من ذاكرة الزقاق / كشّاش حمام


*ناصر الريماوي


خاص ( ثقافات )
عبّاس – ابن الجيران- صاحب الصوت الجهوري، المثقوب، كعادم سيارة، سريع الانفعال، صاحب العقد “الشنيعة” الموروثه عن أحد جدّيه، والتي وصمته الأيام بأبشع منها، لتستقر في وجهه، وتحت جبينه وبين عينيه، ثم لتنسل كي يبقى رهين الجدل العائلي في كل مرة.
بالنسبة له، كان عبّاس يلعن الاثنين معا في سرّه وعلانيته، جدّه لأمه وجده لأبيه، ويثور على فيروز وهي تعمد عن سوء نية، لتذكيره بأجيال لاحقة ستأتي بعقد أكثر ” شناعة ” على يديه، وهي تصدح: يا عاقد الحاجبين…! 
نحيل القامة نسبيا… طباعه غريبة، في كل شيء، عكر المزاج، ورغم جسده المسلول، إلا أنه كان يحجب عنّا قرص الشمس، وعن أغلب الجيران قبيل المغيب، يصفر للحمام العابر وهو يشير إلى باب برجه المشرع، حيث يواصل هدر وقته المهدور أصلا على سطح منزل والديه.
عبّاس، كان “كشاشاً” للحمام، يطير “كشّته” في المساء، ثم يلاحقها بالصفير والإشارات المجنونة من يده، ينثر بذورا غريبة، غالية الثمن، على السطح، ثم يعلو صوته وهو يشتم الدنيا، ثائراً في وجه العصافير المتطفلة، وإناث الحمام التي يُبقي عليها هناك، ولا ترافق السرب. صوته كان يخرم آذاننا وهو يقول: هذه البذور ثروة، هي فقط لمن يستحقها يا أولاد …!
تتناثر على وجهه بعض الدمامل، كان يجد تسليته بعد عودة الحمام وإطعامه للسرب عند المغيب، بالعبث في صفحة وجهه، وتحديدا تلك الدمامل، تصيح به أمه: لا تفركها يا أهبل خلق الله…! يبرطم وهو يرد بكلمات غير مفهومة، تجيبه في نفاذ صبر: ليست “حَبْ شباب” إنها دمامل تتوالد، من مخلفات الحمام يا بهيم.
يصعد بالشاي، الأبريق النحاسي مع كأس وحيد فوق صينية معدنية صغيرة، يضعها على حجر، يلف لمبة الكهرباء المعلقة على حبل الغسيل، وسط السطح، فتضيء، يسحب كرسيا هجينا من القش والخرق البالية، يشعل سيجارة “ريم” ويولف إبرة المذياع على فقرة أم كلثوم اليومية، يمد رجليه ويغني مع ” الست ” يختلط زعيقه مع السعال، وهو شارد الذهن يحدّق في الفضاء ويرصد فيه ظهور أول نجم ثاقب.
عبّاس مفاوض شرس، كنت أتعمد أن أتبعه إلى سوق الحمام، أمام “سينما الحمراء”، وأحرص على أن لا يراني. ذلك النهار كان يفاوض فحلا مثله، على حمامة بنية اللون، جميلة، كان يسميها “الشّامية” أو الريحانة الشّامية، وكنت أستهجن إصراره على الفوز بها، وهو ما حصل بعد مشّقة كبيرة، وبثمن مرتفع قليلا، ربما تجاوز ما تستحقه فعلا، كان عبّاس مسرورا ومقطبا في الوقت نفسه، اندفع خارجا بالحمامة، كاسراً طوق الفضوليين أمثالي ممن تجمهروا حوله، اصطدم بي، وكدت أقع، أمسك بي، ثم صاح في وجهي غاضبا: انت تطاردني منذ فترة، تتبعني كخيالي، من أنت؟
قلت له مرعوبا، بأنني ابن جارهم فلان إبن فلان. فشخر وكأنه قد اكتشف أمرا للتو: عرفت الآن، قل لأمي بأنني لم ألتقيها ولن ألتقيها، وبأنني كما ترى… في سوق الحمام. 
بعد أيام، كنت أشفق عليه مما حل به… 
فبينما كان يبحث بعينيه عن اول نجم في السماء ويلعق ما تبقى من كأس الشاي الأسود، ويمج آخر نفس من سيجارة “الريم”، طويلة المدى، فإذا بجلبة غير معتادة تثور في الحارة، وأمام بيته تحديدا، راحت الأيادي العديدة تلطم باب “الزينكو” بعنف، وأصوات كثيرة غاضبة تطالب برأسه، أو كتفه، قفز مذعورا عن كرسيه تاركا للست أم كلثوم إكمال الأمسية، وراح يصيح بهم من فوق السطح مستندا إلى سوره، من أنتم؟ ماذا تريدون؟ 
انبرى أكثرهم غضبا: نريد قطع يدك التي “تكش” الحمام وتمتد إلى أعراضنا. 
كانوا أكبر منه سناً، فخفف من نبرته المفرطة في التحدي، ولكنه ظل على اعتداده بنفسه، رغم أن المفاجأة قد هزته قليلا وربما أرعبته.
خرج والده ثم لحقت به الأم، اشتبك معهم بالكلام، وهو يوزع شتائمه بينهم وبين ولده الذي كثيرا ما جلب إليه الفضائح، اعتلى الجميع – أهل الحارة – أسطح البيوت وفسحات النوافذ، إحدى الجارات كانت ترد على زوجها الذي بقي في الداخل: شبّان غرباء، ليسوا من حارتنا، يريدون البطش بعبّاس. 
لماذا، ما الذي اقترفه هذا “الهامل” مجددا؟. 
أمّه استبقت الجميع، لوت عنقها ورفعت رأسها للأعلى مخاطبة إياه بصوت جارح: إن لم يخب ظني فقد عدت لريم…! لتلك الفتاة الملعونة، تلتقيها من وراء الجميع، اليس كذلك؟ 
يرد متماسكا، وبنبرة واثقة: وحياتك، لم يبق من تلك الصبية سوى أسمها، مكتوب على هذه العلبة…
ولوح لها أمام الجميع بعلبة السجائر الفارغة بإنكسار.
_______________
استيقظت الحارة ذات ليلة خريفيه بعيدة، على جلبة غير معتادة في ذلك الوقت، حيث كان الليل قد تجاوز نصفه الأول بكثير. هذه المرّة كانت الضوضاء تأتي من داخل البيت، ولم يكن بمقدور أحد أن يفهم بما يرطن به أبو عبّاس وهو يصيح بغضب شديد، أو لمن يتوجه بذلك الحديث المتسارع الموتور، عدا كلمة واحدة كانت تستقر في الآذان كرصاصة، لتترك على وجوه الجميع أفواها فاغرة مستنكرة … 
“سكران …!”
ثم ارتطامات عديدة على بوابة الصفيح، وجثة تسقط فوق أرض الزقاق، ثم يهمد كل شيء حتى الصباح.
كانت الصدمة للجميع، حول عودة “عبّاس” لبيت والديه، وأنه المعني، متى عاد؟ وأين كان طوال هذه المدة؟
بعد أن تكررت تلك الغارات الصيفية لبيت عبّاس من خلال بعض “الكشّاشين” الشباب، في الحارات الأخرى، وما كانت تخلّفه من فضائح مخجلة لعائلته، كونها تشي بعبّاس ككشّاش نذل يسرق حمام الآخرين، إما بإغراء أسرابهم بإناث الحمام الشّامي أو بالبذور، فقد أطاح والده ببرج الحمام الخاص به تماما، وحرّم عليه العودة إلى تلك العادة نهائيا.
لم يجد عبّاس بديلا عن تلك التسلية المفقودة، سوى مرافقة بعض الشبّان المحظور على الجميع مرافقتهم، ثم كان لا بد له من البحث عن مورد آخر للدخل، غير الحمام، لتأمين سجائر “الريم” على الأقل، ومصروفاته الشخصية الأخرى.
أخذته الحاجة والرفقة الاستثنائية، للعمل في إحدى دور العرض السينامائية، كعامل “بوفيه” متجول بين صفوف الكراسي في الاستراحات، رأيناه اكثر من مرّة ونحن نعبر من هناك أو حين كنّا نقف أمام لوح الصور الاعلانية لأفلام العرض، والتي كانت بالمجل أفلاما إباحية، تختص بعرضها تلك الدار أكثر من غيرها. 
في الليل يعود وفي جعبته المزيد من تلك الصور، يلطي خلف أحد الأسوار المهجورة في الحارة، ويعرض علينا سراً، “شلن” مقابل متعة التصفح، “بريزة” لقاء تقديم صورة واحدة على سبيل الاعارة لساعتين او ثلاثة، نصف دينار ثمنا للنسخة، وهكذا… حتى أفشى البعض أمره لوالده.
في اليوم التالي، أكد البعض بأن والده قد سحبه من ياقة قميصه وسط صالة العرض تلك، إلى الشارع العام، بعد كيله أقذع الشتائم لمدير الصالة، ثم جرّه على الرصيف قبل أن يفلت من يده، ويفرّ ببعض الكدمات التي تركت أثرا عميقا في وجهه الدميم أصلا، وجرحا أكثر عمقا طال كرامته، ولم يعد للبيت بعدها، الا في تلك الليلة الخريفية السوداء. 
ثم لم يعد يسمع به أحد. كنّا نصدف أمّه على مضمار “المدرسة التجارية للبنات”، لعلها تصدفه هناك حيث كان يتواجد كل يوم بانتظار خروج محبوبته “ريم”، هكذا كنّا نفسر الأمر، كانت تطلب منّا أن ندلها على بيوت “الشلّة” المحظورة من الشبّان، لتسألهم عنه، أحيانا كانت تذهب إليهم بنفسها، لكنهم كانوا يؤكدون لها بأنه قد سافر إلى بلد آخر… ولا يعرفون عنه شيئا، أما والده، فقد كان أكثر صلابة، وكان لا يجالس أحدا من رجال الحارة أمام محل الحلاقة أو البقالة عند العصر، ويكتفي بالبيت بعد العودة من عمله في مصفاة البترول الأردنية، فقد تبدّل تدريجيا وصار يجالسهم ويختلط بهم، وحين يذكره أحد ما بالسؤال عن ولده أمام رقعة ” الضامة “، يهز رأسه ويجيب مكابراً: أنا قد تبرّأتُ منه، ولا يهمني أمره. مع أننا قد رأيناه في أكثر من مناسبة وهو يبكي غياب ولده، خفية عن الجميع، وبحرقة أيضا.
في مطلع الثمنانيات، كان “عبّاس” قد تجاوز العشرين من عمره، حيث مضى على غيابه أكثر من سنتين.
تعددت الأقاويل التي تناقلها الناس وكان مصدرها بسطات البيوت، وأروقة المحال المفتوحة طوال اليوم، كحانوت الحلاق والبقّال في الحارة، منهم من قال بأنه قد فرّ إلى سوريا، ثم إلى لبنان ليلتحق بالفدائيين، ومنهم من رجح الشائعة التي تفيد بتطوعه مع الجيش العراقي في حربه ضد إيران، ومنهم من غدا أكثر تطرفا حيث أضاف بما لا يدع مجالا للشك، بأنه قد التحق بالمجاهدين، وأن آخر من رآه كان في “بيشاور” الحدودية، قبل أن تبتلعه الحفرة الكبيرة في أفغانستان… 
حتى جاء ذلك اليوم، الذي اهتزت فيه تلك الشائعات، حين إمتلأ الحيّ بمركبات كثيرة للشرطة المحلية والأمن الوقائي، قبضت تلك القوات على بعض الشبّان المحظورين، وأبلغت أهالي البعض بضرورة تسليم أبنائهم، فهذا لمصلحة الجميع… كان “عبّاس” من بينهم، 
حيث أقسم والده، بأنه لا يعرف عنه شيئا ومنذ وقت طويل، وبأنه قد تبرّأ منه ومن أفعاله تماما.
____________
الأيام التي سبقت رحيلنا أنا والعائلة إلى بيت الضاحية الجديد، كان والد عبّاس قد شرع يُعدّ لشيء ما على سطح منزله المجاور لنا، جلب إليه فوضى هياكل خشبية وأقفاص، ومعلف صغير من التوتياء، وراح يعمل عليها بجهد وصخب ملحوظين. 
يعاونه “سعدي” في الخروج من تلك الفوضى، بينما أم “عبّاس” التي بدت في ذبولها الأخير، منهكة، حزينة وقلقه، على مصير ولدها الأكبر، تتكوّم في الركن المقابل، متكدّرة وساهمة، تسند خدّها بيدها لساعات. “سعدي” الشقيق الأصغر لعبّاس والذي كان مختلفا تماما عن شقيقه الأكبر، منذ نشأته، يندفع يقبّل رأسها في شفقة، ثم يعود إلى والده لينهمك معه في تلك الفوضى من جديد.
بعد رحيل “عبّاس” حظي “سعدي” باهتمام غير عادي ومتابعة صارمة من والديه، بدءاً بمظهره العام، وانتهاءً باختياره الدقيق لرفاقه في الحيّ والمدرسة. كنتُ أحظى بثقته، لكنه لم يبح لي بشيء، حول “عباس”، مصيره، أو بما أرتكبه من جرائم مؤخراً، بدا في حيرة مما يفعله والده أكثر منّي..! 
سألت والدي في يومنا الأخير حول ما يفعله والد عبّاس فلم يجب ونهرني: يكفي تلصصاً على الجيران، ما شأننا نحن؟
أم عبّاس أفضت لأمي في وداعها الأخير، بمرارة: يظنُّ بأن البرج إذا ما تم تشييده من جديد، فسوف يعيد لنا “عبّاس”، أو يُبقي لنا “سعدي” على الأقل، هو لا يدري ما يفعل، الله كريم.
يمرّ دهر طويل، بعد الرحيل ويسدل الزمن ستارته الثقيلة فوق الأماكن لتغدو بعيدة في الذهن، حين تمسي وراءنا. كل الوقائع ستغدو قديمة وباهتة، تتلاشى مع الوقت وتسقط في حفر النسيان. 
عرّجت على حيّنا بعد سنوات طويلة، أخذني الحنين إلى زقاق بيتنا القديم، كان الوقت مساءً، في الفسحة الضيقة، تجمهر نفر غفير على غير ما توقعت، كانت صرخاتهم غاضبة أعادت إلى ذهني بفوضاها ذكرى قديمة، أخذت أصواتهم تتردد وتعلو في الزقاق، وتحديدا، أمام بيت “أبو عبّاس”، اقتربت أكثر، أطل شاب عن السطح، بلحية كثيفة وشعر مجعّد، كانت ذراعاه تغصان بأوشام خضراء، غريبة، صاح بهم في تحد: أغربوا عني الآن، وسوف نسوي الأمر غدا، كالعادة، هذا الحمام ليس لأحد بعينه، ثم أن “الكشّة” لم تنته بعد!
خرج رجل أشيب، بدا مغلوبا على أمره، وهو يبتلع ريقه بصعوبة، ويسترضي الغاضبين بعبارات مرتجلة، عرفته على الفور رغم غمامة الزمن الثقيلة، “أبو عبّاس” … 
لكنني لم أعرف الشاب على السطح، ذلك الغريب بأوشامه، ومظهره ونبرة صوته.
حين تفرّق الجميع، بقيت أنا، حملق الرجل الأشيب في وجهي مستفسراً، بادرته: فقط الشاب الآخر على السطح، من هو؟ نظر إليّ باستهجان عميق، وأجاب بنصف وعي: وهل هناك من لا يعرف “سعدي”!؟ “سعدي… شين. شين. كاف” شيخ شباب كشّاشي حمام البلد..!!
صفق الباب في وجهي بلا وعي هذه المرة، واختفى…
بقيتُ لسنوات أعرّج على حيّنا القديم، وزقاقه المنسي، لكني لم أره بعدها أو أسمع عنه شيئا، حتى يومنا هذا.
_______________________ 
*قاص من الأردن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *