*حمزة شباب
خاص ( ثقافات )
كل ما حوله قد أصابه الترف ، و اعترته سهام الأموال الجياشة في تحديد مستقبله ، مستقبل زاخر يحمل في طياته الراحة و الاطمئنان ، كان لا ينظر إلى تعليمه كنوع من تحصيل الرزق من أسباب السماوات و الأرض ، و لا يكترث إلى تلك القصاصات الورقية التي ستسطر اسمه وسطها بخط عريض ، فقط يهتم إلى أن يكون طفرة جينية تجتاز الثانوية العامة و بكل اقتدار ، متغلباً على تلك السمة الوراثية التي يكتسبها أبناء أبيه في خروجهم من المدرسة ، و العمل في مصانع و متاجر الوالد منتظرين حظهم بانتقال السلطة و وفاة العراب الأكبر ، بعدها يحسون بأثر الوراثة في إشعال الحرية في نفوسهم بأموال لطالما تعاملوا معها كموظفين بالأجرة .
و بعد إجهاد للنفس ، و إغراق في الدروس الخصوصية المكثفة استطاع الحصول على شهادة الدراسة الثانوية ، و تناسى سنتين من الإخفاقات التي أهلته لاجتيازها ، فقد تعامل مع الثانوية بمراسم شهادة جامعية مكللة بالبحث العلمي المرهق ، لكنه لم يتحصل على المجموع الكافي لدخول أية جامعة يعترف بها رسمياً ، و بمزيج من شهادته المتأخرة و غناه الموروث قدر له أن يعبر باب جامعة أهلية مترفة ، تقوم بتسجيل الطلبة أصحاب المعدلات المتدنية في تخصصات لا يراودهم منامهم في الحصول عليها ، و استقبله جناح اللغات الحديثة في كلية الآداب بتلك الجامعة ، و أمضى شهوراً في خيبته التي جرها في بداية سربال دراسته الجامعية ، و استطاع اجتياز حقلين من حقول دراسته الخمسة ، هي مواد اختيارية يسهل على الطلبة التعامل مع نظرياتها اللغوية الأساسية .
كانت عائلته تترقب عودة ابن عم لها يقوم بتجربة الدراسة في إسبانيا ، و استقبلته بحفاوة الطبقة العليا ، و تناولت معه أطراف الحديث حول إسبانيا و الدراسة فيها ، و نوعية التجارة الرائدة ، و طبيعتها المرموقة ، بل و حسناواتها ، و مباريات كرة القدم الذي يمثلها فريق ملكي و آخر يحلم بالحكم الذاتي يسود أطراف مقاطعته ، أخذت العائلة تفكر بعقلية طارق بن زياد في فتح أندلس مرة أخرى ، حتى وصل الحديث إلى عرض قدمه الوالد لابنه الذي اجتاز الثانوية بخوض غمار الطب في تلك البلد .
بدأ في التفكير بخريطة أخرى يمكن أن ترسم له حياة مختلفة عن العمل في مصانع الوالد ، أمامه أسبوع للرد على تلك المناقصة هي فترة إجازة ابن العم ، و بين تفكير ليلي و إعداد لشهوات النفس وافق العرض الممنوح من السلطة العليا ، و قام بإزاحة بعض المعوقات من على جوانب طريقه نحو الطب ، فاتخذ كتاباً لتعليم الإسبانية في أسبوع ، و استخدم الشبكة المجنونة في تحديد بقعة إسبانيا على العالم ، و أهم مواقعها الأثرية كسائح قد تطول فترة سياحته بعض الوقت ، و تعرف إلى عاداتهم و أعيادهم و طريقة لباسهم ، حتى بدا كأنه سانتياغو في بداية رحلته بحثاً عن أكسير الحياة الذي أخبره به رجل المدينة المقدسة ، فيصطحبه معه عائداً إلى حبه فاطمة ابنة الصحراء ، كان كذلك شكلاً فقط ، وافق على دراسة الطب في إسبانيا موافقة والده على التجارة فيها .
تدخل سفير دولة عربية ذو نفوذ بيّن في حصوله على تأشيرة سفره ، و حزم أمتعته مرتدياً لباس البيكادور و عينيه على أربعمئة حلبة لمصارعة الثيران ، و ودع أهله بلكنة غجرية بحتة عازماً على إدراك بلده الجديد في حفلة تنكرية تطال شخصيته الحديثة .
بدا كل شيء أمامه كجدارية تستحق أن تقاوم ، فارتطم مستقبله بعاقبة اللغة اللاتينية التي تتصرف أفعالها مع الضمائر السبعة في أزمنة سبع ، و كان الإخفاق في اللغة الغريبة أمراً مريباً ، ليخاطب والده سفير الدولة السابق الذي لم يألُ جهداً في مساعدة طبيبنا المساعدة الثانية و الأخيرة تمكنه من دخول البوابة الجامعية الأوروبية ، و بتخصص العظم الذي يشكل قوام الإنسان ، بل و تمكن من اجتياز مواده الدراسية المقررة عن طريق الأبحاث المقدمة برفقة ورقة رأسمالية من فئة المئة يورو ، سوى مادة تختص بدراسة الطبقة الداخلية للسحاء تتصف بقوتها و صلابتها و التي يبرع بفنونها البروفيسور الألماني ألكسندر هوفكنج صاحب التعاليم الدينية اليهودية ، فحالت السنوات الست و الأوراق المادية دون اختراق طبيبنا لتلك الشيفرة المعجزة و فاز بها عنوة ، و كأنه اختص بنوع واحد من مغازل لباسه الشتوي .
جلس في مقامته بالعاصمة مدريد ، و كان يتوقد خجلاً رغم حيازته لتلك الورقة الجنية التي ستحوله في وطنه إلى ساحر يحيي الموتى ، و يمم تجاه ضحاياه مقبلاً يد والد الطبيب كما أصبح يعرف ، و استقبلته إحدى المشافي الخاوية إلا من المرضى و مرافقيهم ، و في أول اختبار عملي قرر عمل معجزة لانزياحات طفيفة لغضاريف عمود فقري شاب ، و تناسى إنجاز الاستشارة الطبية بعدها ، فلم تقم قائمة لذلك الشاب الذي رعته واحدة من مؤسسات الإعاقة على كثرتها في وطنه ، و في صحوة ضمير يشبه تعنت الطبيب اليهودي اقتحم أحد موظفي التمريض غرفة طبيبنا و أمسكه من حلقة ربطة عنقه و ضيقها بعنف ، و أخذ يسأله عن سر حالة الشاب الذي قدم راجلا فغدا راكبا ، فأحجم برهة ثم باح له بسر وصوله للدور النهائي في لعبة الطب ، و لا زال طبيبنا ينتظر الخصم الذي سيقصيه من اللعبة .
*كاتب فلسطيني.