د. فيصل غرايبه
( ثقافات )
ترى الناقدة السينمائية الأردنية رانية حداد أن ثمة أحلام لا تتفتح إلا على شاشتها البيضاء،وأن ثمة ألآم لا يمكن تجاوزها إلا عبر تمثلها في صور تتدفق إلى حيث الأمل،حيث أن ثمة صراعات لا تجلو حقيقتها إلا في مرآتها،مثلما أن ثمة ملامح يتعذر رؤية ما خفي منها،إلا عبر ما تيسر من ضوئها. وهذا ما يجسده الفن السابع،إذ أن ثمة الكثير ما تتسع السينما لتحتضنه، لكي تظهر ذات الهواجس حول قضايا شغلت بؤرة تفكير الإنسان منذ الأزل، ولكن بأساليب تعبير متنوعة،انعكست عبرها ثقافة البيئة التي أنتجتها.
عكست رانية المهندسة المعمارية والمهتمة بالنقد السينمائي، هذه القناعة بعد أن شاهدت أربعة وأربعين فيلما سينمائيا، ثم أخذت تكتب عنها عرضا وتحليلا وتعليقا، إلى أن ضمتها في كتاب عنونته ب”شاشة الحلم والأمل”، يقع في مائتين وأربعين صفحة من القطع الصغير، ونشرته دار أزمنة للنشر والتوزيع في عمان، ودعمته وزارة الثقافة الأردنية،، وصدر في طبعته الأولى عام 2011 ،مزعا على أربعة محاور، الأول يركز على الصراعات والأنظمة، فيه عن الصراع العربي الصهيوني ستة أفلام، وعن الصراع بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي ثلاثة أفلام، وعن الأوضاع الثقافية الاجتماعية للمجتمع الأمريكي خمسة أفلام، بصور مغايرة من الداخل ومن الخارج.أما المحور الثاني فيركز على الوطن والهوية من خلال سبعة أفلام، بينما يركز المحور الثالث على تائيتي الحياة/الموت وثنائيتي الحرب/ الحب، يتناول المحور الرابع والأخير بعد ذلك ظاهر العصيان والتمرد والاستلاب من خلال ثمانية أفلام.
تأمل الذات واكتشاف الحياة:
إن الإنسان يستطيع تلمس ملامح تشبهه،يعيد معها تأمل ذاته واكتشاف الحياة من حوله،وقد يفزع وهو يرى نفسه والأشياء على شاشتها كما لم يرها من قبل، وأحيانا قد يأنس لصور تلامس مشاعره وأفكاره التي تعذر عليه أن يعبر عنها. ويعكس كتاب رانية أفلاما أنتج معظمها في مطلع القرن الواحد والعشرين،وهو يراعي أنه بقدر ما تبدو شاشة السينما بيضاء، ناصعة على ملامسة نبض الإنسان، ومقاربة للواقع، إلا أنها في أحيان قد يشوبها السواد، فتنقلب إلى أداة لتشويه الحقائق وتضليل الرأي العام.
بين الصراع والتعايش:
في تحليل رانية لمجموعة من الأفلام التي تتناول الصراع في فلسطين،من مرحلة إعادة التعريف والتعايش، ومن خلال فلم بعنوان “شجرة ليمون” الذي يحاول تكريس صورة المقاوم كإرهابي، هذا الصراع الذي تقدمه كاتبة النص الفلسطينية سهى عراف والمخرج عيران ريكليس المحسوب على اليسار الإسرائيلي، والذي من المفترض أنه يكتسب أهميته بما يمثل على نطاق أوسع الصراع العربي الصهيوني، عندما تمضي الأحداث بالتركيز على نضال سلمى في الحفاظ على أشجار الليمون، وترك فكرة الفلسطينيين الإرهابيين كتفصيلة غير رئيسية، ولكن كحقيقة مفروغ منها للمشاهد، البديهي أن تكون أولوياته حماية هذا الحق وحماية نفسه من هؤلاء الأوغاد، في أحد المشاهد تحاول زوجة الوزير الإسرائيلي المبادرة بكسر الحاجز الأمني والنفسي مع الآخر العربي، بالذهاب لزيارة سلمى، لكن رجال الأمن الإسرائيلي يحولون دون نجاح هذه المحاولة، و تكمن المشكلة على حد زعم هؤلاء في الإرهابيين .. في نظرهم، أي رجال المقاومة الفلسطينية الشرعية، والادعاء بأن بقاءهم – أي المقاومون للاحتلال- سيحول دون التواصل العربي الإسرائيلي والعيش بسلام معا، وكأن القضية ليست لا تكمن بالأساس في وجود كيان إسرائيلي لا يمتلك الشرعية ولا الحق في الوجود على هذه الأرض الفلسطينية.
ينقلنا الكتاب إلى قصة الضفة الغربية التي تتمثل في دعوة إلى التطبيع عن طريق تزيف الحقائق ، إذ يبسط سانديل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي،ويختزله بصراع بين مطعمين،الأول (حمص هت) الفلسطيني، والثاني ( كوشر كنج ) الإسرائيلي ، ويتخذ ديكور وزي عمال كل منهما ألوان العلم الخاصة بكل طرف،يمسك بالمطرقة ، ويضرب الجدار العازل، لينهار ما كان يفصل الحبيبين دفعة واحدة ، فيصبحا وجها لوجه معا دون حواجز ومعيقات، ويتابعان ترسيخ رسالتهما في الحب والتعايش، عندما يقنع كل منهما طرفه بالسلام والتعايش مع الآخر، وتقترح الفتاة على فتاها،أن يرحلا إلى مكان يمكن أن يعيش فيه المسلمون واليهود بتناغم، انه “بفرلي هل” مكان إقامة المشاهير من الفنانين الأمريكان في ولاية كاليفورنيا، وهل هناك غير الحضن الأمريكي يستطيع أن يقدم هذه الوصفة ؟! قدم لنا الفلم المشار إليه، طرفي الصراع بشكل متوازن، كما حرص على تقديم الشخصية العربية بطريقة لائقة وعلى التساوي مع الشخصية المقابلة لها؛ و مع تقديم صورة من استخفاف آخر حين يجعل سبب الصراع بينهما هو التنافس فحسب، وليس بدافع احتلال الطرف الإسرائيلي لأراضي الطرف الفلسطيني،انه يطرح سانديل الإسرائيلي كصاحب حق في الأرض كما الفلسطيني، ويقدم الفلسطيني على أنه المبادر بالهجوم والأذى، في حين التصرف الإسرائيلي هو دائما ردة فعل دفاعية، وعندما يعرض الطرف الإسرائيلي وهو يحتفي بفكرة البناء، بينما يعرض الطرف الفلسطيني وهو يحتفي بفكرة الهدم. وتكون الدقائق العشرين التي يستغرقها الفلم حافلة بالرسائل والإشارات والرموز التي تدعو إلى التطبيع والتعايش بدءا من عنوان الفيلم المكتوب على البوستر باللغة الانجليزية؛ حيث الكلمة الأولى تتخذ لون العلم الإسرائيلي وأحد أحرفها عبري، فهل يمكن لعلاقة حب أن تجمع المغتصب بالمغتصبة ؟ أم أنه النموذج المرسوم للجيل الجديد كي يحتذى به ؟
تكتمل الصورة في الفلم الآخر المعنون بعبارة “أهلا بكم في الخليل”، عندما تكمن المشكلة في التعايش وليس في الاحتلال، كما يتصور الطرف المحتل إياه، فمن خلال تتبع الحياة اليومية لهذه الفتاة الفلسطينية، يقدم لنا الفيلم معاناة الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الإسرائيلي، وكذلك معاناتهم مع المستوطنين، إن هذا الفلم مليء بالتقابلات التي تخدم فكرة عدم التكافؤ بين قوتين، فماذا يمكن أن يفعل فلسطيني بحقيبته المدرسية أو فتاة شابة ك “ليلى”، أمام جندي إسرائيلي مسلح، الصورة تعبر بعمق عن الخوف الذي يسيطر على الإسرائيليين حتى من أطفال الفلسطينيين، ولكن ليست النوايا البريئة هي التي تغلب على هذا النوع من الأفلام، إلا أنه كما يبدو من الأفلام القليلة المناصرة للقضية الفلسطينية، التي تعنى بإظهار معاناة الشعب الفلسطيني للعالم من خلال رصد الحياة اليومية في إحدى المدن الفلسطينية المحتلة، كأن المشكلة لا تكمن بالأساس في حقيقة الاحتلال ، إنما تكمن في ظاهرة التعايش المفقودة والحتمية في آن، وما يرتبط بها من عدم قبول الآخر المختلف دينيا كموقف متصلب يعبر عن عدم قبول اليهودي لغير اليهودي، وهو مشهد يشذ عن التوجه السائد في الفلم، وبأخذه أكثر إلى الأسلوب الأكاديمي بعيدا عن الأسلوب التأملي .
الجمهور الذي يفقد بوصلته:
تنقلنا رانية حداد لمشاهدة فلم جديد عن طفولة محرمة وأكاذيب محرمة تدلل عليه بعبارة “أجندات بأيد عربية وجمهور يفقد بوصلته” وهو إنتاج ايطالي للمخرجة “برباراكوبيستي”2008 ، التي تطرح من خلاله فكرة اللاعنف والتعايش والحار بين الطرفين، كوسيلة لحل الصراع بينهما، وتنتقل في ذات السياق الى إنتاج أسترالي وتفضح المزيد من الأكاذيب التي أنطوي عليها كتاب “الحب المحرم” 2001 ، لمؤلفته الأردنية المقيمة في الولايات المتحدة الأمريكية “نورما (خوري)بقاعين”، والتي تناولت فيه موضوع جرائم الشرف في الأردن لم تتجاوز جرائم الشرف في الأردن سنويا 25 حالة ، في الوقت الذي تدعي فيه نورما أنها تزيد عن الألفي حالة ، بالإضافة إلى جهل نورما بجغرافية الأردن،حيث لا يمكن أن يمر نهر الأردن في العاصمة عمان ولايمكن للكويت أن تكون على حدود الأردن.وذلك حتى ترينا أن أهمية فلم “أكاذيب محرمة” تكمن في كشف الحقائق وفضح الأكاذيب، بينما خطورة فلم “الطفولة المحرمة” تكمن في طمس الحقائق وتكريس الأكاذيب، وهي أكاذيب من نوع آخر.
تنوه المؤلفة بعد إبراز هذه المفارقة بين العملين الإبداعيين المستعرضين إلى ما يسترعي الانتباه في جمهور الفيلمين، هو أن الأردنيين لم يشكلوا غالبيته، إنما الجاليات الأجنبية، وتلك القلة الأردنية الحاضرة ، بدت وكأنها قد فقدت بوصلتها وكأن الصراع الفلسطيني نشأ بسبب الاختلاف العرقي/ الديني لأبناء وطن واحد،ليصبح الحوار والتسامح والتعايش مع الآخر حلا للنزاع بين الأخوة،كما أن تصفيق القلة الأردنية الحاضرة كان في غير محله،في فلم الطفولة المحرمة، مثلما كان انفعاله في غير محله في فلم أكاذيب محرمة، فبدا وكأن كلامه ليس إلا صدى لكلام وانفعال الحضور الأجانب، الذين لم يعجبهم أن يفضح الفلم الأكاذيب والتورط الأجنبي في تشويه صورة العرب والمسلمين ، وتضخيم المشكلات الموجودة في المجتمع العربي، بينما المتحدثون الأردنيون لم ينكروا وجود جرائم شرف في الأردن، إنما أشاروا إلى المبالغة الكبيرة في حديث نورما خوري بالمقارنة مع نسبة هذه الجرائم حسب ما تثبته السجلات الرسمية.لتتساءل المؤلفة في النهاية: هل ستبقى بوصلة الجمهور إلى الحقيقة مفقودة، فلا يتمكن من قراءة ما ينبغي قراءته ؟
الرغبة في السلام تحت القصف:
للرد على هذا التساؤل تنقلنا المؤلفة إلى مشهد آخر يمثل حالة الفلسطينيين وهم يعانون تحت القصف الوحشي، وفي الوقت نفسه يعبرون عن رغبة بالسلام مع العدو مهما يكن الأمر، وذلك في مشاهدة لفلم من إخراج فيليب عرقتنجي،عبر فيه عن غضبه على الحرب اسماه “تحت القصف” أنتج 2006وتطرح تساؤلا آخر فحواه: من منا لا يتفق مع المخرج أنه لا للحرب؟،ولتحاول الإيحاء بالإجابة تخاطب القراء: انتبهوا للناس والضحايا…هل لا للحرب بالمطلق كما يقدمها الفلم؟،وتتبعه بتساؤل آخر فحواه:ماذا لو كان هناك من اعتدى على أرضك، أو بادرك بالحرب ألا تدافع عن نفسك؟ وتبحث عن الإجابة في ثنايا العرض السينمائي للفكرة، فتجد أن من ناحية أخرى بحث زينة عن ابنها على مدار الفيلم يكتسب مستوى ثانيا للدلالة،فهو الحلم والمستقبل،ويترك لمشاهدي الفيلم معرفة هل سيبقى مفقودا أم أنها ستجده.
ترد المؤلفة على نفسها في استعراضها للفلم التالي فتقول في عنوانه :مازال هناك ما يمكن فعله في الذكرى الستين للنكبة الفلسطينية.وهي هنا تنوه إلى محاولات اليهود توسيع دائرة المتضامنين والداعمين لادعاءاتهم بما يخص الصراع تلك الجهات المؤثرة في الرأي العام العالمي، وتعود لتؤكد مستدركة: “لكن رغم هذا الغياب العربي لازال هناك ما يمكن فعله”.
وتعرض بعد هذا للون آخر من ألوان الصراع وهو الذي يتمثل بجدار برلين،والذي يودع فيه الفلم الذي تتحدث عنه “لينين” وتبحث عن انقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا صورة قد تهشمت، وتعني سقوط الشيوعية بانهيار الاتحاد السوفياتي ومن ثم سقوط جدار برلين الفاصل بين العالمين الاشتراكي والرأسمالي،ويمتاز الفيلم بالموضوعية التي تعرض سلبيات وايجابيات مرحلة التحول والتغيير، و يمتاز كذلك بالأسلوب الرقيق في تقديم حدث حاسم، الذي كان للون والموسيقى التصويرية فيه دورا هاما في إيصال المشاعر والأفكار, إذ يحتفظ الفيلم بالألوان الدافئة في المشاهد التي تجمع الأسرة،تجعل علاقة المتفرج معها حميمة، وهي تعكس أيضا حنين الشخصيات إلى مرحلة مضت.
شكل الحياة في غياب الحرية:
أما فلم “حيوات الآخرين” فتراه الكاتبة أنه يعطي فكرة مكثفة ومختزلة للمشاهد عن شكل الحياة في غياب الحرية والديمقراطية، أو أي احترام لحقوق الإنسان،وعندما لا يحتاج الأمر أكثر من عشرين دقيقة لتصبح حياة أي شخص تحت المجهر، وكل خلية في جسده مرصودة.هذا الفلم الذي حاز على جائزة الأوسكار 2007 لأحسن فيلم أجنبي،من الأفلام التي تستحق المشاهدة والتأمل،حيث تبقى شخصية هوبتمن كأحد الرجال الطيبين الذين باستماعهم إلى صوت ضمائرهم وليس إلى طبيعة وظائفهم يشكلون سوناتا جميلة.
أما فلم “أربعة أشهر وثلاثة أسابيع ويومان”، ذاك الفلم الروماني الذي يجسد فكرة “أن إنسان المرحلة يشبهها”،فيضعنا في جو من الغموض والترقب والاضطراب والقلق، يشبه شخصيات الفيلم المتأثرة بالجو العام المحيط، الذي يعود إلى منتصف ثمانينيات القرن الماضي،حيث يكشف عهد النظام الشيوعي في رومانيا تركيبة إنسان المرحلة الشيوعية والوحدة والعزلة التي يحياها في ظلها، وبما أن الشخصيات وقيمها هي انعكاس لمجتمعاتها، فان القسوة والخداع والكذب والأنانية تصبح قيم تلك المرحلة، مثلما تصبح الوحدة والقلق والتوتر وعدم الثقة مشاعر إنسان تلك المرحلة. وتدعونا عند هذا الحال إلى تأمل العلاقات الإنسانية، والتي تتمثلها الصداقة والحب والثقة، في ظل الفكر الشيوعي والنظام الاشتراكي، الذي يضيق على الإنسان هامش الحرية،ليعكس الفلم بالتالي تجربة النظام المراد إجهاضه والتخلص منها نهائيا ليصبح في طي النسيان.
عين من الداخل:
في انتقال حاد نحو الغرب تقدم صاحبة الكتاب مشهدا مناقضا من المجتمع الرأسمالي,ومن المجتمع الأمريكي بالذات، لتعرض تجربة الباحث “ميلغرام”، باعتبارها عين من الداخل، والتي تقوم على ما يطرحه هذا الباحث من تساؤل:كبير هو:”هل نحن بهذه البشاعة ؟”وبأسلوب الكاميرا الخفية تم تسجيل ورصد ردود أفعال المشاركين إزاء المهمة الموكلة إليهم دون علم منهم؛فجاءت عفوية دون رتوش،لتغدو عين الكاميرا جسر العبور إلى أعماق الذات الإنسانية، والدليل للبحث عن ردود أفعال الأمريكيين عن ذواتهم، فتضعهم هذه التجربة في مأزق امتحان الصور لانهم لا يعرفون فيه أي تلك الصور سيختارون لتكون مرآتهم.
وفي ذات السياق يلامس المخرج الأمريكي مايكل مور بإصبعه موضع الألم، عندما يساهم في فيلمه الوثائقي الأخير “سيكو” إنتاج 2007 ، بإزالة هالة القداسة التي تحيط بالنظام الأمريكي،كمن يلامس بإصبعه موضع الألم، فيسلط الضوء على جشع شركات التأمين الصحي، فأمريكا بما لديها من مال تصرفه على الحروب، و ليس على صحة أبنائها . وعلى التوازي مع ذلك يجري تكريس التشويه صور العرب بعدسات هوليوود، كمثل ما تقوله الأغنية على لسان علاء الدين” الشخصية الرئيسية في فلم الكرتون الأمريكي الذي يحمل اسمه.يؤكد ذلك ما تحراه”جاك شاهين” في أعمال المستشرقين الأوروبيين، الذين عادوا بكتاباتهم ولوحاتهم التي لم تسجل الشرق كما هو، إنما كما أرادوا هم أن ينظروا إليهفها هم يدونون مثلا: “جئت من مكان بعيد، يقع في أرض بعيدة،حيث تتجول قوافل الجمال،وقد يقطعون أذنك إذا لم يعجبهم شكلك،انه مكان همجي.
عين من الخارج:
انه”دوغفيل” الفلم الذي يعرض لحال الوحش الكامن،حين ينهض فيكشر عن أنيابه،من خلال فلم مفتوح على النقاش والتأويل،شكلا ومضمونا،في حين يبقى في ذهن الكاتبة التساؤل الأهم: “من الذي يخول هذا الشخص أو ذاك حق إصدار الأحكام على الآخرين، ومعاقبتهم على أخطائهم، وتبعا لأية معايير ؟
وفي فلم “راقصة في الظلام” تبدأ الكاتبة بالتبشير بأن الحياة الإنسانية لا تنطوي على السعادة دائما،أما أحلام اليقظة فهي الحيز الوحيد الذي تنتهي فيه الأمور بنهاية سعيدة، يبدأ هذا الفيلم بمشهد تدريبات على الغناء والرقص في مسرحية غنائية تعكس مرحلة الأحلام الاشتراكية،وتنتهي بمشهد إعدامها،في مرحلة قتل النظام العالمي الجديد لتلك الأحلام، من ثم سيادته وطغيانه، حتى ينتهي الفيلم بكتابة على الشاشة تدعو في ثناياها إلى الثورة على هذا النظام العالمي المزعوم وعدم الاستسلام له.
الوطن… هوية وشجن:
في محور معنون بثلاث كلمات ذات عمق هي:وطن ،هوية ،وشجن، تدعو الكاتبة من خلال عرضها لمجموعة من الأفلام إلى التمسك بالحلم والهوية،فماذا يمكن للمرء أن يفعل حين تضعه الظروف على عتبة التقاعد دون رغبته، مثلا؟ فما يزال قادرا على العمل..وتقول: كان اهتمام المخرج أن يظهر الإصرار على الحلم والمعاناة في المقابل أكثر من النتيجة. أما في الفلم الذي يلي فهناك “ايثاكي” المواطنة التي تقوم برحلة تأمل، تحاول من خلالها إعادة صياغة العلاقة مع الوطن.ومن بعده يأتي فلم “قص ولزق” وهو من الأفلام الواقعية النقدية التي تنقد الواقع ولا تغيره، فتبقى الشخصيات عاجزة عن تغيير واقعها الاجتماعي والاقتصادي ، إنما تنتظر فرصة الهجرة.والذي يؤكده الفلم التالي المسمى “كلفتي” والذي يمثل دربا يمتد أمامنا من الواقع نحو المجهول، ويستحق منا في الفلم الذي يتبعه ضحكة تعلو على الألم والجراح. أما حين يعطي المرء مرغما ظهره إلى وطنه، فيشكل معاناة شريحة كبيرة من سكان دول أمريكا اللاتينية، حيث الفقر وظروف الحياة الصعبة التي تقود عددا كبيرا من الفتيات إلى أن يصبحن كالبغال التي تنقل في أحشائها الكوكايين إلى الولايات المتحدة.
نلج بالكتاب بابا بعنوان “الحياة ، الموت ، الحب ، الحرب” ، لنشاهد فلم يعرض المغامرة في اكتشاف أعماق إنسان العصر الحديث، وحيث أن إرادة الحياة تعلو على المرض.أما “تحت السقف” فثمة ذاكرة مهترئة ترشح بالانكسارات،وأما في”العطر” فان رائحة الجسد تعبر عن هويته. ويبقى السؤال:ماذا يفعل المرء لو اكتشف أن لا رائحة له، ليس له هوية تميزه عن الآخرين، هل يجنح إلى ما جنح إليه بطل الفلم “غرونوي” ؟ الأمر الذي قد ينسحب في مستوى أعمق على سلوك أنظمة ودول وأمم بأسرها ؟
متى نقوى أن نستسلم للنسيان؟:
حين تفاجئنا الحياة بغير المتوقع فلا نقوى أن نستسلم للنسيان، ما الذي يمكن للمرء أن يفعله إزاء الثابت الوحيد في الحياة ؟ إزاء ما هو محتم وقد جاء باكرا، إنها صدمة تكتم الصرخة،وألم عميق حتى الإنكار، فليست هناك وصفة طبية قادرة على شفاء جراح النفس، وكيف سيتمكن الطبيب من تقديم العون لمرضاه وهو عاجز عن تقديمها لنفسه ؟
تنقلنا المؤلفة حينها إلى رحلة تجاوز الألم في فلم” البيت الأصفر”،ومنذ البداية الأولى يضعنا المخرج أمام ثنائيات الموت /الحياة، الحزن /الفرح، بمرافقة موسيقى تصويرية رقيقة تعمق الإحساس بالسير وحيدا نحو المجهول الغامض الذي لا يتضح. حيث هناك توق الروح إلى مرفأ حريتها، أما معادلة الحب بالنسبة ل بطل الفلم “رامون، فهي واضحة لا لبس فيها، مضمونها ( من يجبني حقا سيكون الذي سيساعدني على الموت)، هذا هو امتحان الحب، من يحبه سيقدم له مفتاح حريته،وقليلا من السيانيد وبعدها سيحلق من جديد في عالم تتحقق فيه الأحلام .فما قيمة الحياة في حضرة الموت؟و ما الذي يلزم المرء كي يدرك أهمية كل لحظة في حياته وليستمتع بجمالها؟ لربما وحده الموت القادر أن يشعره بذلك، وبأن الحياة ثمينة، وهناك مساحات من الرغبة والمعرفة لا زالت مجهولة، يشتهي أن يتوقف الزمن كي يكتشفها.وفي ذلك ما يمنحنا مساحة لتأمل قيمة لحياة التي يجب أن ندرك أهميتها، ونستمتع بكل لحظة فيها، قبل أن تتسرب على غفلة منا
في النهاية وما قبل النهاية:
في شيء ما قبل النهاية، يبدو أن الأحياء وسط الموت المحيط بهم يبدون أكثر موتا من الموتى أنفسهم،وليس للمرء سوى حياة واحدة يحياها، فكل لحظة هي قصة بحد ذاتها، وكل لحظة هاربة جديرة بالاهتمام والمتعة، لكن المرء لا يتمكن من الاستمتاع بها.أما حين يتعلق المرء بالوهم،ويقوم برحلة البحث عن الحب الذي يحسب أنه لا يزال ممكنا، ومن خلال هذه الرحلة المضنية، يسائل نفسه: إذا فقدنا ذاكرتنا ونسينا فمن نحن بعد؟ وبما أنه علينا أن نتعلم درسا من التاريخ الذي يعيد نفسه، ويتجلى فيه الصراع كمحرك رئيسي لأحداثه، فإننا نتوصل إلى نتيجة مؤداها أن أخلاق المرحلة تشبهها، وهو ما تعكسه مجريات فلم”مالينا”، وتتمثل حقيقة الصراع من أجل الحياة، لا بل من أجل السعادة في هذه الحياة، أو الموت دونها، وهو الحق والحقيقة الأزلية.
* باحث وأكاديمي من الأردن
dfaisal77@hotmail.com