رواية صنع الله إبراهيم المنسية عن الجنس والخيانة والهزيمة



*ممدوح فرّاج النّابي


يحكي صنع الله إبراهيم ملابسات روايته المنسية “67” التي نشرت أخيرا بعد عقود من كتابتها، ويبين زمنية كتابتها 1968، وكيف كانت الأحكام الأخلاقية من قبل كتاب كبار أمثال يحيى حقي تهاجم كل عمل شجاع وصادق، وهو ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، لأن قراءة الرواية في سياقها التاريخي مهم جدا، خاصّة بعدما طوّر صنع الله من أدواته وتقنياته، وإن كان مازال محتفظا بطبائع أسلوبه التي دشنت كتابة جديدة لجيل كامل وسم بجيل الستينات أو «جيل بلا أساتذة»، حسب مقولة الناقد سيد خميس وليس محمد حافظ رجب كما هو شائع، وهو ما أكّد عليه صنع الله إبراهيم في تصديره لـ“تلك الرائحة” بمقولة جيمس جويس حول «صورة الفنان في شبابه»، «أنا نتاج هذا الجنس وهذه الحياة… ولسوف أعبّر عن نفسي كما أنا».
الذوات المتوترة
في رواية 67 يقوم الراوي الأنا الحيادي بروي أحداث الرواية، التي تبدأ مع ليلة الاحتفال برأس السنة في بيت أخيه، كاشفا عن علاقات متوترة بين الشخصيات، وتستمرّ الشخصيات في توترها طوال فصول الرواية، التي تأخذ ترقيما يبدأ من الفصل 1 إلى 13، جميعها يهيمن عليها راو متكلم وإن كان يسرد من بقعة حيادية، وكأنّه يسرد وقائع عن غيره لا عن ذاته.
بطل القصّة صحافي يعمل في صحيفة غادر السّجن حديثا، بسبب أفكاره اليسارية يعيش في بيت أخيه مع زوجته وابنته نهاد. هو نفسه الراوي المنغلق على ذاته، لا نعرف عنه شيئا سوى يوميات يسجّلها عن ذاته منذ استيقاظه وتناوله الفطور وركوبه الأتوبيس، ليبدأ رحلة تحرّش يستعد لها جيدا كل يوم، هذا الراوي يدخل في علاقة حميمية مع زوجة أخيه التي تستجيب له، وتبادله الحب، تبدأ العلاقة منذ ليلة رأس السنة أثناء مراقصتها، فيلتصق بجسدها، وعندها تُحذره لأن أخاه بدأ يلاحظ، يتضح أن هذه الزوجة لها علاقات متعدّدة، بل إن أحدا من أصدقاء زوجها كان يطاردها، بالإضافة إلى حبيب قديم، وكذلك مديرها في الشركة، لكن أهمّها علاقتها مع هذا الأخ، والتي تأخذ أبعادا تتجاوز فيها حدود المعقول، حيث يقيمان علاقة كاملة في الصّالة والزوج نائم في غرفته التي لا تبعد إلّا بضع خطوات عنهما، كما يقبلان بعضهما مستغلين إطفاء الأنوار في أثناء الحرب، والهبوط إلى المخبأ. ومثلما كانت للزوجة علاقات متعدّدة كانت له أيضا علاقات متعدّدة، بدأت مع عفاف ابنة الجيران، التي طلبت منه أن يفعل ما يشاء إلا أنها ترفض مداعبته لصدرها، مرورا بنساء الأتوبيس اللاتي يتحرّش بهن أثناء ذهابه إلى العمل.
وبينما العلاقـة بـين هذيـن الطرفـين قـائمة، كانت العلاقة على الجانب الآخر بـين الزوجـين متوترة، فالـزوج يشك في وجود عـلاقـة لها مـع آخـر ويبحـث عـن الدليـل، وأحيـانـا يقـف متـذللا أمام غرفتها على أمل أن تفتـح لـه لكـن دون إجابة. في أثناء هذه الأحـداث نشب العدوان الغاشم ووقع الشعب في أحبولة الإعلام، الذي جعل صديقـه الصحافي صادق يحلم بأنه سيكتب مقـالته القادمة من تل أبيب، وهو الممنوع من نشر مقالاته أصلا، ثمّ الاستيقاظ على فجيعة التنحّي، ومع كلّ هذه الوقائع التي كانت خلفية لأحداث الرواية، كانت العلاقة في التنامي بين الطرفين، وعندما أراد أن يضع لها حدّا، بتركه للبيت وذهابه إلى صديقـه رمـزي، أبـت وطـاردتـه، بـل وذهبت إليه ملحّة على استكمال العلاقـة.
نكسة وتواطؤ
الجوّ العام بعد النكسة وحالة الانكسار التي خلقتها انعكسا على الشخصيات العامة أو الخاصّة، فصارت شخصيات غير مبالية أو شخصيات ضدّ، بينها وبين الآخر تواطؤ غريب، فالجميع على معرفة بالخطأ لكن دون السعي إلى كشفه، بل في الكثير منه يعملون على إذكائه والاستمرار فيه، فأثناء تحرّشاته داخل الأتوبيس كان البعض يلاحظ، ومع هذا لم يتدخل أحد لمنع التحرّش، بل كان البعض يدخل في تنافس ليحتل ذات المساحة حتى يقوم هو بما كان يفعله الآخر، وأيضا الفتيـات كن يقفـن دون اعتراض أو إبـداء تـذمّر، فالجـوّ العام مشحون بالغضب والخمول والبرودة أيضـا، كمـا أن رمزي كان يتواطأ مع صديقه بترك الشقة له، وإعلامه بساعة قدومه، حتى ينتهي من الأمـر، وكذلـك الـزوج كـان يعـرف أن زوجتـه على علاقة ما لكن دون أن يسعى جاهدا إلى الكشف عن الطرف الثاني، مكتفيا بالبحث عن دليل في حقيبتها أو غرفتها، حالة التواطؤ المهيمنة هي إحدى نتائج الأزمة السياسية، وكأن ثمّة معارضة ولكن بطريقة سلبية.
لا يعتني صنع الله إبراهيم برسم ملامح للشخصيات، بأن يحكي تاريخها، حتى الصحافي لم يشر إلى ماضيه سوى عبر إشارة مقتضبة بأنه كان في السجن، وهو ما يعني أنه يهتمّ بالداخل، أي بناء الشخصية الداخليّ هو ما يشغله، وقد يلاحظ القارئ في معظم سرده أنه كان يمرّر عبارات تشي بحالة الانقسام الداخلي للشخصيات مثل: شكّ الأخ في الزوجة، وحديث الزوجة عن معجبيها، وعلاقاتها حتى بزملاء العمل.
تعتمد الرواية على إيقاع سردي يميل إلى التكرار عبر سرد التفاصيل اليومية بل وأدقّ التفاصيل، من خلال الميل إلى تقنية الوصف التي يسهب فيها الراوي، ومع هذا الوصف الذي يميّز النص فليست هناك حوارات، وإن وجدت فهي حوارات مقتضبة، لا تزيد عن جملة أو اثنتين، معتمدة على لغة بعيدة كل البعد عن الزخرف البلاغي أو الإسهاب اللفظي، بل هي لغة مجرّدة حتى في نقل تعبيرات العشق، وإن كانت تظهر حالة من التوتر والقلق على مستوى المواقف والأفعال.
ويأخذ السّارد في موقعـه الراصـد للأحداث موقع المتربص والجاسوس، الذي يصغي لكلّ ما يــدور مـن حـولـه، فهـو مـن غرفتـه يتـابع ما يحدث في غـرفـة زوجـة أخيـه، وفــي الشارع يتأمل العلاقات بين الأحبـة واللمسات التي تبـدو كسـرقـة مـن المـارة، كمـا في وصفـه لحالـة العاشقـين عنـد صعـوده إلى الجريدة. وأثنـاء ممـارساتـه يتتبـع تفاصيـل الجسـد، ويركـز عليها. هـذه الحالـة التي يبـدو عليهـا السارد، إلى جانب سرده للتفـاصيل، تكشـف مـدى الخـوف مـن التـربـص والشعـور به في داخلـه، فيسعى إلى عكسـه على الآخـرين.
كنت أتوقع النهاية الطبيعية وهي أن ينكشف سرّهما، وتتصدع علاقتهما، لكن كانت المفاجأة أنّ السّارد تعمّد أن يسير إلى ما بعد النهاية، وترك العلاقة منفتحة دون أن يعيق حركتها أو استمراريتها مانع، كالخوف أو الحذر من كشف السر، أو حتى مراعاة التراتبية الأسرية واحترامها. كل شيء لم يعبأ به السارد، لأنـه يتمثـل مقـولة جـويس في هذه الرواية «ولسـوف أعبـر عـن نفسي كما أنا». نعم كانت ثمـة علاقـة شاذة ومحرمة، ولكـن السؤال لمـاذا نشأت هـذه العلاقـة ومـن ساعد على أن تولد أساسا؟ أليس قبح السّياسة، هو الذي أسقط الراوي والبطلة في فخ المحارم؟
___
*العرب

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *