*انطوان أبو زيد
أومبرتو إيكو الذي رحل في الأيام الأخيرة الماضية كان عالم سيمياء بالقدر الذي كان فيه مفكراً باللغة وروائياً. في شتى نشاطاته كان أومبرتو إيكو طليعياً وإنسانوياً وكونياً وبقدر ما أدان التزمّت دعا إلى كتابة طلقة وحرة
لم يكن أومبرتو إيكو، الإيطاليّ المولود في أليساندريا، في العام (1932) لينتبه الى فداحة الالتباسات التي كانت لا تزال متداولة الى زمنه، في ما خصّ اللغة وصلتها بالواقع والتاريخ والأساطير والصراعات والحروب المدمّرة، إلاّ حين نبّهته الحرب (العالمية الثانية) وكان لا يزال فتى، الى لزوم انصرافه الى فكّ بعض ألغازها وإنزالها المنزلة التي تستحقّ. وكان له أن اختصّ، بداية انطلاقته بأدب القرون الوسطى وفلسفتها، ومنها فلسفة توما الكويني. وقد انفتحت للعالِم الشاب، منذئذ، أبواب كثيرة، والزمن أواسط الخمسينيات من القرن العشرين معرّض ضاجٌّ بإنجازات الألسنية الحديثة وفلسفتها الظواهراتية التي ترى إلى اللغة على أنها صنيعٌ ونتاجٌ لمجتمع وتاريخٍ من الأفكار وبنىً تعصى على الانفتاح إلّا لمن يمتلك مفاتيح هذه البنى ورموزها المخبوءة. فكان أول دراساته التي صدرت في كتاب، على التوالي، «الأثر، أو العمل المنفتح في العام 1962. وكان ذلك الكتاب مستهلّ إنجازات العالِم السيميائي Opera operta المنفتح وقد وضع فيه أولى نظرياته في مساهمة القارئ، قارئ العمل الشعري أو الموسيقيّ الفذّ والجديد الصادم، في اكتشاف بِناه العميقة، وانفتاح عالمه الدلالي، بعد استعصاء. وفي السياق نفسه، توالت أعمال إيكو، في السيميائيات النظرية، فأصدر كتابه المسمى «البنية الغائبة» بترجمته الفرنسية في العام 1972، وكان بمثابة تقصٍّ عميق للمنابع الإيديولوجية التي انبثقت منها مصطلحات علم السيميائية (أو الرموزية)، من مثل «عتبة السيمياء»، و«عالم الإشارة»، و«عالم المعنى»، و«المرجع»، و«نظام الرمز» أو «الكودة»، و«نظام الرموز البصرية» وإشكالية تحليلها، وسيميائية السينما والرسم المعاصر، وغيرها.
اسم الوردة
ولكنّ الكاتب والباحث السيميائي إيكو، ما كانت شخصيّته الموسوعية، وإنسانه الحاضر دومًا في الزمن، على قولة هايدغر، ليدعانه عديم الفعل والانفعال حيال الزمن الماضي وتشوّهاته، ولا سيّما الصراعات الفكرية والسياسية الناشبة بين فئات الإكليروس، أوائل القرن الرابع عشر في فرنسا، فكتب رواية «اسم الوردة «، وكانت إحدى روائعه التي لاقت رواجا قلّ نظيره في العالم، وبيعت منها 17 مليون نسخة، وترجمت الى ستّ وعشرين لغة، وأخرجت فيلما سينمائيا نال شهرة تعادل شهرة الرواية. ولا بأس بالإشارة إلى الحبكة الرئيسية في الرواية، وهي أن جريمة حصلت في أحد الأديرة، أوائل القرن الرابع عشر، في إحدى المقاطعات الفرنسية، وسط صراعٍ متمادٍ بين البابا المقيم في أفينيون، وبين أمبراطور ألمانيا الذي راح يبسط سلطانه على مقاطعات في إيطاليا. وتتوالى أحداث الرواية، في إطار من التشويق والرعب في آن، ما دام أنّ دعاة التزمّت، من الرهبان الفرنسيسكان، لم يتورّعوا عن تسميم صفحات كتاب أرسطو عن الضحك، وإزهاق أرواح الرهبان، إخوانهم في الرهبنة، في خلال حضور المرسل من قبَل البابا للتحقيق في الجريمة الأولى، الراهب «إدسو مِلك». ولا تنقضي الأيام السبعة، وهي الإطار الزمني ليوميات التحقيق التي يسجّلها الراهب إدسو، إلاّ وتتكشّف الوقائع عن مقتل سبعة رهبان، انتحارا وتسميما أو خنقا أو غيرها، ويتّضح إثرها أن الصراع الإيديولوجي والتزمّت الشديد، يضاف اليهما الجهل والغرائز العدوانية الكامنة في الإنسان كفيلة بتوليد الصراع المميت بين البشر، ولو بين الرهبان.
الروايات الأخرى التي كتبها إيكو، وان كانت لم تنل ما نالته اسم الوردة، فإنها حظيت بقراءة واهتمام بالغين، شأن رواية «بندولة فوكو» التي انصرف فيها الروائي الى بناء عالم باطنيّ، واستحضر في بنائه هذا أسطورة قروسطية، تدّعي بأنّ من يمتلك باطن الأرض يمتلك سطحها، وفقا لبعض الفرق الباطنية اليهودية والكبّالية . ثمّ كانت له رواية «كيف يسافر المرء مع السلمون»، وهي تقع في باب أدب التراسل المعاصر، ويروي فيها تفاصيل حياة مواطن من العالم في اضطراره الى التعامل مع كلّ مظاهره الطارئة من مثل: كيف يصير المرء فارسا مالطيا، وكيف يتجنّب الأمراض المعدية، وكيف يدرك ديانة الكومبيوتر وكيف يكون المرء هنديا، و كيف يسافر مع سمك السلمون،غيرها..
السيمياء
ولكنّ اللافت الأهمّ برأي النقاد، في العالم الذي يعرفه حقّ معرفة، أنّ إيكو كان بارعًا ومبدعًا في كلّ ما كتب ودرس وجال في بحث أو أماط اللثام عن ظاهرة فكرية أو اجتماعية كانت قيد الظهور في مجتمعه. وبالعودة الى أبحاثه في السيمياء النّظرية التي كرّس لها قسطًا كبيرًا من حياته، يسعنا القول إنه لم يترك مجالا متّصلا بالسيمياء النظرية، والسيمياء (أو الرموزية) الأدبية إلاّ وتطرّق اليه؛ فكان له «العلامة»، بمعنى «معارضات ومصطنعات»؛ عالج في الأول تاريخ مصطلح العلامة Pastiches et postiches ثم في مدوّنة الفلسفة الحديثة، منذ القديس أوغسطينوس الى القرن العشرين، ومكانة العلامة في نظريات السيمياء اللغوية، والرموزية العامة (سوسور) باعتبار ان اللغة، بحسب الأخير هي نظام داخل أنظمة رموز عديدة، طرقية، وتداولية، ولونية وغيرها. أما الثاني فعالج فيه إيكو مظاهر التقليد والتزييف في الأدب والفنون، باسطا زمن المعالجة الى وقته، ممازحا في تقليد خطاب الطلاب الجامعيين وأساتذتهم، لاعبا بالأساليب الكتابية والأنواع بمهارة فائقة. أما كتابه «حدود التأويل» (1992) فيرسم فيه الحدود المضبوطة بين تأويل، في النقد، يطابق واقع النص الأدبي مطابقة موضوعية، وبعيدا عن الهوى كما يقول الجرجاني، وبين تأويل يسقط فيه المؤوّل انطباعاته أو إيديولوجيته على النص، أو يبالغ في تحليله. ذلك أنّ ثمة معيارًا مهمّا من معايير التأويل وهو النظر الى العمل الأدبي على أنه مكوّن من عوالم صغيرة أو شبيهة بالعالم الحقيقي، من مثل عوالم ذات صدقية عالية، وعوالم ذات مرجعية متخيّلة، وعوالم ممكنة رغم افتقادها الى الصدقية، وعوالم عصية على التطوّر.. الخ. بيد أن كتابه «القارئ في الحكاية» (Lector in fabula) (1979) والذي كان لنا الحظّ في ترجمته الى العربية، في العام 1996، عن دار المركز الثقافي العربي،فكان إسهامًا بيّنًا في إعداد منهجية سيميائية، يستثمر فيها الباحث كلّ المصطلحات والكشوفات في الدراسات النصية الأدبية، ليخرج بتصوّر بنّاء في ما يسمى بنظريات التلقّي، حول إسهام القارئ ذي المعرفة الموسوعية في الحكم على الوقائع الجارية في النص السردي (قصة ألفونس أَلّيه).
اللغة الكاملة
ولم يقف جهد العلاّمة الموسوعيّ إيكو عند هذا الحدّ (له ستون كتابا وعشرات المقالات)، بل رأيناه مسائلا الفكر ولا سيّما الفكر اللساني، في مسألة قديمة للغاية، وعنيتُ بها اللغة الكاملة التي لطالما اعتدّت بها بعض الشعوب، ولا سيّما الشعب اليهودي بادّعائهم العبرية اللغة الأكمل بين نظيراتها في العالم. وكان الكتاب بعنوان «البحث عن اللغة الكاملة»، والذي أفضى به الى اليقين بأنّ مقابل العصبية للغة القومية من قبل الناطقين بلسانها (العبرانية، اللاتينية، الإيطالية،..)، نهض المفكّرون المتنوّرون في التاسع عشر الى الدفاع عن التعدد في اللغات، واعتبارها اصطلاحية، وابتداع لغات تكون وسائل طيّعة في متناول الجميع.أما خاتمة الكتاب، ومآل البحث عن اللغة الكاملة هذه، فلم يجد إيكو خيرَ معبّر عنها سوى ما قاله ابن جنّي: «إنّ الله سبحانه علّمَ آدمَ أسماءَ جميعِ المخلوقات بجميعِ اللغات،العربية، والفارسية، والسريانية، والعبرانية، والرومية، وغير ذلك من سائر اللغات، فكانَ آدمُ وولدُهُ يتكلّمونَ بها، ثمَّ إنّ ولدَهُ تفرّقوا في الدّنيا، وعلِقَ كلّ منهم بلغةٍ من تلك اللغات…». فإذا ما اقتدى الأوروبيون بهذا المثال الآتي من بعيد، على وصف إيكو، ضمنوا انتقال إرث التواصل بين الشعوب وتجاوزوا القوميات والعصبيات، وثابروا على رعاية سمة الكونية في مخاطبة شعوب الأرض.
وبعد، ألم يستحقّ اومبرتو إيكو أن يكون مستشارا أولَ للإتحاد الأوروبي عشية إنشائه، حريصا على حفظ الثراء الحضاري بين شعوبه، من غير شعور بالدونية ولا بالتعالي حيال الحضارات القريبة، ولا سيما الحضارة العربية الإسلامية؟
وعلى الرغم من سوء حالنا، نحن الشعوب العربية، وانقطاعنا المأساوي عن تراثنا الإنساني التنويري البعيد عنا زمنا، والنهضوي الحداثوي القريب، فإنّ أفول مفكّر غربيّ باهر بحضوره ونتاجه الذي تركه للبشرية جمعاء، كـ أومبرتو إيكو، لا بدّ أن يطرح على ضمير كلّ مفكّر عربيّ أو عامل في سبيل اللغة أو التربية، أو الفكر، أو الأدب، أو مساءلة المجتمع وبنياته، عن مقدار ما أنتجه لصالح نفسه وعلمه بالمقام الأول، ولصالح غيره وبيئته القريبة والبعيدة، ومن دون مبالغة!
____
*السفير الثقافي