عبد الجليل لعميري
خاص ( ثقافات )
تقديم:
أصبحت الكتابة الروائية محط اهتمام بالغ. ووصلت النظرية النقدية فيها إلى مراحل مهمة وجد متطورة. وكشفت أن النص الروائي غني بالدلالات، وهو أمر يعكس تعدد المناهج والمفاهيم الإجرائية النقدية التي تقارب النص الواحد وتتوصل إلى نتائج متعددة، مما يثري النص الأدبي، ويضمن له صيرورته وسيرورة حضوره التاريخي عبر الزمن.
ولكل نص روائي دلالات متعددة وأبعاد خصبة، لا يمكن لمقاربة وحيدة وأحادية أن تلم بها جميعها. فأصبحت الضرورة المنهجية تحتم على المهتم بأن يقصر جهده، في مقاربة أي نص روائي على تيمة محددة، حتى يتسنى له تقديم أفضل وأدق النتائج،
وباختيارنا لموضوعة الفضاء في كتابات إميل حبيبي، نسعى إلى مقاربة تيمة محددة والكشف عن دلالاتها الخاصة داخل نسق كتاباته الروائية، مع الوعي بان التيمة الواحدة، وفي أي نص روائي، لا تنفصل عن النسيج العام المشكل للنص، ولا يمكن تناولها بمعزل عن باقي المكونات السردية الأخرى للنص.
لذلك ارتأت هذه المقاربة أن تطل، من خلال الفضاء وعبره، على باقي مكونات نص إميل حبيبي من: زمان وشخصيات وأحداث، بالتوقف عند طبيعة هذه العلاقات الكفيلة، وحدها فقط، بالكشف عن الدلالات المتعددة والخصبة للمكان.
*من الفضاء إلى المكان: في المفهوم
تستعمل معظم الدراسات النقدية الحديثة المصطلحين معا، لكن يظل الفضاء أعم وأشمل وأكثر تركيبية من المكان. وقد يرد استعمال أحد المصطلحين بحسب المراجع المستعملة في هذا البحث.
والمكان الروائي لا يكون منعزلا عن باقي عناصر السرد، بل يدخل في علاقات متعددة ومتكاملة مع المكونات الحكائية الأخرى للسرد، كالشخصيات والأحداث والرؤيات السردية(1).
وقد استطاعت الشعرية الحديثة أن تجعل من المكان: عنصرا حكائيا بالمعنى الدقيق للكلمة، إذ أصبح الفضاء الروائي مكونا أساسيا في الآلة الحكائية. ورفعت بذلك: اللبس الحاصل في علاقة الفضاء النصي والفضاء المكاني والفضاء الواقعي(2).
ومع ذلك فالمكان في الرواية يتكئ على بعده التخييلي ليقطع صلته، نسبيا، ببعده الفيزيائي ذي المقاييس الإقليدية، وهذا الانتقال من مجال الدراسات الفيزيائية إلى مجال الأدب يجعل مفهوم المكان يجدد دلالاته ويوسع بعده الفيزيقي ليشمل أبعادا رمزية وإيديولوجية تساهم في البناء الروائي كعالم متخيل. ومن هنا لا يوجد الفضاء الروائي، مثل المكونات الأخرى للسرد، إلا من خلال اللغة، فهو بذلك فضاء لفظي بامتياز(3).
والاهتمام بالمكان في الرواية، هو اهتمام بالجانب الحكائي في المكان، ومدى مساهمته في تحقق المظهر التخييلي في العالم الروائي. فبالإضافة إلى كون المكان في الرواية يحتفظ بملامح المكان الذي تجري فيه المغامرة المحكية، فان الاهتمام بدلالاته الروائية ينصب أساسا على مساهمته الفاعلة في تلك المغامرة نفسها، كعنصر سردي فاعل(4). ومن هنا اكتسب المكان أهميته في قيام أي سرد روائي، فلا حدث بدون مكان وزمان، ومن تم لا سرد بدون مكان، ففي غياب الحدث الروائي المصحوب بجميع إحداثياته الزمانية والمكانية، يستحيل على السرد ان يؤدي رسالته الحكائية. فكل قصة تقتضي الإعلام عن انتمائها إلى أصل زمكاني (5).
وباعتبار المكان في الرواية هو البؤرة الضرورية التي تدعم الحكي وتنهض به في كل عمل تخييلي، فإلى أي حد يمثل المكان في روايات إميل حبيبي هذه البؤرة، وكيف يدعم الحكي فيها وينهض به كعمل تخييلي؟؟؟
*التمظهر الحكائي للمكان في روايات إميل حبيبي:
يأتي المكان في كتابات إميل حبيبي ليبني الخلفية المادية التي يتجسد أو يتحقق فيها الحدث المركزي: ضياع فلسطين، والذي يتردد ويتكرر بصيغ متعددة في النصوص الثلاثة، ويتلون بالطبيعة الإشكالية التي تعيشها الشخصيات من: “فجلة حتى يعاد وإخطية”، وإذ يشكل المكان بؤرة الحكي، فإن هذا الحكي تقوم به شخصيات تخترق ذلك المكان، وتفعل فيه من موقع انتمائها السلبي أو الايجابي إلى القضية الفلسطينية، وينبني هذا الحكي في تجلياته المتمظهرة نصيا على بعد زمني يتوزع بين: زمن الماضي، تستدعيه الذاكرة وتقوم بترميمه، وزمان حاضر، يعاني من التصدع، فيحتمي، هاربا، بالزمن الأول (زمن الذاكرة). وبهذا تقوم شبكة العلاقات، المولدة للحكي، في النصوص المدروسة، على تقديم الحكي من وجهة نظر (ذاتية وموضوعية، من خارج الأحداث ومن داخلها) لا تستقر الا لتعلن تيهها وتصدعها المتولد عن الارتجاج الدرامي الذي تعيشه ذاكرة الساهرين على الحكي (الراوي والشخصيات) ومأساوية الواقع القائم الذي تؤشر علامات المكان على انسلاخه عن وجه الماضي السعيد، فيأتي المكان متمظهرا في شكلين:
+الأول: بسيط ومباشر (بحمولة خغرافية فيزيقية) حين يقدم نفسه عبر اللغة، كأسماء للمدن والقرى والشوارع والوديان والطرقات والمساجد.
+الثاني: مركب، يحمل دلالات تاريخية ورمزية، وهو يتخذ هذا البعد عبر ارتباطه في إطار الحكي بالمكونات البنيوية الأخرى في النص.
والمكان الذي تستدعيه الذاكرة، يأتي ليرسم القطب الثاني في إطار ثنائية ضدية مع المكان القائم، فمكان الذاكرة يمتلك أهله حريتهم وتستدعيه الذاكرة ليشهد على المسخ الذي يمارس على الباقين في ظل الاحتلال، وعلى صورته الماضية الجميلة المعرضة للتشويه. لذلك تتجاور الأسماء العربية إلى جانب أسماء التهويد التي تشيد جغرافية الطمس الجديدة، فينشد نسيج اللغة بين قطبين متناقضين: المكان العربي الدارس، والمكان الخاضع للتهويد، ويتسرب الحكي ليؤرخ للقضية، فيترنح حين يسعى إلى ترميم ذاكرة أقصاها الزمن بعيدا حتى لم يعد ينفع فيها الترميم.
وينكشف المكان في الروايات الثلاث من خلال تيمات: الرحلة، الذاكرة، والبعد الإيديولوجي.
*الحركة الأولى: الرحلة وانكشاف هوية الأمكنة
يعيد إميل حبيبي في (إخطية) كتابة ما قد كتبه، ولكن بشكل مختلف، ويعلن من جديد، ان تجربته الكتابية الإبداعية الفردية لصيقة بلا انفكاك بالتجربة الجمعية الفلسطينية (6). وبهذا يتأكد أن البنية الذهنية المتحكمة في الروايات الثلاث واحدة، وان تعدد تحققها من رواية إلى اخرى. لذلك فالخيط الرابط بين التجارب الثلاث المتحققة يعلن عن نفسه في كل لحظة نعيشها مع كلمات: (السداسية) و(المتشائل) و(إخطية)، هو الهم المتكأ على انتمائه إلى قضية الأرض والوطن الضائعين. ننتقل بين النصوص الثلاثة فلا نحس بغربة ولا تبدل كبير (اللهم على مستوى التجربة الفنية في الكتابة) فنصادف:
لازمة زمن النزوح، وزمن الهزيمة، وزمن العرب، النزوح وحلم العودة، العودة وحرقة الصدمة، هي تجربة تاريخية واحدة، تحققت بثلاثة طرق، فحكت رحلة الشتات وحلم العودة القائم دوما. ولأن القضية الفلسطينية قضية وطن مسلوب وارض معرضة للاستيطان، فان المكان يشكل بؤرة التفكير فيها، وبؤرة الكتابة عنها. وفي الكتابة الروائية، والفلسطينية بالضبط، يبدأ الوطن من البيت: “فالبيت بداية الوطن “كما يقول غسان كنفاني.
1/ سداسية الأيام الستة:
من خلال حركة الشخصيات في المكان، تتشكل علامات الرحلة التي تمثل تيمة بنيت حولها العديد من النصوص القصصية (الحكائية) ابتداء من الأوديسة أقدم الملاحم إلى أحدث الروايات (، ) (7). وبهذه الحركة يطرأ التحول في الشخصية. ولكن للرحلة الفلسطينية طبيعتها الخاصة، فهي ارتبطت بتاريخ، أصبح يؤرخ به للحياة الفلسطينية (1948)، سنة النزوح والشتات اللذان فرضا على جزء كبير من الشعب الفلسطيني.
ففعل (ينسحبون) وعملية الانسحاب التي ترد في بداية السداسية، يؤشران على التقسيم (1948 مؤشر زمني يحيل على ضياع المكان) وعلى الاحتلال، لأن فعل: “انسحب/ الانسحاب” يتم بعد فعل “احتل/ الاحتلال”. والانسحاب كما الاحتلال فعلان يقومان في المكان وعليه، والمكان هنا هو الوطن الفلسطيني الذي وقع احتلاله وتقسيمه، هذا التقسيم فرق الأهل (فجلة وعائلته وعائلة عمه)، ثم جمع الشمل فوق نفس المكان لكن تحت الاحتلال، المفارقة التي يخلقها وجود المكان على هذه الوضعية هي: لم الشمل كصفة ايجابية متولدة عن فعل سلبي هو الاحتلال، لدرجة تجعل فجلة يرى – عبر سؤاله الاستفهامي: هل حين ينسحبون سأعود كما كنت بدون ابن عم؟ ص: 7- في الاحتلال ضامنا لاتصاله بعائلته في الضفة. وهذه العلاقة تقدم وتنكشف من خلال الرحلة/ الزيارة التي تقوم بها عائلة عم فجلة من الضفة الغربية إلى (اسرائيل) ابان فتح الجسر بين الجانبين بعد حرب يونيو 1967 (وهو ما نجده مؤطرا لعودة الفلسطيني في رواية عائد إلى حيفا لغسان كنفاني). لذلك ظلت الرحلة الفلسطينية تشكل بؤرة التفكير في القضية الفلسطينية. فالارتباط بالوطن كمكان حميمي، كبيت كبير، عوض بعد ضياعه بالارتباط بالرحلة، رحلة الشتات والتي تمثل الأس ومنها تتفرع باقي الرحلات: النزوح، العودة المؤقتة، حلم العودة (رحلة وهمية)، وحركة الشخوص في كل الأحوال تكشف عن فظاعة ما يعيشه الشعب الفلسطيني من تدمير يهدد هويته التاريخية. ففي لوحة “وأخيرا نور اللوز” يحكي الأستاذ (م) رحلته بعد فتح الجسور، وأكثر ما يسيطر على تفكيره وحواسه هي معالم المكان: (عشرون عاما وأنا أحلم بهذه المنعطفات اللولبية) (ص: 15). وحرقة الفراق الذي طال حتى كاد يطمس كل معالم الذاكرة (نفس الإحساس عاشه العائد إلى حيفا).
2/ الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل:
تحضر الرحلة بشكل أكبر، لنجدها تتموقع داخل حركية النص في كل لحظة رغم كثافة اللغة عند إميل، وكثرة استطراداته وتعريجاته الساخرة على التراث، حتى ليصعب القبض على صور الرحلة المعهودة، ولكنها مع ذلك تظل حاضرة في حلتها الجديدة. يصرخ سعيد: (ها أنا أعود إلى أرض الوطن متسللا، ص 35). ليعري بعد ذلك فيما يأتي من صفحات ظروف تهجير “المتسللين” إلى وطنهم، وتكديسهم في “جامع الجزار” والقذف بهم “كالأشباح” إلى ما وراء الخطوط. فينفجر بذلك سؤال رحلة العودة المستسلمة، التي تصادر خلالها الهوية والكرامة وكل المشاعر، ويأتي الفصل العاشر من الكتاب الثاني (ص 35) مشحونا بالعبارات التي تختزل كل مأساة الشعب الفلسطيني ومأساة المكان المصادر. ورحلة الفلسطيني هي رحلة السقوط الذي بدا بالمكان وانتهى بالمكان، انها رحلة سقوط وانهيار الأمكنة والبشر (تذكرنا بمأساة الأندلس). وإن كانت رحلة النزوح جماعية، فرحلات العودة المتقطعة جاءت انفرادية (قالت أخت يعاد ان يعاد جاءت اليوم من الناصرة مشيا على الأقدام عبر شفا عمرو فأبطن/ ص 59). وظلت مرفوضة ومصادرة من طرف المستوطن الصهيوني. فأصبحت رحلة تسلل داخل الوطن المصادر (كانت يعاد جاءت من الناصرة إلى حيفا دون إذن من السلطة/ ص 61). وظل مصير كل متسلل هو الطرد نحو الشرق (نحو الأراضي المحتلة بعد 1967 والأردن).
ويأتي في الفصل التاسع من الكتاب الثاني الحديث عن رحلة العودة التي عاشتها شخصية “الثريا “، فبعد ثلاثة وعشرين سنة تعود إلى بيتها مؤكدة قوة ارتباط المواطن الفلسطيني بأرضه/ بيته أي مكانه الحميم، ومعبرة عن ذلك بالدليل المادي ودقة التفاصيل الحميمة، لتعلن في وجه المستعمر انها كانت هنا في هذا المكان، لكن عودتها كانت عودة مزيفة رغم تأكيدها لامتلاكها للبيت: كشفها لمكان الكنز والمفاتيح، وبذلك يتضح ان العودة الحقيقية (لا السياحية) يجب ان تتكلم لغة السلاح الذي دفعهم إلى النزوح.
وأما رحلة سعيد إلى السجن، فهي رحلة في المكان والعذاب، حيث يكتشف، وهو الذي أسدى الخدمات للدولة العبرية؟؟ إن هذا المكان الكبير/ الدولة العبرية هو مجرد سجن كبير له داخل وله خارج متساويان في الدلالة، فالمعاملة واحدة في كلي الحالتين، إلى درجة دفعت سعيد إلى التساؤل: (فبأي شيء تعاقبون العرب المذنبين يا سيدي؟ وهذا شيء يحيرهم (ص 122). فان كان الخارج ملاصقا للحرية في حالة مقابلته بالداخل/ السجن، فانه في معادلة ال صهيون يتماثل مع هذا الداخل/ السجن ويسقط بعد الحرية، ليتحول المكان إلى فضاء معاد، لان للمستوطن منطق وحيد هو التدمير (نهدم بيوتهم خارج السجن أما في داخله فيعمرون وينشؤون سجونا جديدة وزنازين جديدة في السجون القديمة/ ص 123).
3/ إخطية:
هي رحلة الذات التي تحكي عبر الذاكرة حكايات المكان الذي باشر النزوح بدوره منذ أن فارقه صاحبه (صاحبته)، فاتخذ نزوحه رحلة تزييف الأسماء وطمس الذاكرة العربية. فأصبح الإنسان العربي، المقيم أو الزائر، يعيش زمنا محاصرا، في شرط احتلال الأرض والتاريخ. هذا الفلسطيني الذي كان في مدينة هي مرآة له فانكسرت فأخذ يذكر شكل وجهه الأول (8). أصبح يعيش في مكان ضاع، لم يعد ملكا له، وانتقل إلى عدو أصبح يفرض قانونه عليه، فيحدد له زمن النوم واليقظة (9). لذلك فالرحلة في إخطية لها امتداد الذاكرة، ولم تتحقق بشكل ملموس الا في عودة ابي العباس (اول فصل من الدفتر الثاني)، حيث يتم تقديم عودة عبد الكريم كحركة نحو المكان/ الوطن بعد طول غياب: (منذ أن وطئت قدماه ارض مطار اللد (بن غوريون) وهو يشعر بأنه غريب الديار، ولكنه يحس الآن إحساس المتسلل بالخوف من أن يضبطوه في كل لحظة متلبسا بحقيقة مشاعره/ ص 55). وخلال تقديم العودة يتم الكشف عبر وجهة نظر الراوي عن حرقة الشوق إلى الوطن، وحرقة التعلق بالأرض التي يعانيها عبد الكريم جراء عواطفه المصادرة (وهم بان يقبل ارض المطار، ولكنه أحجم، مخافة ان ينتبه رجال الشرطة والمخابرات / ص 56). وعودته هذه لم تكن رحلة مباشرة نحو مكانه المقصود، بل كانت ملتوية، لتعبر بذلك عن تمزقه، فمن تل ابيب (امعانا في التمويه على العدو/ ص 56)، إلى القدس، وأخيرا إلى حيفا عبر نابلس، فكان مثل الطائر الذي يحوم بالقرب من عشه قبل ان يهبط/ ص 56)، كأنه طائر يحوم حول عش سكنت قربه أفعى في غيابه؟
هكذا شكلت الرحلة حركة سردية انتظمت حولها الأحداث وحركات الشخصيات وسيرورة الزمن، فبدأت الرحلة في الروايات الثلاث من نقطة زمنية، هي سنة قيام كيان الدولة الصهيونية، سنة النزوح والتهجير الجماعي (1948 النكبة)، وامتدت رتيبة في اتجاه واحد، هو اتجاه المنفى، الى ان حدثت حرب 1967، فأحيت امل العودة المظفرة؟ لكن الهزيمة (النكسة) مسحت آخر أثر للأمل. ثم تولدت العودة من الجانب الآخر/ العدو، ففتحت الجسور وعكست الرحلة وجهتها نحو الوطن المصادر منذ عشرين سنة. وعشرون سنة هذه لازمة زمنية تتكرر باستمرار في النصوص الثلاثة، وكذلك لازمتي النزوح والهزيمة. وبين هذه الرحلة المتصاعدة نحو المنفى، والأخرى المتوجهة صوب الوطن المحتل، حدثت عودات انفرادية كانت رحلات تسلل قوبلت بالمصادرة والطرد في كل لحظة.
* الحركة الثانية: الذاكرة واستدعاء المكان الضائع
يبدأ اميل بذاكرة تناهض النسيان، ولا يصد النسيان الا من احتفظ بالذاكرة (10). فيقدم لنا بذلك أزمنة متعددة ومتشابكة: زمن الشباب والشيخوخة وحرقة التذكر وزمن السياسة التي تعيش كبواتها، وزمان الفلسطيني المشدود إلى رحلة بين الوطن والمنفى تعلم خلالها لغة العدو مرغما، وتعلم لغة التسلل والغربة والتشتت بين: (داخل مصادر وخارج عنوانه الاضطهاد/ 11)، فأصبح الفلسطيني إنسانا مقهورا (يدافع، عن ذاكرة موزعة بين زمنين، زمن يقوم في مكان تولى (كذا) وابتعد وزمن تهرب منه الأمكنة/ 12).
1/ السداسية:
شكلت الذاكرة بؤرة الحكي عن المكان ولحمة شظايا الوطن الضائع. يقول الأستاذ (م): “هذه الطلعة لم تغب عن ذاكرتي يوما واحدا. إني أتذكر كل منعطف فيها. هي أربع فعدوها. وهذه الجبال المشرئبة تحرس السهل الأخضر، هي عشرة فعدوها، هذا المكان مكاني/ ص 15”. إن قوله هذا يعبر بشكل قوي وواضح عن موقع المكان/ الوطن من كينونة الإنسان الفلسطيني. فبعد عشرين عاما، لم يستطع البعاد أن يمحو آثار المكان وملامحه الدقيقة التي ظلت عالقة بالذاكرة، بألوانها ورائحتها وأشكالها وعددها (تكرار لفظة فعدوها، والتأكيد على أن هذا المكان مكاني). لكن اللقاء بالمكان، بعد فراق دام عشرين سنة تتولد عنه صدمة عنيفة، فينكشف المكان الضائع الفاجع بعد أن يوحده الاحتلال (سيطرة الصهاينة على كل الأراضي الفلسطينية بعد حرب 67). وتتفجر أسئلة الهوية لتكشف عن الواقع المرير: (وسرعان ما أسقطوني من شواهد منعطفاتي إلى واقعي في الحضيض/ ص 16). واذ يلعب المكان، في عودة الأستاذ (م)، دور الحافز في تذكر تفاصيل الحياة الماضية، يجعلنا نطل على الذاكرة المأزومة والهوية المأزومة، والشخصية المأزومة التي لم تستطع التعرف حتى على تاريخها الشخصي، فبالرغم من الارتباط بالمكان في تفاصيله، ظلت الذاكرة عاجزة عن أن تنهض الإنسان، وأن تصبح علما بقراءة التاريخ، فأصبحت بذلك مأثما (13). وتحول مأزقها إلى مأزق هوية، وضبابية الوعي بالمكان تشي بضبابية الهوية وضعف الارتباط بالمكان كبعد تاريخي (فتغترب الذات وهي تنظر إلى يد أخرى تعبث بماضيها وثقافتها (14).
إن طغيان العاطفية على الوعي بالقضية وراء مأساة الاغتراب التي يعيشها الفلسطيني في علاقته بالمكان/ الوطن.
2/ المتشائل:
تعيش الذاكرة رحلتها وتحكي حكايات الأمكنة: مكان الحب الأول (إن عكا هي مدرستي الثانوية ويعاد هي حبي الأول/ ص 27). وعكا المكان المرتبط بالذاكرة التاريخية (الشاطبي/ ص 28). وحكاية المكان الذي تحول إلى هوية (الحيفاوي، العكية…) في ظل التشويه الذي يزحف على وجه معالم الهوية الفلسطينية العربية للاماكن ويسعى إلى طمسها. ثم تعرض الذاكرة حكايات الأمكنة المصادرة والتي مسحت من على الخريطة (ص 30) وظل أهلها شظايا متفرقة في أمكنة غريبة. ظلت تلك الأمكنة موشومة في الذاكرة فقط لأن جغرافيا الذاكرة تقاوم النسيان، وتصارع جغرافيا التشويه والطمس. وتكشف حكاية “جامع الجزار ” مأساة الضياع التي تعيشها الذات الفلسطينية في مكانها/ وطنها ومن أجله. يتحول الفلسطيني المتسلل الى: شبح/ أشباح، وتقديم المتسللين على إنهم أشباح في عتمة ظلام الجامع يخدم الصورة التي يسعى الكاتب إلى رسمها، فهم أناس بلا ملامح، وبلا هوية واضحة، فقط يحاولون تحديد هوياتهم بشكل متشظٍّ ومنشطر، بانتسابهم إلى أماكن (قرى أو مدن) وهي أماكن مسحتها الجغرافية الصهيونية من على الخريطة، فتعلقهم بهويتهم الممسوخة، التي هي الذاكرة، يوصلهم إلى أفق مسدود، فيستسلمون إلى ظلمتهم ويعودون إلى “زواياهم”/ ص 31، في انتظار الترحيل في الفجر الكاذب. ولأن ذاكرة الوطن عرفت كثيرا من المستعمرين، فان الأمكنة ظلت شاهدة على ذلك (خذ لك عكا هذه مثلا، فحين افتتحها الصليبيون، ذبحوا أهلها ونهبوا أموالهم/ ص 32). لذلك فإن الصهاينة (ليسوا أسوا من غيرهم في التاريخ/ ص 32). إنها ذاكرة المعاناة وسخرية القدر بين الماضي والحاضر وكلاهما فظيع، هكذا تقدم لنا الذاكرة نفسها جاهدة في السيطرة على لحظات الزمن الهاربة، فتعيش بذلك انهدامها أيضا. يقول الراوي عن أيام الشتات ولجت بيوتا عربية مهجورة كثيرة في حيفا من أبوابها المكسورة، فوجدت أقداح القهوة مصبوبة لم يجد أهل البيت وقتا حتى يشربوها. وجمعت أثاث بيتي بعضه من هذا البيت وبعضه من ذلك البيت، / ص 49). إنه يقدم لنا بذلك ذاكرة المكان المنهوب بالجمع، ذاكرة الوطن المستباح في أعمق صوره الدراماتيكية وجزئياته المؤلمة: بيوت مهجورة، أبواب مكسورة، أقداح قهوة، وأهل مطرودون.
3/ إخطية:
تمثل إخطية ذاكرة للمكان بامتياز، إذ تحظى الأماكن العربية وأسماؤها، كواجهة للصراع ضد التهويد، بنصيب وافر في كل صفحات الرواية.
وتنبثق عملية الحكي من الحديث عن (الرامزور) وجلطة المواصلات، لتتصاعد كالهذيان، فتعم – عبر الذاكرة – كل الأزمنة والأمكنة لتستدعي الذاكرة التاريخي (ص 35) وتعرج على الحاضر شاهرة أسماء المكان التي تشهد على مجازر آل صهيون (مجازر دير ياسين وكفر قاسم ورفح وخان يونس وقبية / ص 48) لتعود إلى ساحة البرج/ ص 69 التي كانت شاهدة على مجازر الصليبيين. وتركب رحلة الذاكرة في إخطية سلسلة أفعال ناقصة: كان/ كانت/ كنا/ ص: 69-70-71 لتحكي لنا ملامح مكان زمان، مكان الطفولة بتفاصيله التي أصبحت ألوانا في لوحة الضياع، ضياع الوطن. مارست الذاكرة النبش في الماضي/ الطفولة لتجميع شتات المكان، وحاولت بكل طاقة المخيلة التي يركبها الروائي القبض على الزمان واللحظات السعيدة الثابتة لترسم ملامح الوطن البعيد/ القريب. وتكشف بذلك عن رحابة وحرية وحميمية وأمن مكان زمان المفتقد. إنها ذاكرة طفولية تخلقت في حميمية المكان الذي كان مهدها الأول فجاءت متخمة ومشحونة به. هكذا، بتحطم استمرارية الزمن الفلسطيني، في ظل الاستيطان الصهيوني، تحاول الذاكرة الفلسطينية ترميم ما تحطم بالتقاط حكايات المكان والشخصيات من خلال توالد الحكي.
*البعد الإيديولوجي: المكان والانتماء إلى القضية.
هكذا بعد أن قاربنا دلالات المكان في ثلاثية: السداسية، المتشائل وإخطية، من خلال مقولتي الرحلة والذاكرة. وصلنا إلى مستوى آخر سنسعى فيه إلى القبض على البعد الإيديولوجي للمكان وعلاقاته بالمكونات الأخرى للنصوص المدروسة، على ضوء ما توصلنا إليه فيما سبق.
أكدنا منذ البداية ان المكان في الكتابة الفلسطينية، ومنها كتابة إميل حبيبي، يتخذ بعدا خاصا به، تفرضه طبيعة القضية الفلسطينية، كقضية شعب يعيش تحت احتلال استيطاني بشع لعدة عقود، ومن تم فهو شعب يعيش الشتات والنزوح، منذ أن فارق كل مواطن بيته في ليلة من ليالي سنة 1948، وتأتي كتابة إميل لتحكي قضية الوطن الضائع. ولأن الذاكرة لا تتحرك إلا بالاستناد إلى المكان المجسد (15) فإن المكان أصبح يؤسس الحكي، لأنه هو بؤرة الحياة الفلسطينية وتاريخها.
من هنا لم يعد المكان في روايات إميل عبدا للوصف كـ”أسلوب إنشائي يتناول ذكر الأشياء في مظهرها الحسي ويقدمها للعين” (16)، أو عرضا للأشياء والأشخاص متميزا بتمثيلها في حدود كينونتها الفضائية خارج أي حدث وأي بعد زمني (17)، وإنما المكان عند كاتبنا ارتبط بوصف يلتحم بالسرد إلى درجة يصعب معها تحديد ورصد المكان، لأن كتابته تختلف عن الكتابة التقليدية (الواقعية خاصة) التي يأتي فيها الوصف مستقلا في مقاطع سهلة التحديد. لذلك فوصفه تعبيري، على عكس الوصف التصنيفي الذي تنتمي له الواقعية (17 مكرر).
فالمكان المقدم والموصوف في كتابات إميل حبيبي هو مكان له ملامح الأمكنة:
“- إني أتذكر كل منعطف فيها هي أربعة فعدوها وهذه الجبال المشرئبة تحرس السهل الأخضر. هي عشرة فعدوها. وهذا الهواء النقي الأريج، هذا المكان مكاني (السداسية/ ص 13). وفي المتشائل (ص 115) يرد: “رأيتني جالسا على أرض صقاح باردة مستديرة، وكانت الريح صرصرا والأرض قرقرا”. كما ورد في إخطية (ص 70):
“حيفا بنت الكرمل، وادي النسناس، المنخفض من وديان الكرمل، وشاطئ البحر هو ساحل الكرمل “.
ولكن المكان لا يقف عند هذا الحد، بل يتخذ بعد الوطن الذي تحول بفعل النضال من أرض (جغرافيا/ هندسة) إلى قضية. لذلك جاء المكان حميما مع كل مكونات الحكي الأخرى، فالشخصيات من: فجلة حتى عبدالكريم مرورا بأم الربابيكا وسعيد ويعاد وولاء وإخطية، كلها كانت تحمل قضية الوطن، إما سلبا أو إيجابا. وهكذا فالعلاقة القائمة بين الشخوص والمكان ظلت تقوم، في أحد أبعادها، على مستويين:
– سلبي: حين ترتبط بالحاضر حيث تعيش الشخصيات في مكان مسلوب محتل.
– إيجابي: حين ترتبط بالماضي الذي كانت الشخصيات تعيش فيه حرة، وكانت تمتلك إرادة حياتها اليومية.
ويبدو الأثر الإيديولوجي في النصوص الثلاثة من خلال الصراع الذي تقيمه آلة الحكي بين شكلين من الأمكنة:
+ شكل وطني، يحمل ملامح للثقافة والتاريخ العربيين.
+ شكل دخيل مستحدث يحمل ملامح الصهيونية وسياستها التهويدية.
وبينهما تقوم جدلية الهدم والانبناء، بل النفي والتدمير المقابلان بالصمود ولو عبر العواطف والذاكرة. وفي الوقت الذي يتمكن هذا الأخير من إقصاء الأول إلى عالم العدم، تقوم علاقة الاغتراب والعداء (18)، بين الداخل، الذي كان وجودا للفلسطيني وأصبح وجودا معاديا له، والخارج الذي جعل من وجود الفلسطيني عدما خارج مكانه الحميم/ الوطن (المنفى/ النزوح/ الشتات). فيتحول الصراع إلى صراع وجود.
وترسم اللغة ملامح هذا الصراع (حيفا الفوقي/ طريق الهدار- جسر شل- جسر باز…) لتؤكد عدوانية المكان الصهيوني (فشارع هجيبوريم يعني الأبطال الذين طردوا عرب وادي روشيما من بيوتهم وأكواخهم/ إخطية، ص 23). وقد (حولوا ساحة الخمرة إلى ساحة باريس/ ص 25- إخطية). كما أنهم حولوا اسم شارع الجبل باسم الأمم المتحدة. فلما أمسكت بهم شتموا أباها قائلين نسميه شارع الصهيونية/ ص 25-إخطية).
وقد اتخذ الصراع بعدا أخر حين تحول المكان بوجود الاستيطان إلى مكان معاد: أعلن (ولاء) كجيل لم يتحمل العيش في مكان مسلوب، خانق، مخيف، أعلن عصيانه بتفجير سؤال الهوية المرير: أين مكاني تحت الشمس؟ (المتشائل/ ص 108)، وانتمى إلى مكان آخر: ضيق جغرافيا وهندسيا هو الكهف، لكنه اتخذ بعد الرحابة والحرية، لأنه وقف صامدا في وجه حياتهم الاستسلامية التي “لا تطاق” (المتشائل/ ص 109)، والتي فرضها عليهم سجنهم الكبير تحت شمس الدولة الصهيونية.
يتحول القبو/ الكهف إلى مكان حميمي كموقع بديل للمقاومة، ويتحول الخارج/ المفتوح (تحت الشمس) إلى مكان معاد وغريب (الإحساس المرير بالاغتراب). القبو يصبح شخصيا ومذوتا (الأنا/ عندي) والخارج يصبح غريبا وخطيرا/ غابة (الأخر/ عنده). و”عندي” هو المكان الذي أمارس فيه سلطتي/ حريتي، ويكون بالنسبة لي مكانا حميما وأليفا. أما “عند الآخرين” فهو مكان يشبه الأول من نواح كثيرة ولكنه يختلف عنه من حيث أنني – بالضرورة – أخضع فيه لوطأة سلطة الغير، من حيث أنني لا بد أن أعترف بهذه السلطة (19).
* ترسيمة: مقاربة المكان في المتشائل من خلال مفهومي: الحد والتقاطب،
أولا/ قصة الجامع المعتقل: (ص: 29/ 30/ 31):
جامع الجزار/ المكان:
أ/ الوظيفة الأصلية: العبادة (إنهم لا يدوسون حرمة دور العبادة، بل إن لهم في خارجها، متسعا لهذا الأمر/ ص 34).
ب/ الوظيفة الإضافية (الجديدة): الاعتقال/ الحجز (دلالة التحول؟).
*المسجد في دلالته الأصلية مكان امن ومغلق، يشبه البيت في ترسيمة لوتمان (فصاح معلمي: هنا ولدنا يا جماعة/ ص 29).
* الحد الفاصل بينهما: يمنع اختراقه.
* خارج المسجد: الشارع/ المدينة/ الوطن المصادر مكان غير آمن وخطير وممنوع (يشبه الغابة في ترسيمة لوتمان).
*الخلفية التاريخية لهذا التقسيم:
+ المكان/ الوطن/ فلسطين:
1/ بالنسبة للعرب: تعتبر بمثابة البيت عند لوتمان.
2/ بالنسبة لليهود (الصهاينة): تعتبر بمثابة الغابة حسب لوتمان.
*قسمت فلسطين حسب قرار عصبة الأمم رقم 181 إلى قسمين: واحد للعرب (46 في المائة)، وواحد لليهود (الصهاينة: 54 في المائة)، مما يضع حدا بينهما (حسب لوتمان).
* تعليق على الترسيمة: بعد حربي 1948 و1967 (خاصة) يحول الصهاينة الحد لصالحهم، اذ يخترقونه ويجعلون من المكان: غابة (اسرائيل الكبرى)، تحصل داخل هذه الغابة وقائع رهيبة: القهر/ التقتيل/ التهجير الذي يمارسه الصهيوني على الفلسطيني (العربي).
*ثانيا: قصة سجن شطة (ص: 122/ 123).
+ المكان/ الوطن المحتل (فلسطين):
أ/ الخارج = الدولة الصهيونية (السجن الكبير)= الاحتلال.
ب/ الداخل = سجن الدولة الصهيونية (السجن الصغير) = الاحتلال المضاعف.
*تعليق: نتيجة هذا التقابل تحويل الوطن المحتل إلى سجن كبير داخله كخارجه: (حتى رأيت باب السجن الحديدي بابا بين ساحتين في سجن واحد، ساحة داخلية أتمشى فيها ساعة، فأستريح، وساحة خارجية أتمشى فيها ساعة، ثم أروح) ص 131.
*ثالثا: قصة الضرير الصامت عشرين سنة (ص 143):
+الانتماء إلى المكان/ العودة يتولد عنه:
اختراق الحد/ الطوق مما يولد دراما في المكان: الصمت عشرين سنة (إنتاج لغة الصمت وحالة اجتماعية شاذة (انتساب أبنائه إلى أخيه).
*تعليق: هذا النوع من دلالة المكان سواء في جامع الجزار أو في السجن أو في قصة الضرير، يقدم لنا: شخصيات فلسطينية تعيش الصراع في شكله السلبي، حيث تمثل دور الضحية في الأحداث الدائرة (شخصيات تعيش حالة: الإبعاد والسجن والاختباء). في حين في حالة (ولاء) يأتي المكان لينتج دلالة ايجابية، تكشف عن دور فعال لشخصية ولاء كرمز للجيل المتمرد على خنوع الآباء ضد الاحتلال الصهيوني.
ينتمي (ولاء)، على عكس اسمه، للقبو، للمكان الضيق، ضد المكان الواسع “تحت شمس الصهيونية”، ليبني حريته وليعلن اختراقه للحد/ الطوق/ الخنوع المفروض على شعبه، ويعلن كفاحه المسلح. كانت الأم ومن قبل الأب سعيد (والدا ولاء) يمثلان أنموذجا للإنسان الفلسطيني القابل للعيش مع الأخر وفي مكان الأخر وتحت شمسه، اي الاعتراف بسلطته القائمة على المكان. أما ولاء – على عكس تسميته التي اختارها له الصهاينة (ص 95) كدليل على سلطتهم في المكان – فيمثل الإنسان الفلسطيني الذي يعتز بمكانه الشخصي الخاص (عندي) حتى ولو كان قبوا (لكنه أرحب من حياتك/ ص 107)، أو كهفا يتنفس فيه الحرية التي سلبه إياها الأخر/ عنده. ان هذا النوع من المكان الذي تقدمه لنا المتشائل، يعكس القيم، ويجعل من الواسع ضيقا ومن القبو فضاء ممتدا. وهو دليل على ان المكان في كتابة إميل حبيبي ينزع نحو ابعد من شكله الهندسي، ليحمل خلفية حكايات شخصيات ارتبطت به وتكلمته، ويحمل دلالاته السيميائية بارتباطه برموز وعلامات تشي بانتمائه إلى هوية قضية إنسانية سياسية تاريخية. لذلك: ” فالمكان هو الذي يفرض الشخصيات والحدث وليس العكس” (20). إن المكان الفلسطيني يستدعي شخصياته، من فلسطينيين وصهاينة، ويحكي كفاح الأولى ضد الثانية، ويتشكل الحدث من مأساة المقاومة القائمة ضد الاستيطان. من هنا جاء التورط الإيديولوجي في كتابة اميل لأنه: “لا يرى في الكلمة الا وسيلة لتصدير قول سياسي (21)”ويشغله بدرجة أولى ان يحسن: ” إشهار سلاح الأدب في معركة “شعبه العادلة (22). وأما ضعف البعد الهندسي الثابت، الذي يقدمه الوصف للإيهام بالواقعية، كنمط تمثيلي ارتبط بعرض الأشياء وتأملها، وطغى على المكان في الروايات الثلاث حركية السرد وزمنيته. جاء كل مكان مشحونا بدلالات تاريخية زمنية، ومرتبطا بشخصيات حركية عبر ذاكرتها ورحلتها بين أشكال وألوان المكان (الوطن) القديمة والقائمة، فاتخذ المكان بعدا إيديولوجيا صارخا لأنه قدم من خلال كتابة غير محايدة ولا بريئة، جعلت من نفسها صرخة في وجه الظلم التاريخي الذي سلط على الشعب الفلسطيني، وقدمت نفسها كشهادة على بربرية وهمجية أبشع استعمار استيطاني عرفه القرن العشرين.
4/ خلاصات عامة:
كانت مقاربة كتابة إميل حبيبي مغامرة، وكانت مغامرة مضاعفة مقاربتها انطلاقا من مبحث هو الفضاء الروائي، وضمنه المكان كتيمة أساسية.
لذلك شكلت كثافة لغة الكتابة (خاصة في المتشائل وإخطية)، والنزوع نحو تجريب مشاغب لكتابة جديدة، عوائق في استكناه دلالات المكان، لأنه كان حاضرا بقوة، لكنه حضور مثقل بالغياب، بحضوره المتميز والخاص. فهو مكان كالسراب، لان الحكي عند كاتبنا سراب أيضا، حكي بلا حكاية تقليدية، كلما حاولت القبض على معانيه انزلقت واضطرك إلى إعادة العملية. لذلك سعت المقاربة إلى القبض على دلالات المكان من استحداث ثلاث حركات، كل واحدة منها مثلت مستوى، تم الكشف من خلاله عن ملمح من ملامح المكان: فكان رحلة نزوحا وعودة، وبينهما تسلل أفقه السجن والتشريد، وكان ذاكرة مثخنة بالغربة والاغتراب: لغة المنفى والضياع، وكان انتماء منحازا واضحا لقضية شعب عانى من التهجير والنزوح والتزييف عدة عقود من الزمن، وكان شخصيات تتأرجح بين وعي واضح ورؤية ضبابية غامضة، شخصيات مزقها زمن الهزيمة والمنفى والتزييف، وكان أسماء ومعالم ثقافة تعيش حصار التهويد والمسخ الصهيوني،
لذلك لم يكن مكانا جغرافيا هندسيا (إلا لضرورة واقعية)، بقدر ما اتخذ بعد فضية تحررية، في تفاصيلها اليومية وكما عاشها ويعيشها المواطن العادي، بآمالها وإحباطاتها،
إنه مكان يخلق حكيه المأساوي والخاص والساخر ومن تم يتحكم في أية قراءة تقاربه ويفرض عليها ان تتبعه إلى حيث أقامت القضية الفلسطينية: خيامها، كلماتها، وبارودها،
*الهوامش:
1/ مشكل المكان الفني. يوري لوتمان. ترجمة سيزا قاسم. عيون المقالات. البيضاء. عدد 8/ 1987.ص 59.
2/ بناء الرواية. سيزا قاسم. دار التنوير. بيروت.1985. الطبعة 1. ص102.
3/ نفسه. ص 102.
4/ عيون المقالات. نفس المعطيات. ص 59.
5/ إخطية إميل حبيبي: أزمة الإبداع والبحث عن الجديد. فيصل دراج. مجلة الهدف. عدد 804.1986.ص 40.
6/ عن المكان في الوجدان الفلسطيني: المنفى والملكوت. زهير الجزائري. الفكر الديموقراطي. قبرص. عدد 2.ربيع 88.ص 154.
7/ دراسات لسانية. عدد 3. السنة الأولى. ربيع 1986.ص 16.
8/ فيصل دراج. الهدف. نفس المعطيات السابقة. ص 40.
9/ نفسه، ص 40.
10/ فيصل دراج. الفكر الديموقراطي. عدد 5. ص 137.
11/ نفسه. ص 138.
12.نفسه.ص 138.
13/ فيصل دراج. الهدف. نفس المعطيات السابقة. ص 42.
14/ فيصل دراج. الفكر الديموقراطي. عدد 5.ص 137.
15/ زهير الجزائري. الفكر الديموقراطي. عدد2.ص 158.
16/ سيزا قاسم. بناء الرواية. نفسه. ص 107.
17/ مقولات السرد الأدبي. تودوروف. ترجمة الحسين سحبان وفؤاد الصفا. آفاق. مجلة اتحاد كتاب المغرب. عدد مزدوج 8/ 9.1989.ص 61.
18/ جماليات المكان. غاستون باشلار. ترجمة غالب هلسا. مؤسسة الجامعية للدراسات والنشر. بيروت.1984.الطبعة 2.ص 191.
19/ بناء الرواية. نفسه. ص 109.
20/ نفسه.
21/ فيصل دراج. الفكر الديموقراطي. عدد 5.ص 132.
22/ حوار مع إميل حبيبي. البيان الثقافي. عدد 30.1988.ص 4.
*المصادر والمراجع:
ا/ المصادر: روايات إميل حبيبي.
1/ سداسية الأيام الستة. روايات الهلال. القاهرة. عدد 246/ 1969.
2/ الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد ابي النحس المتشائل. روايات الهلال. القاهرة. عدد 474/ 1988.
3/ إخطية. كتاب الكرمل الصادر عن اتحاد الكتاب والصحافيين الفلسطينيين.
ط 1.منشورات بيسان.قبرص.1985.
*المراجع:
أ/ الكتب:
1/ سيزا قاسم، بناء الرواية، ط 1، دار التنوير، بيروت/ 1985.
2/ غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1984.
3/ هنري ميتيران، الخطاب الروائي، بيف، 1980 (بالفرنسية).
ب/ المجلات:
1/ آفاق، اتحاد كتاب المغرب، عدد مزدوج: 8/ 9 -1989.
2/ دراسات أدبية ولسانية، عدد 3، السنة 1، ربيع 1986.
3/ عيون المقالات، عدد 8، 1987.
4/ الفكر الديموقراطي، إعداد: 2 و5، 1988/ 1989.
5/ الفكر العربي المعاصر، عدد: 76/ 77، 1990.
6/ الهدف، أسبوعية، عدد 804، السنة 17، 10-2-1986.
+ جريدة البيان الثقافي، عدد 30، 3-10-1988.
* المغرب.