*أمير تاج السر
منذ عدة أيام، توفي سيف الدين هبشي، وهو معمر في حوالي المئة، من قرية كرمكول، التي ولد فيها الروائي الراحل الطيب صالح، وارتبط بها ارتباطا كبيرا، أثناء وجوده في السودان، قبل هجرته إلى إنكلترا.
وتناقلت بعض الصحف ووسائل الإعلام، وفاة سيف الدين، بوصفه آخر شخصية من شخصيات رواية «عرس الزين»، التي صاغها الطيب في أواخر خمسينيات القرن الماضي، مهتديا بمعطيات بيئة القرية بلا شك، ومستوحيا بعض الأحداث التي طورها الخيال إلى حكاية تقرأ بشغف. وقد اعتاد الإعلام في السودان، بعد وفاة الطيب، أن يسافر من حين لآخر إلى تلك القرية التي اختلفت ملامحها بشدة بتغير الزمن، حيث يقتحم بيت جدي محمد صالح، والد الطيب، الذي كان في منطقة أعلى قليلا من بقية بيوت أهلنا، ولذلك بقي كما هو، لم تدمره فيضانات النهر، يبعثر تلك الكتب القديمة والرسائل التي تركها الطيب وأخوه القاضي بشير، في صندوق كبير من الحديد، ويلتقي ببعض أهل القرية، طارحا أسئلة عن الطيب وشخصياته، وكلها ترمي إلى فكرة واحدة، أن تلك الشخصيات الروائية، كانت أو ما يزال بعضها موجودا في القرية، ويمكنه أن يدلي بشهادة عن كتابة الطيب.
لقد شاهدت التلفزيون، مستعينا ببعض أهل القرية، يحاصر سيف الدين في شيخوخته، يسألونه عن الطيب ولا يكاد يذكر شيئا عن الطيب، يسألونه عن حادثة جرت وقائعها في رواية «عرس الزين»، حين جرح سيف الدين، داخل النص، الزين بطل الرواية، ويرد الرجل بأنه لم يجرح أحدا، وحين يتم تكرار السؤال بشدة، يجيب متملصا، بأنها كانت شقاوة صبا، لا أقل ولا أكثر.
إذن، فقد تم افتراض أن الزين شخصية حقيقية عاشت بكل وقائعها الموجودة داخل النص، في زمن ما، وما كان على الطيب، سوى نقل الحياة تلك إلى الورق. أيضا افترض أن سيف الدين الشيخ المسن، هو سيف الدين الرواية، وذلك الجرح الذي حدث في رأس الزين،، حدث واقعي أيضا، نقله الطيب بكل سهولة إلى الورق، وهكذا رواية هي قصة واقعية، ليس لأحد فضل في كتابتها، ولكن الفضل في جعلها حكاية مشهورة.
طبعا، في البداية أود أن أنوه بأن الأدب الذي يحدث مثل هذا التفاعل في الواقع، ويتأثر به حتى الأميون الذين لا يعرفون ماذا تعني رواية، وماذا تعني قصة، وما معنى الشخصيات، أدب جدير بالاحترام، وأدب خالد بلا شك، والطيب كان حتى في دردشته العادية، يصنع خلودا ما، وذكريات تبقى لدى الذين يستمعون إليه، وبالتأكيد لسهولة الحكاية، وروايتها بلغة عادية، وقريبة من لغة الناس، دور كبير في إبقائها متقدة حتى بعد رحيل الكاتب، وجميع مجايليه، بحيث تظل الحكاية تروي نفسها بنفسها، ولا تنقطع روايتها أبدا.
لكن الذي لا يعرفه الناس، أو يعرفونه ولا يودون أن ينتبهوا إليه، هو أن الأدب الروائي، حتى لو رسم الواقع رسما متقنا، فهو أدب متخيل. ليس كل ما يجري داخل النصوص، من المفترض أنه جرى في الواقع، وليس كل شخصية رسمت بعناية، هي شخصية مرسومة في الأصل، وتم السطو على رسمها، وحشره في نص، وليس كل اسم ورد في رواية وصادف أن هناك من يحمله، في البيئة التي استوحيت منها الرواية، هو بالضرورة الاسم الحقيقي نفسه.
سيف الدين المعمر الذي مات منذ أيام، كان يعيش شبابه وفتوته، في مدينة بورتسودان الساحلية، وله فيها مغامرات أخرى، لا علاقة لها بفأس أحدث جرحا في رأس رجل، هو الآخر ليس الذي كان يسعى في القرية ذات يوم، لكنه مستوحى منه، وتمت صياغته بما يرضي الخيال، وتلك الأسئلة التي كانت تخنقه ليدلي باعتراف لا يخصه، لم يكن هناك ما يبررها، سوى أنه كان الوحيد في ذلك الجيل القديم، الذي اسمه سيف الدين، وما دام ورد اسمه في الرواية، فهو سيف الدين حامل الفأس التي أحدثت جرحا في رأس الزين.
كنت وما زلت من الذين تستهويهم الأسماء الغريبة، أتخيل أصحابها شخصيات روائية، وأقوم بالفعل بصياغتها، ولطالما استوحيت أسماء من أشخاص التقيتهم، أو سمعت بهم، أو حتى تداخلوا في برامج إذاعية، استمعت إليها مصادفة، وما زلت أطالع رسائل الاحتيال التي ترد إلى بريدي الإلكتروني بشغف، حيث أعثر فيها دائما على أسماء مطلوبة لشخصيات أفكر في كتابتها، وصادف أنني كتبت في إحدى روايات البدايات أو بالأحرى، في روايتي الأولى، اسم سيدة، كانت ذات وظيفة محددة داخل النص، وعلى الرغم من أن روايتي تلك لم تكن شهيرة، ولم تدخل السودان إلا في نسخ معدودة جلبها أفراد زاروا مصر وعثروا عليها هناك، حيث لم يكن التوزيع خارقا ومتطورا مثل الآن، إلا أن اسم السيدة، وصل إلى امرأة في الواقع، لم أكن أعرفها، تحمل الاسم نفسه، وتعمل في الوظيفة نفسها التي كتبتها في النص، وظل بعض أفراد أسرتها يطاردونني لزمن، مطالبين بتعويض عما سببته لقريبتهم من حرج، ولم يكن في الواقع أي حرج، لأنني لم أسئ إلى الاسم أو الوظيفة، كما أنني لم أكتب عن قريبتهم تلك. هو الخيال ما صاغ كل شيء، وجاء من جر الخيال وجعله واقعا رغما عني.
إذن، الواقع يكتب شخصياته ووقائعه، في أي مكان في الدنيا، وفي كل زمان، ويأتي كتاب مصابون بهوس الكتابة، ليأخذوا من ذلك الواقع زادا قليلا أو كثيرا، يطعمونه للخيال الذي يخرجه نصوصا أخرى، مختلفة تماما، لكن دائما ما يأتي بعض الذين عاصروا وقائع ما، ليستولوا على نتاج الخيال، وتصبح الوقائع المرصوفة في النص، وقائع جرت ذات يوم وعلى الكاتب أن يقر بوقوعها.
______
*القدس العربي