مشية نعومي كامبل


*محمود شقير


خاص ( ثقافات )
رآها أبوها وهي تجتاز البوابة الكبيرة عائدة من الجامعة إلى البيت، جسدها محشور في بنطال أزرق، والهاتف النقّال على أذنها تتلقى مكالمة جاءتها للتوّ، كما يبدو، وشعرها الطويل الناعم يرفّ على جبينها وكتفيها. لم يعرف إلا بعد وقت قصير أن بنطالها خلق مشكلة في الحي، نهلة عرفت أن ثمة مشكلة وقعت من دون قصد مسبق، كم تكره هذا الحي! تكرهه لواحد وأربعين سبباً، (ليس لديها وقت لتوضيح هذه الأسباب) تذهب إلى الجامعة في الصباح، تجتاز ثلاثة حواجز عسكرية وأحياناً أربعة للوصول إليها، وبعد الظهر بقليل تغادرها عبر الطريق نفسها التي سلكتها في الصباح، تتكدّس على الحواجز نفسها مع أصناف عديدة من البشر، تدخل القدس بعد مكابدة مرهقة، وتتجه مباشرة إلى بيتها الواقع في إحدى ضواحي المدينة، تشعر أنها تدخل منطقة يتجاور فيها المعقول واللامعقول.
نعمان المهبول هو الذي بدأ المشكلة، ورباح الأزعر هو الذي كان السبب. حينما مرّت نهلة في الشارع المؤدي إلى بيتها، لفتت أنظار الشبان المتجمهرين على الرصيف. حدّقوا في جسدها بنهم، وزادتهم نهماً، ملابسُ نهلة التي تثير الانتباه، أو هذا على الأقل ما يشعر به الشبان: فساتين ناعمة مثيرة متنوّعة، بناطيل فضفاضة، وهذه المرة بنطال جينز أزرق تظهر فيه نهلة للمرّة الأولى كما يبدو، أو هذا على الأقل ما اعتقده حبيبها نعمان، نعمان يحب نهلة ويموت فيها، نهلة لا تحبه ولا تموت فيه، أو هذا ما يقوله له أصحابه، وهو لا يصدّقهم ولا يقتنع بكلامهم، يؤكد أن نهلة تحبه، وهي تكتم حبها ولن تفصح عنه إلا بعد الانتهاء من دراستها في الجامعة.
رباح الأزعر لم يستطع لجم ما في نفسه من انطباعات، وهو يرى نهلة، ابنة تاجر الأعلاف، تتخطّر في الشارع، تميل بردفيها العامرين ذات اليمين وذات الشمال، اعتقد أن تعليقاً سريعاً على المشهد الفتّان، سَيُدخل إلى رصيده عدداً من النقاط: يلفت انتباه نهلة إليه، ويجعلها تضعه في حساباتها وهي تفكر في الشباب، يُشعرها أنه ذو ثقافة لا بأس بها، و في الوقت نفسه يُدخل المسرّة إلى نفسها، لقناعته أن البنات يحببن الإطراء على جمالهن وعلى حُسن منظرهن. كذلك، فإنه يسجّل تفوّقاً على أقرانه الذين لا يستطيعون مجاراته في التغزل بالبنات، قال معلقاً على مشية نهلة بصوت اخترق أذنيها من دون استئذان: مشية نعومي كامبل ما شاء الله!
نهلة ابتعدت عن الشبان متقدّمة نحو البيت، لم تفه بأية كلمة. ظلت تمشي المشية نفسها، ولم يفز رباح الأزعر إلا بلكمة عنيفة سدّدها نعمان نحو أنفه، صرخ رباح مستفزاً مما وقع له، التفتت نهلة إلى الخلف لترى ما الذي حدث، واصلت سيرها، واشتبك رباح الأزعر مع نعمان المهبول في صراع ضارٍ، لم يقتصر أثره عليهما وحدهما، التمّ أهل نعمان وأقاربه لنجدته، وكذلك فعل أهل رباح الأزعر وأقاربه. وقع شجار كبير في الحي، سببه بنطال نهلة، التي تستعرض نفسها أمام شبان الحي، وتمشي متمايلة مثل نعومي كامبل، أو هذا ما تفتّقت عنه قريحة رباح الأزعر بهذا الشكل الذي فاجأ نعمان.
وصل الخبر إلى أبيها الذي أدرك أنه أمام مشكلة مثلثة الأضلاع. وجد أن السكوت على الأمر سيلحق به عاراً حتى الممات، ومن قال إنه مستعدّ للسكوت على خبر كهذا؟ فكّر أن يمتطي سيارته المارسيدس، يخرج بها إلى الشارع، يدوس كل من يجده في طريقه من عائلة الأزعر، لأنه من غير المقبول أن يجري تشبيه ابنته بامرأة يبدو من سياق الكلام أنها محاطة بالشبهات، أو يبدو أنها تمشي في طرق بطّالة يندى لها الجبين، وهو لا يقبل أن يُمسَّ شرف ابنته بأي حال. 
استبعد تاجر الأعلاف فكرة الخروج للقتال في سيارة المارسيدس، لأنها سيارة جديدة اشتراها قبل أشهر، وقد يتمكّن أبناء عائلة الأزعر من التزويغ من أمام السيارة، فلا يتمكن التاجر من الدوس عليهم، ومن ثم، سينهالون على السيارة الفاخرة بالحجارة، ستصبح هدفاً سهلاً لحجارتهم، ويخرج التاجر خاسراً من هذه الجولة غير المدروسة، وغير المخطّط لها على نحو صحيح.
نظر التاجر إلى سيف جدّه المركون على الحائط، السيف مستقر في موقعه في سكون ودعة، بعد أن استحال إلى قطعة ديكور، لا يتقلده أحد ولا يجرؤ أحد على الخروج به إلى الأماكن العامة، لأن ذلك سيؤدي إلى مصادرة السيف وإلى وضع حامله في الحبس. أنزل السيف عن الحائط غير عابئ بما قد يقع، أزال عنه الغبار المتراكم عليه بفعل الزمن، اتجه إلى الحظيرة التي يربط فيها الفرس، الفرس التي اشتراها من بدوي عضّه الجوع بنابه، وراح يركبها في أيام العطل والأعياد للمباهاة، ولتذكير أهل الحي بأنه سليل أسرة عريقة. تقلّد سيفه وركب الفرس وصاح منادياً أبناء العائلة: وين راحَ النشامى؟ جاءته الصيحات من كل جانب: لعينيك، أبشرْ.
خرج التاجر إلى القتال ومعه أربعون شخصاً من أبناء العائلة، مسلحين بالعصي وسلاسل الحديد، وكان في عدادهم الطبيب الشاب الذي أنهى علومه في إحدى الجامعات التركية. تجمّعوا في الساحة العامة، وبدوا مثل جيش في مسلسل تلفزيوني عربي فقير الإنتاج. لم يجد التاجر أحداً من عائلة الأزعر في الشارع أو حول البيوت، شعر بارتياح لم يفصح عنه لأحد، قال لأبناء عائلته: يبدو أن أحداً نقل لهم خبراً عن تقدّمنا نحوهم. جرّد السيف من غمده، لوّح به في الفضاء معلناً بدء الغزو، نكز بطن الفرس، فانطلقت مسرعة، ظل أبناء العائلة ثابتين في مواقعهم لأنهم لم يروا أحداً يتشاجرون معه. لم يشأ أبناء عائلة الأزعر اعتراض التاجر وهو يقترب من بيوتهم، لحكمة ما. تركوه يصول ويجول في الشارع وحده، مع أنه كان بوسعهم وهم كامنون فوق أسطحة بيوتهم أن يدموا رأسه بالحجارة، لكنهم لم يفعلوا. التاجر وهو يكرّ على مقربة من بيوتهم المرة تلو الأخرى، متظاهراً بأنه يتحدّاهم بجرأة واقتدار، اعتبر أن غزوته حقّقت المراد منها، فلم يشأ أن يتمادى فيها، وجد أن من الأنسب له ولأبناء عائلته أن ينسحبوا بهدوء، إلا أن سيارة جيب عسكرية فاجأته قبل أن يعلن خطّته على أبناء العائلة. أبناء العائلة بدوا كأنهم قرأوا الخطة قبل أن يعلنها عليهم، فانسحبوا كما لو أن شيئاً لم يكن. 
التاجر لم يتمكّن من الانسحاب، لأن جيب العسكر اقترب منه وسدّ عليه الطريق. التاجر لم يتمكن من إعادة السيف إلى غمده المستقرّ على جانبه الأيسر تحت عباءته، مثل هذا الأمر يتطلب منه أن يرفع يده التي تقبض على السيف، إلى أعلى، مديراً رأس السيف إلى أسفل لكي يأخذ طريقه إلى داخل الغمد، آنذاك يكون الجنود قد هبطوا من الجيب ورأوا السيف، سارع التاجر إلى إخفائه تحت ساقه التي تضغط على بطن الفرس، مسدلاً عباءته بإحكام فوق جسمه. قال الجندي:
_ هل وقع شجار هنا؟
_ لا، لم يقع شجار.
_ هل يوجد سلاح هنا؟ 
_ لا، لا يوجد سلاح.
_ أنت، هل معك مسدس؟ 
_ لا، ما معي مسدس.
الفرس، في هذه الأثناء، لم يرقْها أن تثبت في موقعها بلا حراك، راحت تحرّك رقبتها في شموخ وترقّص في الوقت نفسه قوائمها المحجّلة، ومع كل رقصة من رقصاتها يصطدم السيف بساق التاجر ويدميها في غير موقع، والتاجر محتملٌ الألم منتظرٌ أن ينصرف من أمامه جيب العسكر. دار الجندي حول الفرس دورة كاملة، تأمل الفرس والفارس، ثم استدار، صفق باب الجيب وراءه، وعاد التاجر إلى البيت وساقه تقطر دماً.
أبناء العائلة، وفي طليعتهم الطبيب الشاب الذي أنهى علومه في إحدى الجامعات التركية، أسعفوا تاجر الأعلاف وهو متذمّر مملوء بالاستياء، ضمّدوا ساقه بلفافة من قماش أبيض، وجلسوا حوله في المضافة يخفّفون من وطأة استيائه. حاول استرجاع المشهد من بداياته لعله يعثر على ما يطمئنه:
_ شو اسمها؟ نعومي!
ردّ الطبيب الشاب:
_ أيوه، نعومي كامبل.
_ وشو بتطلع هذي من غير شر؟ 
_ عارضة أزياء مشهورة، أنا بشوفها ع التلفزيون.
_ يعني ممشاها عاطل؟
_ الله أعلم، بس أنا ما سمعت عنها أي إشي عاطل.
_ ومن وين هي من غير شر؟
_ من بلاد الانجليز.
الأخ غير الشقيق لتاجر الأعلاف، عبد الباسط الذي يدّعي معرفته بأنساب المدينة وأحيائها المختلفة، لم يعجبه الكلام. وجد فيه تحدّياً لعلمه ومعارفه. قال للطبيب الشاب:
_ انت متوهّم، لا هي من بلاد الانجليز ولا من بلاد الطليان.
سكت الطبيب لائماً نفسه لأنه شارك في الكلام. قال التاجر:
_ والا من وين هي يا عبد الباسط؟
ردّ عبد الباسط على أخيه غير الشقيق: 
_ بتذكر يا عبد الله الشاب اليافاوي، اللي كان يشتغل في فرن محمد الخليلي في طريق الواد؟
_ بذكره، اسمه كامل.
_ صدقت، كامل عبد الحي. وكان عنده بنت سمرا صغيرة اسمها نعمة.
_ يعني بدك تقول لي إنها نعومي هي بنت أجير الفران؟ 
_ أيوه، واسمها نعمة كامل عبد الحي.
_ نعومي كامبل، بنت أجير الفران؟
_ أيوه، أبوها أخذها هي وأمها وأخوتها وهاجروا إلى الخارج.
ثار لغط حول هذه المفاجأة التي طلع بها عبد الباسط، الطبيب الشاب المدمن على مشاهدة التلفاز لم يحتمل السكوت على هذا الكلام المغلوط، حاول اصطياد فرصة مواتية للكلام، فلم يظفر بالفرصة المنشودة، ولام نفسه لأنه شارك في مشاجرة بائسة لا تسرّ الصديق ولا تغيظ العدا، لكنه في اللحظة التالية خفّف من لومه لنفسه، وأدرك أنه مضطر لمجاراة أبناء العائلة خوفاً من اتهامه بأنه جبان. تذمّر عبد الله من تشابك الأصوات، قال:
_ فضّوا هذه السيرة واتركونا من هالموضوع.
خمدت الأصوات، ولم يغادر أحد المضافة احتراماً لعبد الله ومحاولة للتسرية عنه. عبد الله لاذ بالصمت وراح يشتم في سرّه ابنته نهلة، لأنها لا تقبل مشورته إلا بصعوبة. اقترح عليها أن تتزوّج حينما جاءها عدد من الخطّاب. رفضتهم جميعاً، وقالت إنها تريد متابعة دراستها في الجامعة. طيب، راحت إلى الجامعة، وصرنا نسمع حكي، والحكي على مين؟ على نهلة. نهلة اليوم طلعت بفستان قصير، نهلة اليوم طلعت ببلوزة تكشف صدرها، نهلة اليوم لابسة بنطلون جينز. وما ظل علينا غير رباح الأزعر يقول انها مثل نعومي كامل عبد الحي بنت أجير الفران. والأدهى والأمرّ، هذا المهبول نعمان، هو متعلق بالبنت، يراقبها كلما خرجت وكلما عادت. قال أيش، نعمان يحب نهلة، ويريد التقدّم لخطبتها بعد إتمام دراستها الجامعية، ونهلة لا هي حاسّة فيه ولا سائلة عنه. ابن الحرام، لو أنه لم يضرب ابن الحرام. لو أنه عمل حاله مش سامع حينما قال الأزعر ما قال، لما وقعت مشكلة، لكن لا، لازم يضربه على وجهه، ولازم تصير مشكلة، ولازم الحي كله يسمع في اللي صار، والكل يسأل: شو سبب المشكلة؟ سبب المشكلة بنت التاجر عبد الله. سببها بنطلون بنت التاجر، سببها ان بنت التاجر لا تمشي مشية عادية مثل بنات الناس، لازم البنت تتطعْوَج وهي ماشية، مثل نعمة كامل عبد الحي، بنت أجير الفران. 
لم يستطع التاجر ضبط انفعاله ولا كتمان غضبه. شعر بأنه يتآكل من داخله، نهض متجهاً نحو السيف، خانته ساقه الجريحه، فلم يتقدم إلا بصعوبة، وقف أبناء العائلة واحتشدوا جميعاً من حوله، وفي عدادهم الطبيب الشاب. ظنوا أنه راغب في شنّ غارة جديدة على عائلة الأزعر، أو على عائلة نعمان الذي تسبّب في الفضيحة. كادوا يهتفون بصوت واحد: لعينيك، أبشر! إلا أنه قال:
_ أحضروا لي بنطلون نهلة، هذا البنطلون هو سبب ما جرى، سأمزقه بالسيف وأستريح.
اعتقد التاجر أن خطوة كهذه، ستظهره أمام أبناء العائلة فتّاكاً لا يرحم، وستساعد على ترميم السمعة نوعاً ما، وإدخال شيء من الخوف إلى قلب نهلة. مضى ثلاثة من أخوتها نحو غرفة نومها، وجدوا هاتفها النقال على أذنها وهي منهمكة في الردّ على مكالمة وصلتها للتوّ كما يبدو. الأخوة الثلاثة انهمكوا يفتشون خزانة ثيابها بحثاً عن البنطال، وهي منشغلة في الرد على المكالمة بكلام عذب خافت وبضحكات متقطّعة، الأخوة الثلاثة يواصلون البحث عن البنطال، فلا يعثرون عليه، ينتبهون إلى جسد أختهم، يلاحظون أنها ما زالت ترتدي البنطال. انتظروا بعض الوقت حتى انتهت من الكلام مع صديقتها (كما يبدو). قال الأخ الأكبر مشيراً إلى البنطال:
_ اخلعيه!
_ أيش بتقول؟
_ أبي يريده لكي يمزقه بالسيف.
بدا في عينيها عجبٌ ما، قالت بهدوء مباغت:
_ استريحوا أنتم، سأذهب إليه بنفسي.
اتجهت نحو المضافة غير مكترثة بالعواقب. دخلت على الرجال المحتشدين حول أبيها، حدّقت في وجوههم باستغراب. حدّقوا فيها بفضول، رأوا فتاة جميلة وادعة النظرات، شعروا بالحرج. تأملها أبوها وهو مدهوش، لم يتوقّع أن تدخل المضافة وهي غاصّة بالرجال. لإنها بذلك، تكسر القاعدة المتبعة لدى نساء العائلة. شعر تاجر الأعلاف بأنه مكبّل اليدين، رمى السيف نحو ركن المضافة وهو عاجز عن فعل أي شيء، حنى الطبيب الشاب رأسه احتراماً لهذا القرار. قال التاجر لابنته:
_ ابتعدي من هنا، ابتعدي.
ابتعدت نهلة، عادت إلى غرفتها، خلعت بنطالها ونامت في سريرها، ولم ينم أبوها ورجال العائلة، وفي عدادهم الطبيب الشاب، حتى الصباح.
__________
*روائي وقاص فلسطيني 

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *