عزيزي الله


*هانم الشربيني

( ثقافات )

قبل الصعود للجريدة تترك أمل سياراتها كوديعة في جراج خاص في ميدان عبد المنعم رياض، تعتبره المكان الأسهل بعد نزولها من على كوبري أكتوبر المعلق كمشبك غسيل فوق رأس الميدان. تحرص على إيقاف سياراتها في نفس مكانها اليومي، فهي دائما تحب الحفاظ على كل شيء في نفس أماكنه. هي نفسها تمارس الشيء نفسه مع ذاتها، فهي تجلس في بيتها في مكان واحد من الأريكة التي تحتل غرفة معيشتها، وكذلك في جريدتها الشهيرة المسماة «الحرية».. جميع زملائها يعرفون ذلك ولا يقتربون أبدا من مكتبها الذي يقولون عنه إنه يحمل بصمتها وروحها.
***
لها طلة خاصة وابتسامة تحملها عيناها وتسقط على كل من تقابله صغيرا كان أم كبيرا.. فبمجرد دخولها باب الجريدة تحرص على إلقاء السلام على أفراد أمن الجريدة الذين يلقبونها بالمحررة العسكرية، بينما تعمل في قسم التحقيقات الصحفية، وقد اكتسبت هذا اللقب لاحتفاظها بخطوات ثابتة أثناء سيرها كما لو أنها جنرال عسكري محنك يحرص على إضفاء الهيبة والوقار على خطوات سيره.
***
تمر من البوابة الأمامية للجريدة، وبعد بضع خطوات تقف أمام الأسانسير الأنيق، الذي يحملها مع باقي زملائها الذين يتبادلون يوميا تحية الصباح المقتضبة «صباح الخير». في الدور السابع تخرج بجسدها من الأسانسير متوجهة للغرفة الخاصة بها والتي تضمها هي وزميلين من نفس القسم، تبادلهما أيضا السلام وتنطلق للجلوس على مكتبها الذي تجلس في ظهره مكتبة كبيرة من الكتب، ويجلس عليه جهاز كمبيوتر تستعين به في عملها الصحفي اليومي.
***
هذا المكتب الذي تجلس فيه هو امتياز ممنوح لها من قبل رئيس التحرير، بعد أن أثبتت جدارتها المهنية، وبعد علمه بمعرفتها بالعديد من الوزراء المهمين لدى الرئيس، خاصة وزير الإعلام المسمى «الفولي»، الذي يتدخل مع زوجة الرئيس في اختيار رؤساء التحرير، وكان الوزير الفولي يكن محبة خاصة لتلك الصحفية الأنيقة ويجعلها ضيفا خاصا في عدد من البرامج التلفزيونية الكبيرة التي قرر بها منافسة القنوات الفضائية ولنفي السمعة الخاصة عنه بأنه تلفزيون حكومي يسير وفقا لأوامر النظام، حيث تطلق عليه جرائد المعارضة أنه لسان النظام الحاكم، بل عينها الفولي عضوا في مجلس أمناء اتحاد الإذاعة والتلفزيون الذي يضم كل حملة الشعر الأبيض بينما هي لم تتعدى بعد العقد الثالث من عمرها. وما كانت تلك المحبة تخصها وحدها، وإنما لصلة قديمة كانت تجمعه بوالدها الشاعر أنيس الرافعي، قبل أن يختار ليجلس على كرسي الوزارة، بل حينما كان لا يملك سيارة، قبل أن تجرفه الرياح ليتعرف على زوجة الرئيس، وقبل أن ينجح في أن يصبح أحد المقربين القلائل لها، وضلعا أساسيا في مشروع الثقافة الذي تتباهى به أمام المجتمع الدولي، وتستعمله لإثارة حقد غيرها من زوجات الملوك الذين لا يعرفون شيئا عن الثقافة ولا يملكون شيئا غير ثقافة آبار البترول على حد قولها للفولي الذي كان يقف أمامها بانحناءة خاصة ويتكلم وكأنه يهمس في أذنها.
***
تبدأ يومها بعد الجلوس على مكتبها بالاتصال بمجدي عامل البوفيه، لتطلب كوبا من النسكافيه الذي يحمل رغوة خاصة والمزين بقلب على وجهه مع قطعة من البسكويت.. وفي تلك الأثناء قبل التفرغ للعمل تقوم بفتح صفحتها الشخصية على الـ«فيس بوك» لتصفح حديث الأصدقاء وأحوالهم. هي لا تحب الدردشة عادة على الإنترنت، تعتبرها تواصلا فارغا من العواطف، لكن الموقع بالنسبة لها وسيلة اتصال دائمة بأصدقائها من الدول العربية وللاطلاع على بعض الصفحات السياسية التي تحرص الحكومة على بثها للادعاء بأنها حكومة إلكترونية وليست حكومة عجوزا لا تعرف مطالب الشباب ولا تساير روح العصر. تفتح الصفحة التي تحمل صورة شخصية لها تحمل وجها طفوليا لم يتعد الخمسة عشر عاما، وفي رأسها تقف ضفيرتان تحملان روح الطفولة المعبأة بالرقة والبراءة. تترك تلك الصورة ليس رغبة منها في الهروب من ساعة الزمن بل لتذكر أنامل أمها الحانية، تشعر أن روحها تسقط كل يوم لهذه الصورة لتؤكد لها أنها مازالت بجوارها وأنها لم تفتقد حنانها بعد.
***
تكتب تغريدة يوميا تحمل دعاء يوميا مختصرا من عينة «يا رب.. أكرمنا يا رب». لا تميل لكتابة آراء سياسية أو الدخول في نقاشات حامية لا تسفر في النهاية عن نتيجة، لكنها تفضل الاطلاع على ما يكتبه أصدقاءها يوميا، فتكتب «https://www.facebook.com/»، لتطلع على صفحاتهم عبر صفحة واحدة.
***
تفضل أمل النظر لبعض الصفحات الساخرة، فتتطلع بشكل يومي على صفحة «فاصل مش إعلامي»، فترى جملة اليوم «مصر مش محتاجة دكاترة ومهندسين.. مصر محتاجة رقاصة وشمامين»، فتضحك نصف ابتسامة، وتطلع على تغريدة أخرى «الشعب لا بد أن يكون فقيرا.. أمال مين في الانتخابات هينجحنا؟!»، تشعر بحزن داخلي من تلك العبارات فتهجر الصفحة، وتتجه لقراءة كلام الأصدقاء حتى دون النظر لأسمائهم، ولبضع لحظات تعلق عينيها على الصفحات للقراءة المتواصلة، ورسم ابتسامات ومشاعر مختلطة على وجهها بحسب ما تقرأ:
– «وفي المقابل، نرنو إلى أن نصبح شخوصا روائية»..
(ديستويفسكي، تصدير رواية «بيرة في نادي البلياردو»، وجيه غالي، ت: هناء نصير)
– «لا تسلم سيفك لرجل، ولا قلبك لامرأة، ولا عقلك لمخلوق».
– «يا جماعة.. ماحدش ابن حلال يبعتلي رقم كارت فودافون فكه ضروري جدا جدا.. ماحدش يقولي استلف لأني سالف الـ12 جنيه»
– «للبنات.. أعطونا كذبة مشهورة عند الشباب. للشباب أعطونا كذبة مشهورة لدى البنات».
– في إحدى المدارس الأميركية طلبتِ المعلمةُ من الأطفال أن يوجِّهوا رسائل إلى الله في الكريسماس، يسألونه عن أحلامهم وأمنياتهم، أو يوجهوا إليه أسئلةً مما يخفق الأبوان والمعلِّمون في الإجابة عنها.. فكانت الرسائل كالتالي:
عزيزي الله..
في المدرسة يخبروننا بأنك تفعل كلَّ شيء. فمَن يقوم بمهماتك يوم إجازتك؟ (جين)
عزيزي الله..
هل كنت تقصد فعلا أن تكون الزرافة هكذا، أم حدث ذلك نتيجة خطأ ما؟ (نورما)
عزيزي الله..
بدلا من أن تجعل الناس يموتون، ثم تضطر لصناعة بشر جديدين، لماذا لا تحتفظ وحسب بهؤلاء الذين صنعتَهم بالفعل؟ (جين)
عزيزي الله..
مَن رسم هذه الخطوط على الخريطة حول الدول؟ (نان)
عزيزي الله..
هل أنت فعلا غير مرئي.. أم أن هذه حيلة أو لعبة؟ (لاكي)
عزيزي الله..
من فضلك أرسلْ لي حصانًا صغيرًا. ولاحظ أني لم أسألك أي شيء من قبل، وتستطيع التأكد من ذلك بالرجوع إلى دفاترك. (بروس)
عزيزي الله..
هل حقًّا تعني ما قلتَه: رُدَّ للآخرين ما أعطوك إياه؟ لأنك لو كنت تعني ذلك فسوف أرد لأخي ركلتَه. (دارتا)
عزيزي الله..
ماذا يعني أنك ربٌّ غيور؟ كنتُ أظنُّ أن لديك كلَّ شيء. (جين)
عزيزي الله..
شكرًا على أخي المولود الذي وهبتنا إياه أمس، لكن صلواتي لك كانت بخصوص جرو!.. هل حدث خطأ ما؟ (جويس)
عزيزي الله..
لقد أمطرتْ طوال الإجازة، وجُنَّ جنون أبي! فقال بعض الكلمات عنك مما ينبغي ألا يقولها الناس، لكنني أرجو ألا تؤذيه بسبب ذلك على كل حال. صديقك.. (عفوًا لن أخبرك باسمي)
عزيزي الله..
إذا كنَا سنعود من جديد في هيئات أخرى.. فمن فضلك لا تجعلني جنيفر هورتون لأنني أكرهها. (دينيس)
عزيزي الله..
إذا أعطيتني المصباح السحري مثل علاء الدين فسوف أعطيك لقاءه أي شيء تطلبه، ما عدا فلوسي ولعبة الشطرنج خاصتي. (رافائيل)
عزيزي الله..
شقيقي فأر صغير. كان يجب أن تمنحه ذيلا. ها ها.. (داني)
عزيزي الله..
قابيل وهابيل ربما ما كانا ليقتتلا جدا لو أن أباهما أعطى كلا منهما غرفة مستقلة. لقد جربنا ذلك ونفع هذا الأمر مع شقيقي. (لاري)
عزيزي الله..
أحب أن أكون مثل أبي عندما أكبر، لكنْ ليس بكل هذا الشعر في جسمه. (سام)
عزيزي الله..
ليس عليك أن تقلق علي كثيرًا.. فأنا أنظر للجهتين دائمًا حين أعبر الطريق. (دين)
عزيزي الله..
أظن أن دباسة الأوراق هي أحد أعظم اختراعاتك. (روث م)
عزيزي الله..
أفكر فيك أحيانًا، حتى حين لا أكون في الصلاة. (إليوت)
عزيزي الله..
أراهن أنه ليس بوسعك أن تحب جميع البشر في العالم.. يوجد أربعة فقط في أسرتي ولم أستطع أن أفعل ذلك. (نان)
عزيزي الله..
بين جميع البشر الذين عملوا من أجلك، أحب أكثرهم نوح وداود. (روب)
عزيزي الله..
إذا شاهدتَني يوم الأحد في الكنيسة فسوف أريك حذائي الجديد. (ميكي دي)
عزيزي الله..
أود أن أعيش 900 سنة مثل ذلك الرجل في الكتاب. مع حبي. (كريس)
عزيزي الله..
قرأتُ أن توماس إديسون اخترع اللمبة. وفي المدرسة يقولون إنك مَن صنع النور. أراهن أنه سرق فكرتك. (المخلصة – دونا)
عزيزي الله..
الأشرار سخروا من نوح: «تصنع سفينةً فوق اليابسة أيها الأحمق!» لكنه كان ذكيًّا، كان ملتصقًا بك. هذا ما سوف أفعله أيضا. (إيدن)
عزيزي الله..
لم أكن أصدق أن اللون البرتقالي يمكن أن يتماشى جماليًا مع اللون الأرجواني، حتى شاهدت غروب الشمس الذي صنعتَه يوم الثلاثاء. كم كان ذلك جميلا. (يوجين)
عزيزي الله..
لا أعتقد أن ثمة مَن يمكن أن يكون ربًّا أفضل منك. حسنا، فقط أريدك أن تعرف أنني لا أقول ذلك لأنك أنت الربُّ بالفعل. (تشارلز)
***
من ينظر لوجهها في تلك اللحظة يشعر بأنه وجه خرج بشكل خاطئ من جهاز الكمبيوتر، وأنه قطعة أصيلة من أجزائه، فالكلمات تخطفها، لدرجة أنها لا تسمع أي شيء يدور حولها، فلم تسمع يد مجدي حينما دق على الباب قبل أن يدخل، ولا حينما أزاح «الأوكرة» الخاصة به، بل لم تنتبه حينما وضع النسكافيه على المكتب.
فقط انتبهت بعد لحظات وهو يقول لها بصوت مبتسم «إيه بقى السرحان ده يا أستاذة؟»، فابتسمت وقالت له جملتها المعتادة يوميا «أنت الوحيد اللي بحبك تتأخر عليّ بالطلبات، لأن ده معناه إني خلاص لازم أبدأ الشغل».
مجدي: «أي خدمة يا أهم صحفية في مصر»، يقولها ويغلق الباب خلفه.
_________
*صحفية وقاصة من مصر .

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *