الله والمطر


*سعد محمد موسى

في هذه الليلة ارتحلت الذاكرة بعيداً الى ضفاف مدينة الناصرية، حينها كنت طفلاً هادئا ونحيفاً في الصف الأول الابتدائي في إحدى مدارس مدينة الناصرية جنوبي العراق.

وذات يوم طلب معلم الرسم من التلاميذ أن يرسموا مشهد المطر. فتح الاطفال كراسات الرسم وسبحت خيالاتهم في المطر، وفي نهاية الدرس مرّ الاستاذ “باقر” على جميع التلاميذ لكي يرى رسوماتهم وحين جاء دوري تناول كراسة الرسم تطلع بإستغراب امام طلاسم التخطيط، في أعلى الصفحة كنت قد رسمت بقلم الرصاص شخصاً طويلاً ونحيفاً مستلقياعلى الغيوم وهو يسكب الماء من سطلٍ يحمله بين يديه على المارّةِ وفوق ارصفة وشوارع المدينة، فيما بعض المارة كان يحتمي تحت المظلات، واخرين يقفون تحت شجرة كبيرة، كان الرجل الذي يشبه “الله” يحمل سحنات أبي الذي غادر وجودي وانا بعمر سنتين حيث ملامحه مازالت منقوشة بتضاريس ذاكرتي البريئة، بفضولٍ طفولي سألت امي ذات صباح ممطر وهي كانت تحملني على كتفها في سوق “الصفا” وانا اشعر بزهوٍ وكأني أكاد أن ألمسَ السماء، عن مصدر المطر، أجابتني ان المطر يأتي من الله يا صغيري وحين سألني المعلم عن معنى وجود الشخص المستلقي على الغيوم اخبرته انه الله, وان الماء الذي يسكبه من السطل هو المطر, أتذكر الصدمة التي رسمت ملامحَ الدهشة على تضاريس وجهه البليد، حينها استشاط غضباً فعاقب مشهد المطر بتمزيق ورقة الرسم من كراستي وألقاها في سلة المهملات وعاقب وقاحة مخيلتي بوضع قلم الرصاص الذي استخدمته للرسم بين اصبعيّ وضغط عليهما بقبضة يده القوية، كان ألماً يفوق تحمل طفل بعمر سبع سنوات زجَرني بشدة لكي لا ارسم الله مرة اخرى.
ماء وفضاء
كان البلم يمخر عباب هور الحويزة (جنوب العراق) وهو يقلُّ احفاد “أنكي” إله الماء لدى السومريين باتجاه معبد أبسو حاملاً الأب الذي كان منهمكاً بدفع مجذافيّ القارب بينما كانت الأم غارقه بصلواتها متربعة في وسط البلم وابنهما المسمى “بردي” في السادسة من عمره كان يرسم فوق سطح الماء باصابعه أكواخ القصب والقمر والجواميس والاسماك وكل ما يتذكره أو يشاهده من مفردات الهور وكان متربعأ في مقدمة البلم منتشياً بصباحٍ مشمسٍ ودافىء يتناغم مع سحر الماء, اثناء تلك الرحلة الساكنة وعلى حين غرّة اخترق فضاء الحويزة أزيز طائرة على اثرها استفاقت مخيلة بردي واشرأب بعنقه نحو السماء لهذا الطائر الخرافي الذي يتحرك في رحم أنو (إله السماء).
أخذ بردي بكراسة الرسم التي كانت غالبا ما تلازمه ورسم الطائرة بقلم الرصاص ورسم الكابتن ورأسه بارزا من مقدمة الطائرة وهو يمسك بمجذافين يحركهما بالفضاء بقوة دافعأ بالطائرة الى الامام تماماً كما يفعل أبوه وهو يجذف بالبلم. لم يتخيل بردي اي شيء ممكن ان يتحرك دون مجذاف وان العالم في اعتقاده هو مستنقعات مائية فقط.
شظايا تمزق سماء الطفولة
في عام 2008 زرت ملجأ للأيتام في بغداد وشاهدت رسومات لاطفالٍ عراقيين معلقة فوق الجدران كانت حكايات بلون الدم والدخان تنزف فوق الاوراق البيضاء تُبكي الله وكائناته. وكان هنالك طفل قد رسم قصته على الورقة. لامهاتٍ ثكالى موشحات بالسواد يرفعن اذرعهن نحو سماء قاسية ملوثة بدخان كثيف وهن يندبن ويعزين امواتهن كعزاء – عشتار لتموز وزينب للحسين – فوق ارصفة تسيل فوقها الدماء والدموع وكأن ارصفة بغداد باتت اجساداً موشومة بالفجيعة. وايضاً وقع بصري على تخطيط معلق قرب باب مديرة الملجأ ليتيم عراقي اخر رسم نخلة ذبح جذعها بشظية فتهاوت كأم جريحة طُعنت بخاصرتها وهي متكئة على جذع نخلة أخرى بقربها وأعثاق الرطب مازالت طرية والجذع ينحني بغرور وجرحه كبرياء أمام الغرباء والشامتين. في زاوية الملجأ اِنحنت روحي امام مشهد لطفلة تدعى”لارسا” فقدت كفها الايسر بانفجارٍ حصل في احدى احياء بغداد وقد رسمت لوحتها بكفها الايمن وهي تقف امام لوحتها مجسدةً لفجيعة قتل اسرتها بالكامل بواسطة عجلة مفخخة ولم يتبق من العائلة غيرها. رسمت الطفلة ذات التسع سنوات عائلتها مرمية على الرصيف في مجزرة يخر لها العالم خجولا وضئيلاً امام لوحة الضحية المنكوبة بنت الرافدين وفي الجهة الاخرى رسمت “لارسا” اختها الصغرى صريعة وسط بركة دم وحقيبتها المدرسية ممزقة ودفاترها المبعثرة تفترش الشارع المُغتَصب ايضا، رسمت “لارسا” لعبتها تتطاير مع الشظايا وترتفع عاليا نحو الشمس, وكأن اللعبة رسول لكارثة فظيعة وشاهد لما حدث تستغيث نحو السماء لتبلغ الله ما يحدث لاطفال العراق حينها سقط قلبي مثل اخر ثمرة من عثق النخلة الجريحة واستقر بين اقدام الحبيبة لارسا.
__________
*العالم

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *