليانور متألقة تعرف أنه ينوي توريث عرشه وذلك بعد أن توفي منذ شهور وريثه هنري أكبر أبنائه وقد توجه في حياته باسم هنري الصغير وتعرف أنه يميل لتوريث ابنه المدلل جون بينما ترغب هي في أن يتولي ريتشارد قلب الأسد ولاية العهد.
يحضر الاحتفال كذلك الملك فيليب ملك فرنسا والذي جاء مطالبا باتمام زواج أخته آليس من ولي العهد التي مضى على اقامتها في القصر عدة شهور أو تسترد دوطتها. يراوغ الملك من أجل بقاء الوضع على ماهو عليه ورغم المؤامرة التي حاكها أولاده بمعاونة الأم فإن الأوضاع لم تبدأ لتعود الأم إلى محبسها. ويسمح الأب الملك هنري الثاني لأبنائه المتآمرين عليه والذين خططوا للخلاص منه أن يغادروا السجن بعد أن أبدى قدرته في إمكانية القضاء على ريتشارد( برفع السيف في الهواء والهبوط به على كتف ريتشارد بما يعني ذلك ثم يلقي بالسيف) ليخرج الجميع لتآمر جديد …
وإن كان الفيلم قد توقف تاريخيا عند هذه المرحلة فإنه في فترة لاحقة تنهار قوة هنري ويفقد سيطرته على الأمور في مواجهة أبنائه .
الفيلم كعمل درامي رائع يختار لأحداثه فترة الأعياد والتي تشهد في مثل ذلك الوقت من كل عام طقسا شديد البرودة ما يضفي عليها الجو الأسري دفئا من نوع خاص، لكنه بخلاف المعهود جو قارس البرودة بلا مودة.
لقد حرص هنري على أن ينتقل الحكم إلى وريثه بلا منازعات لكنه يحمل في داخله بذرة تدمر ذلك الحرص هي تخوفه من ذهاب السلطة عن سلالته كما حدث لأمه. نلمس هذا عندما شرع في إعلان عقابه لأبنائه وهو يتركهم يتفلتون هاربين أمام عينيه قائلا: أنا الملك أقول العدل ، لذا يا ابنائي أعلن أنا هنري الذي بفضل الرب ملك الانجليز وسيد اسكتلندا وايرلندا وويلز وكونت أنجو وبريتاني وبواتييه ونورماندي ومينز وجاسكوني واكوتين أعاقبكم…..
وتفلت جميع الأبطال لتنقضي ليلة المؤامرة في ليلة كريسماس شديدة البرودة بينما تمضي الينور زوجته عبر البحيرة من حيث أتت تلاحقها ضحكاته التي تعانق ضباب آخر الليل…