معضلة الكتابة.. لا تجعل نفسك مشكلة!



دينيس بالومبو/ ترجمة: آماليا داود


خاص ( ثقافات )

“الحل.. لا تجعل نفسك المشكلة”

بصفتي طبيباً نفسياً ومختصاً في العمل مع مبدعين، يطلبُ مني كثيراً التحدث في مؤتمرات الكتابة، وفي مؤتمر حديث، سألني أحد الحاضرين سؤالاً.
وهكذا جرى الحوار: 
– “عندما أكتب، أحس أني لا أعرف ماذا أفعل، أنا أكتب أشياء ثم أحذفها، ثم أحاول شيئاً آخر، وأعتقد أني أفقدها في بعض الأحيان، ماذا يعني هذا؟
– هذا يعني أنك كاتب.
– ” لكن أنا أمضي معظم الوقت قلقاً، لا أعلم ما إذا كان عملي صحيحاً أم لا.
– نعم هذه هي الكتابة.
إلا أن تلك الأجوبة لم تمحُ نظرة الحيرة عن وجهه.
– “لا أعرف الكثير حول ذلك، لكن المرة الماضية سمعتُ أننا مجانين” .
– من المجانين؟
– نحن الكُتاب.. وقال طبيب نفسي إننا جميعاً مصابون باكتئاب ثنائي القطب، وهذا ما أثبتته الدراسات.
– لهذا الحد! هل تعني لأنك كاتب يصيبك اكتئاب ثنائي القطب، أم لأنك مصاب باكتئاب ثنائي القطب تصبح كاتباً؟ 
– ” قد تكون واحدة أو الأخرى، أو كليهما.. ما رأيك؟
رأيي: على ما يبدو إنها الموضة مرة أخرى: إن مفهوم الدافع الإبداعي، يأتي مع صعوبات عاطفية متقطعة، وهو مجرد نتاج للاضطراب النفسي، ويجب النظر إلى مقدار التوتر والاضطراب العاطفي، والمزاج المضطرب، الذي يرتبط كثيراً بالإبداع.
التشخيص النفسي المفضل للمبدعين، وخاصة الكُتاب، هو اضطراب ثنائي القطب، أو ما يسمى بالاكتئاب الهوسي.
بطبيعة الحال، فكرة أن الدافع الفني هو حتماً نتاج حالة نفسية ليست بالجديدة، فالتاريخ مليء بأمثلة لفنانين منكوبين بالحزن، أو الانغماس في الشرب، أو قطع الأذن، الخ.. ما نسميه نحن المعالجين النفسيين، التصرفات غير اللائقة، ولكن أن نستنتج أن نوعاً من الجنون يكمن وراء المسعى الإبداعي، أو حتى أسوأ: أن الدافع للإبداع يكمن وراءه حالات سريرية هو استنتاج مخطئ للغاية.
أولاً: إلى أيّ مدى يعتقد المعالجون بصحة التشخيص المسبق مثل اكتئاب ثنائي القطب. العناوين البريدية وجدت لتسهيل عمل الساعي، أما عن كيف يفيد التشخيص المسبق الفنان فهو أمر قابل للنقاش.
ثانياً: الادعاء بأن الدافع الإبداعي يأتي من مصدر واحد، الهوس أو الذهان أو حتى من القمر، مثير للسخرية ويحتمل أن يكون ضاراً، لأنه يبسط ويتعارض مع التجربة المعيشة للفنانين، وضار لأنه يقلل من شأن الجوانب التي لا يمكن تعريفها للفعل الإبداعي.
وأنا أتذكر اقتباساً من الكاتب هـ.ل. منكن: “هناك حلول سريعة لكل مشاكل الإنسان: أنيقة ومقبولة لكنها خاطئة”، الميل إلى رؤية النضالات الإبداعية للكاتب فقط لتثبيت مشكلة نفسية ينم عن ضيق عمق في رؤية الخيال، وقلة تقدير للطرق الخفية في القلب الفني.
والمهم هو، أجل ربما عانى فان جوخ من أعراض يمكن أن نسميها اكتئاباً ثنائي القطب، ولكن الأكثر أهمية، هو أنه كان موهوباً لأعلى درجة، ويمكن للحقيقتين أن تكونا موجودتين معاً، دون أن تسبب إحداهما الأخرى.
والذي يعيدني إلى الكاتب القلق، لأنه ليس وحده في قلقه عما تعنيه صراعاته الإبداعية، العديد من الكتاب يتساءلون حول نفس الموضوع، نظراً لمستوى القلق والشك في النفس والخوف من تعريض الذات للعار، الذي يرافق كتابة معظم النصوص والمسرحيات والمقالات والروايات.
” إذا عانيت من القلق، ألا يعني هذا شيئاً عن نوعية الذي أكتبه؟ ولنواجه الأمر: إذا كنتُ جيداً، لماذا أعاني من هذا العذاب؟ إذا كانت القصة التي أكتبها جيدة فلماذا أعاني كثيراً من المشاكل الفنية، وخللاً في السرد وتضارب بعض الشخصيات، صحيح؟” هذا السؤال الذي يسألني إياه معظم الكتاب. 
خطأ. المشاكل التقنية، والخلل السردي، ومشاكل الشخصيات موجودة لسبب بسيط جداً.. الكتابة صعبة.
وهذا لا يعني أن الكتابة ليست مقترنة في معظم الأحيان مع القلق، الذي يظهر في العديد من الطرق المختلفة، وعدد لا يحصى من الليالي من دون نوم، والتوتر والإجهاد والتفكير المستمر، هذه الأعراض وتجريم الذات بالمعاني التي نعطيها، إنه مقياس، فعندما تخبر قصة جيدة بذكاء، وتكتب بعاطفة صادقة، يكون السرد صعباً، صعباً جداً.
اسمحوا لي أن أقول كما أقول لكل الكتاب من مرضاي، ما أحاول أن أؤكده، أن وظيفة الفنان هي الخلق، وعندما تقوم بإبداع أيّ شيء من رواية إلى مسرحية قصة أو أغنية، سوف تواجه المشاكل، المشاكل متأصلة في هذه المهمات، لذلك مهمتك الحقيقية والفعالة هي العمل لحل تلك المشكلات، وأن تحل الصعوبات، وتجيب عن الأسئلة المزعجة.
وبعبارة أخرى أكثر دقة، أنا أؤمن بأنه عليك أن تحل المشكلة، بدلاً من محاولة جعل نفسك المشكلة ضع مشاكلك النفسية جانباً، فمشاكل إبداعاتك هي التي سوف تنجز العمل.
مثال على ذلك: أحدُ أصدقائي راهب بوذي لديه رباطة جأش وتوازن، بالنسبة لخبرتي فهو يتمتع بالرفاه النفسي، وهو أيضاً شاعر، وآخر مرة تحدثت معه، اشتكى من القصيدة الطويلة التي كان يعمل عليها: “كتابة الشعر عاهرة”.
ولاحظ هنا أنه لم يقل شيئاً يجرم به ذاته، أو موهبته، أو شخصيته، أو أخلاقيات عمله، إنه ببساطة لا يرى صراعاته وإحباطاته الفنية دليلاً على فشله الشخصي، أو دليلاً على انعدام الأمن الشخصي، وذكر أن كتابة الشعر صعبة.
لذلك، عندما نعاني من مشاكل في الكتابة، نحلها، ولا نحول أنفسنا إلى مشكلة. ربما أنك تعاني حقاً مشاكل نفسية عليك حلها، لكن الصعوبات التي تواجهها هي جزء من مهمتك، ولا تعكس قصورك الخاص ككاتب أو كشخص.
تذكر، الكتابة صعبة.. كتابة أيّ شيء صعبة، خاصة إذا كنت تحاول بأقصى جهدك.
وهذا يذكرني بقصة حدثت في هوليوود منذ سنوات، في غرفة مليئة بالكتاب الذين يحاولون كتابة سيناريو، فواجهوا مشكلة في الفصل الثاني، وبعد أسبوع من المجادلات والنقاشات لم يتوصلوا إلى حل، وقاموا بالاستعانة بكاتب شاب، وفي دقيقتين استطاع أن يجد الحل، وقد علق أحد الكتاب المشتركين على ذلك: “بالطبع حلَّ المشكلة، فهو لم يعلم مدى صعوبتها!”.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *