لا تسلّم نفسك لهم


زياد خداش *


لا تصدقهم حين يقولون لك إنك كاتبهم المفضل، فأغلبهم ينصبون لك فخاً من العسل، لأغراض معينة، لا تكن متوافراً لهم، لا تضحك معهم كثيراً، لا تثرثر ولا تبالغ في مدحهم حتى لو كانت بعض نصوصهم تستحق مديحك، لا تجلس معهم كثيراً في مقاهٍ يرتادها رسامون وشعراء، سيتقوّلون عليك، سيقولون: جلسنا مع زياد خداش، وقال لنا كذا وكذا، وقلنا له كذا وكذا، سيكذبون ويشوّهون الحقائق، تخلى عن بساطتك وعفويتك أمامهم، لأن بساطتك وعفويتك ثغرتان جاهزتان لينفذوا من خلالهما إلى حيث دوائرك الصافية، ومساحاتك العذرية الحميمة، إياك أن تصبح شخصاً سهل المنال، سهل المعرفة، إياك أن تهرّج أو تنكّت، اختر أصحاباً يفهمونك لتنكشف عليهم بتهريجك وجنونك وعبثك الشخصي، ومغامراتك، لا تبعثر جواهرك على الكل، لا تدعهم يعرفون من أنت بالضبط، دعهم يلهثون خلفك، ويتعبون ليعرفوا أين تسكن وما شكل أنف التي تحبها وكيف تكتب ولم تكتب؟ إذا لم تفعل كل ذلك ستصبح مخترقاً وعادياً وضعيف الدفاعات. لا تذهب معهم إلى مهرجانات دولية، وإن ذهبت اسكت ولا تثرثر في الطائرة، وفي الأمسيات الشعرية ستجدهم بالتأكيد هناك يتربصون بالكتّاب الكهول ليحصلوا منهم على الاعتراف بوجودهم الإبداعي، ويهدونهم كتبهم، ويحصلون على أرقام هواتفهم، وليتقوّلوا عليهم في ما بعد.

– «استاز زياد ممكن اتشوفلي هالنص لو سمحت؟»، وحين ببراءة وصدق «تشوفه» وتقول له إنه ركيك جداً، وإنه بحاجة إلى القراءة وتمزيق كثير مما يكتب، يشتمك في المقهى، ويطلق عنك الشائعات، ويتهمك بالتعقيد والسطحية والتعالي.

ويحدث أن يخترق أحدهم وقتك وثقتك فيرسل إليك رسالة على «فيس بوك»: «استاز ممكن تبعتلي هذا النص لجريدة الأيام؟»، وحين تفعل لك مخدوعاً وعفوياً وطيب القلب، وبعد أن ينشر النص، تصبح أنت عادياً جداً، ومستهلكاً وسهل التناول، فيقارن نفسه بك، ويقول لك مثلاً: أنا عندي صورة المرأة تختلف عن صورة المرأة في نصك، ويحدّثك بأسلوب فظ وفوقية مضحكة عن رأيه الجديد في نصوصك: «زياد (وتختفي كلمة استاز بسرعة) أنت كاتب غير وطني، التزامك بالهم العام ضئيل رغم أنك لاجئ»، وتتذكر عمرك وعمره، فتصاب بالجنون، وحين تعض على أسنانك ندماً، تصيح داخلك: للمرة الألف أقع في المصيدة: وتفكر في الخيارين الوحيدين المنتصبين أمامك: أن تكون كاتباً غامضاً وبعيداً ومحترماً، أو أن تكون عفوياً وبسيطاً وأهبل، لا خيار ثالث.

أنا أفضل الخيار الأول، نعم، أفضل أن أكون صعباً ومغروراً ومحترماً.

لا تضعف أمام عيون الكاتبات الجميلات، صاحبات النصوص الرديئة، أولئك اللواتي ينتشرن كالجراد الأنيق في الشبكة العنكبوتية، لا تقع في غواية أصواتهن على الهاتف، ولا تلبي دعواتهن لجلسات حميمة، فهذه هي وسائلهن لانتزاع دهشتك بنصوصهن المضحكة، وللتباهي بجلوسهن معك، تعامل معهن بلطف محسوب، لا تكن فظاً ولا تذوب وتضيع أمامهن، قل لهن بصرامة: اقرأن كثيراً، عشن كثيراً، متن كثيراً، واخرجن من البيت كثيراً، قبل أن تكتبن، فالكتابة موهبة وتجربة واختراق وخروج وعصيان وموت كثير.

تعلّم من محمود درويش الشاعر الخارق الذكاء، الذي حرص على ألا يتورط في الانغمار بترّهات المقاهي والحفلات، والنساء الثرثارات والرجال الفارغين والسهرات الجماعية، والأصحاب العاشقين للظهور والعيون الجميلة.

أتذكر أني كتبت رسالة لمحمود درويش، نشرتها جريدة «أخبار الأدب» المصرية أواسط التسعينات، وكنت آنذاك في بدايات حريقي الأدبي، عنوانها: (ألا يداهمك السأم لنظافة الأشياء حولك)، أتذكر أن محمود قرأها وضحك كثيراً قبل أن يقول لصديق له: زياد (فاهم غلط).

الآن اعترف أني بالفعل كنت قد فهمت محمود درويش (غلط)، فتخيلوا معي محمود درويش وهو يرتاد مقاهي رام الله يومياً ويجلس مع مثقفيها، متبادلاً معهم الشائعات والصيحات وضربات الأكف، ولاعباً معهم الشدة، وسامحاً لهم باختراق روحه، ومتشاركاً معهم في شتم نصوص الآخرين، وكاشفاً لهم عن تفاصيل حياته الشخصية، هل ستكون صورة محمود درويش، فيما لو فعل ذلك، هي نفسها صورته الآن؟ بالتأكيد لا، محمود ليس وسامة وصوتاً وشعراً جميلاً فقط، هو أيضاً عبقرية سلوك اجتماعي أيضاً.

خلاصة قولي ونصائحي للكتّاب الكهول هي أن يرسموا مسافة كافية بينهم وبين الأدباء الشبان تفادياً للإهانة وتضييع الوقت والأذى، أعرف أن ذلك سيظلم كثيراً من أدبائنا وأديباتنا الشباب، الذين لا تنطبق عليهم وعليهن هذه الحالات.

إن لعنة «فيس بوك» ورّطت كثيراً من الأدباء الشبان في عرس الاحتفال الدائم بالنفس وتهنئتها المستمرة، والتوهم بالعظمة والتفوق. جيلنا لم يعش هذا الغش ولم يسقط في هذه الخديعة، بالنسبة لنا ظل محمود شقير أستاذاً في الكتابة القصصية، مازلت شخصياً أطلق عليه أمير القصة، احتراماً لتاريخه وموقعه ومنجزه، وهذا لا يعني بالطبع الامتناع عن تجاوزه واجتراح أساليب وطرائق قصصية تفارق تجربته، بالعكس تماماً، أنا مع التجاوز والتجديد والمغامرة الأدبية، ولكن باحترام شديد للجيل الذي نتجاوزه، لا بتحقيره وتسخيفه وإعدام منجزاته.


* قاص من فلسطين
( الإمارات اليوم )

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *