*العلوي رشيد
إشكالية المصالح والتصالح في سبيل مجتمع متضامن
عرفت الفيلسوفة الألمانية، حنة آرنت، بكتاباتها الفلسفيّة والسياسيّة أكثر مما عرفت بكتاباتها ذات النفحات الدينيّة. فجراء ويلات النازية التي كانت السبب في رحيلها إلى أميركا، تأملت آرنت الوضع البشري في القرن العشرين، محاولة تلمس بعض عناصر التفكير، في جواب قيمي وسيّاسي لمقاومة تصحر العالم.
لم تسائِل آرنت تاريخ الغرب كتاريخ لنسيان الوجود، كما فعل هيديجر، ولا باعتباره تاريخ قلب الأفلاطونية، بل باعتباره تاريخًا تبلور فيه نسيان الماهيّة السيّاسيّة للإنسان، لأن صعود الأنظمة التوتاليتاريّة، شكل بالنسبة لها، ظاهرة جديدة غير مسبوقة في تاريخ الإنسانية، حيث تقول إن « هذه الأزمة التي اتضحت معالمها منذ بداية القرن، إنما هي أزمة ذات أصل وطبيعة سياسية. فتصاعد الحركات السياسية الرامية إلى الحلول محل نظام الأحزاب، وتطور شكل توتاليتاري جديد لممارسة الحكم، إنما يقف خلفه انهيار، تختلف درجة عموميته ومأساويته عن السلطات التقليدية».
تصر آرنت، على أهمية الفعل، وعلى القدرة التي تميز الإنسان بما هو كائن فاعل ومبدع وسياسي في الآن ذاته. فعلى الرغم من التصحر الذي يميز العصر الحديث، بعد أن غزته الأنظمة التوتاليتارية، فإن للسياسة معنى: معنى السياسة هو الحرية. ومهما حاول الفكر الفلسفي القديم والحديث، على حد سواء، أن يضعا حدًا فاصلاً بين «الحياة التأمليّة» أو «حياة الفكر»، وبين «حياة الفعل» أو «الحياة النشيطة»، فإن ماهية الإنسان الحديث هو الفعل السيّاسي. ونحن لا نستطيع أن نحيا إلا بموجب هذه الماهية. لأن أزمة العالم الحديث، إلى جانب مسؤولية التقنيّة والعقل الأداتي، تتمثل في انتشار العنف واستعمال القوة في كل مكان، إلى الحد الذي أصبح معه هذا العالم، مجرد صحراء تزحف رمالها يومًا عن يوم. ولكن على الرغم من ذلك، تقول آرنت، لا تزال وسط الصحراء واحات تقاوم، وستظل تقاوم شبح التصحر.
لا يمكن للوحة القاتمة التي ترسمها آرنت، أن تكون عائقًا أمام البحث وراء المعاني التي تحددها هنا وهناك. فثمة بين نصوصها، كثير شذرات أمل من أجل الرّقي بالوضع البشري نحو الأفضل. وعلى الرغم من أن العصر الحديث، هو عصر العنف – نحوم في مجال يحيط به العنف من كل الجوانب – الذي عمّمته الثورات من جهة، والأنظمة الكليانية من جهة أخرى، فإن من سمات الإنسان الحديث، أنه يوجد بمعية الآخرين داخل العالم. وهو الأمر الذي جعلها تقترح لمواجهة هذا الشر، إمكانية الصفح والحوار والإيمان بالتعدد والمغايرة، «إذ تتيح ملكة الصفح، محو أفعال الماضي الذي تعلق أخطاؤه». فالصفح وحده، قادر على معرفة الذات والتقرب إلى الغير. وهي القيم التي لم تعد مقبولة في عالم التوتاليتارية، حيث الانتقام والجشع والانطواء على الذات، هي ما يميز إنسان المجتمع التوتاليتاري. لذلك تقول آرنت: «يعتبر الصفح بحق، نقيض الانتقام الذي يتحدد فعله كرد فعل ضد عثرة أصلية من هنا، وبعيدا عن التمكن من وضع حد للآثار المترتبة عن الخطأ الأول، يقوم بربط الناس بالسيرورة وترك رد الفعل المتسلسل، المتسمة أعماله بالضخامة، يواصل سيره بكامل الحرية.. إن الصفح، بعبارة أخرى، هو رد الفعل الوحيد الذي لا يقتصر على إعادة إنتاج الفعل، ولكنه يمارس فعله بطريقة جديدة غير متوقعة، وغير مشروطة بالفعل الذي أنتجها، وهي التي تحرر بالتالي الصافح والمفصوح عنه..»، وتضيف: «لولا صفح الآخرين عنَّا، الذي به نتخلص من تبعات أعمالنا، لبدت قدرتنا على الفعل كما لو كانت حبيسة فعلٍ واحدٍ يلتصِق بِنا إلى الأبد، ولبقينا ضحايا عواقبه، وآثاره تمامًا مثل ساحرٍ مبتدئ عاجز، في غياب الوصفة السحرية، عن إيقاف صنيعه أو التحكم به (فيما يشبه وحش فرانكنشتاين). ولولا التزامنا بالوعود، لكنا عاجزين عن الحفاظ على هويّتنا، ولكُتِب علينا أن نتيه بلا قوة ولا هدف، كل يهيم في ظلمات قلبه الوحيد، ويغرق في التباسات وتناقضات هذا القلب. ظلمات لا يبددها، إلا النور الذي ينشره حضور الآخرين في المجال العمومي، بتأكيدهم هوية الإنسان الذي يعد والإنسان الذي يفي بوعده». وها هنا تجد آرنت، مدخلا آخر لمحاولة تجنب الشر: إنه الصفح كمقابل للانتقام. فإذا كانت النزعة الانتقاميّة بكل نتائجها السِّلبيّة، تدخل في صلب الهويّة، فإن الحل الأنسب لتحقيق انسجام بين الضحيّة والجلاّد، هو الصفح كمبدأ يحقق التسامح كأعلى قيمة إنسانيّة، بدل أن تكون مجرد مبدأ أخلاقيا متعاليا، كما هو الحال عند كانط.
نعود من جديد إلى الشرط الإنساني، الذي يتماهى فيه الفعل السياسي، بما هو جوهر الماهية الإنسانيّة، مع مختلف الأنشطة الإنسانيّة الأخرى داخل الفضاء العمومي. لأن الأنا المفكرة لا تعيش بمعزلٍ عن العالم والآخرين. لأن هذا الفضاء البينذاتي، هو حقل تجارب الوعي الجمعي. فهل يمكن أن يكون الصفح أداةً لتجنبِ الجرائم التي ننسبها للشر؟
تبدو مقاربة آرنت لمسألة الصفح، مقاربة مسيحيّة لا تتجاوز التصور الكانطي في «الدين في حدود مجرد العقل». فإذا كان المسيح هو النموذج الأعلى الحامل لكل صفات الإنسان الكامل، فإن صفة الصفح كقيمة إنسانيّة نبيلة لا نجد تأطيرها الفعلي كمبدأ محايث للشّرط الإنساني، إلا في الدين المسيحي كما تؤكد ذلك. غير أن طابعه المسيحي هذا، لا يلغي إمكانية علمنته، حيث تقول: «لقد كان المسيح وراء اكتشاف الدور الذي يلعبه الصفح في مجال الشؤون الإنسانيّة. ولا يجوز التذرع بكون هذا الاكتشاف قد جرى في سياق ديني، وجرى التعبير عنه بلغةٍ دينيّة، لكي لا نعامله بالجديَّة المطلوبة من منظور علماني صرف».
لا يعود سبب الشر في نظر آرنت، إلى فاعله الذي تحول إلى مجرد وسيلة لتنفيذ سياسة عنصرية، تقوم على الرفض وعلى معارضة الآخر، ولا تعترف باقتسام الأرض مع من يستوطنها، إنه حالة غياب للاعتراف بالغير، وغياب الإيمان بالتشارك مع الآخر. هذه السياسة التسلطيّة التي تقوم على القوة والعنف، لا يمكنها أن تؤسس لسلام، ولفعل حر مبني على تفكير عقلاني لدوام الخير الأصلح للناس. لذا فالعنف لا ينجم عنه إلا عنف مضاد. وكان من المفروض، ألا يحاكم آيخمان باعتباره مجرما قام بفعل لا أخلاقي، وإنما يتوجب الاعتراف أنه ليس مذنبا بقدر ذنب النظام السياسي النازي الذي يمثله، وهكذا كان يكفي أن يعترف أنه ارتكب جرمًا في حق الإنسانيّة، وأنه يتوجب أن يحاكم بقانون آخر غير القانون الذي صار هو نفسه منبع الشر.
يبدو حل آرنت هنا حلاً قيميًا – أخلاقيًا، يتوخى الاستجابة لنداء الفلاسفة منذ سقراط، حيث لا حل لتناقضات العيش المشترك والوجود معا في الفضاء العام، إلا بالتحلي بالقيم النبيلة التي لطالما نادت بها الإنسانيّة. وعلى الرغم مما يمكن أن يقال عن الصفح، كأداة للتسامح والمصالحة، إلا أنها (أي كأداة وليس كقيمة)، تطرح كثيرا من المشكلات على المستوى العملي – السياسي: فهل يقبل الضحية بمصافحة الجلاد؟ وهل يقبل من قضى نصف حياته في معسكرات النازية، في الصحراء التي لا معنى فيها للوجود، أن يقبل الصفح، وأن يسامح آيخمان ويتصالح معه؟ وحدهم أي الضحايا قادرون على أخذ القرار. نطرح هذا السؤال لأن من أكبر المشكلات المطروحة في الألفية الجديدة، هي إشكالية المصالح والتصالح في سبيل مجتمع متضامن ومتعاضد. وقد تكون صرخة الفاعل السياسي – الحقوقي بجدوى قيمة الصفح شبيه بصرخة الثيولوجي بالمغفرة.
________
*الشرق الأوسط