يوميات أوسنابروك


*أدونيس


ـ 1 ـ
شجاعة الفكر
في هذه المرحلة العربية الرّاهنة التي يهيمن عليها التنابذ والعنف، يمكن أن تكون صفة الشجاعة أجمل الصّفات التي تُطلَق على الفكر والمفكِّر. فالفكر في هذه المرحلة يجب أن يكون مسكوناً بالشجاعة، شجاعة اختراق الظّلمات المتنوِّعة للتعبير عن الحقيقة.
وتلك هي المزية الأساسيّة في فكر الرّاحل الكبير محمد حسنين هيكل. فهو نوعٌ من النّضال الثّقافيّ الرّفيع من أجل مزيد من العلوّ الإنسانيّ. فكرٌ قائمٌ على شجاعة القول، إنّ العرب لن يكون لهم مكانٌ في مستقبل الإبداعات البشرية، إلا بالقطيعة الكاملة مع كلّ ما هو مُنغلق ومُتخلِّف وطغيانيّ.
أعرف أنّ الفكر الشُّجاع يغامر دائماً في أن يفقد مكانه وفي أن يُهَمَّش ويُطمَس. ففي مثل هذه المراحل لا تُفتَح الأمكنة إلا لمن يتعصّب ويتحزّب.
أحيي محمد حسنين هيكل في صعوده جبل الحقيقة كما لو أنه كان يصعد جبلاً من النّار.
ـ 2 ـ
هل الإنسانُ العربيّ هو الطّائرُ الوحيد
الذي يكْرَه جناحيه ؟
ـ 3 ـ
أعماقُ الصحراء نشيدٌ دائمٌ
في مدح الغابة،
أعماقُ الغابة نشيدٌ دائمٌ
في مدح الصحراء:
المديحُ فنُّ الطّبيعة الأوّل احتفاءً بالإنسان.
ـ 4 ـ
تمتلىء الحياةُ الثّقافيّةُ العربيّةُ بكتّابٍ
يفكّرون ويكتبون ويعملون كأنّهم في هذا كلّه،
كمثل من يُطالِبُ القمحَ
بأن يهضمَ مَعِدَةَ النّمل.
ـ 5 ـ
ثمّةَ زواجُ مِتْعةٍ
بين الحبر واللغة من أجل إنجاب
كائناتٍ لا تموتُ تُسمّى الصُّوَر.
ـ 6 ـ
بشرٌ يموتون لغايةٍ واحدة :
أن يصبحوا بعد موتهم، أحياء إلى الأبد.
ـ 7 ـ
حارسُ الأجنحة القديمُ،
يضعُ على رأسه قبّعةً
في شكل بندقيّةٍ حديثة.
ـ 8 ـ
حصانٌ طَلْقٌ
يُربَطُ بآخرَ مقيَّد :
أهذه هي ثقافةُ الحداثة العربيّة؟
ـ 9 ـ
من زَمَنٍ،
لم أسْتَرِقِ السّمْعَ إلى الكواكب
وهي تتحدّثُ في إصْطَبْلٍ حديثٍ للتاريخ،
مع آلات المستقبل،
وفرسانها الإلكترونيّة.
ـ 10 ـ
غالباً، يحبُّ الكلامُ العربيّ
أن يقلِّدَ أهلَ الكهف،
غير أنّه أحياناً، يحبّ أن ينزلَ
ضيفاً دائماً على حِرباءِِ المعنى.
ـ 11 ـ
يعيشانِ معاً،
لكن لا يعرف أحدُهما الآخر،
إلاّ إذا وضع قناعاً.
ـ 12 ـ
أظنُّ أنّنا لم نبدأ بعد، نحن العرب،
سيرَنا على دَرْب الآلام.
تلك التي عرفناها لم تكنْ إلاّ
إعداداً واختباراً لجهاز الهضم الكونيّ
الذي يسهر علينا ويرعانا.
ـ 13 ـ
لا أحبّ هذا الزّمن،
لكن لا أحبّ أن أقتله بعصا «الأبديّة».
ـ 14 ـ
الزّمنُ خيّاطٌ يُعنى، على نحوٍ خاصّ،
بالقمصان التي يخيطُها للأجسام العربيّة.
غيرَ أنّ الخيوطَ التي يستخدمها مقدودَةٌ من الصّخر.
والعجَبُ أنّ هذه الأجسامَ
لم تقُلْ مرّةً واحدةً: لا.
ـ 15 ـ
ليس لديَّ أيُّ بُرْهانٍ
على أنّ الحروبَ الطّاحنةَ
بين أيّام الجمعة والسّبت والأحَد
ستتوقّف غداً أو بعده.
ـ 16 ـ
كيف أتعلَّمُ شجاعةَ الحُباحِبِ
الذي يحمل النّارَ بين جناحَيه الصّغيرين؟
ـ 17 ـ
ليس لذلك الكوكب الذي أودّعه الآن،
إلاّ ابنةٌ واحدةٌ تزوّجت، أمسِ.
ـ 18 ـ
يقترحُ الرّبيعُ أشجاراً ترفضها الحقول،
والسّببُ، كما تقول،
هو أنّه لا يعرفُ أسماءَها.
ـ 19 ـ
ما الموسيقى المشتركة
بين لغة «الخُلْدِ « في الأرض،
ولغة «الخلْدِ» في السّماء؟
ـ 20 ـ
لا يتعرّى الشّجر
ولا يلبس ثيابَهُ
إلاّ بأمرٍ من الفصول.
ـ 21 ـ
ما أبْرعَه !
يستخدم ذيْلَ العصفور دليلاً
للبحثِ عن ذيل القطّ.
ـ 22 ـ
ماذا أرى؟
أهو نملٌ يتجيَّشُ
لكي يلتهمَ كبِدَ الأرض؟
هل هذا واقعٌ،
أم أنّه أضغاثُ كابوس؟
ـ 23 ـ
ماذا أرى؟ ماذا أسمع؟
طفلٌ يبكــي وحـيداً وإلـــى جانبه وردةٌ
تركتها أمُّه في سريره
قبل أن تذهب إلى عملها.
الوردةُ تبكي هي أيضاً.
ـ 24 ـ
«سالَ عسَلُ التاريخ على مائدة الحاكم»:
قال شاهِدٌ حيّ.
غيرَ أنّ الموتى انتفضوا في قبورهم صائحين:
هذا أمرٌ لم نسمع به أبداً ولم نشاهِدْه.
ـ 25 ـ
ليس لديهم إلاّ خطواتهم،
لكن ليس لخطواتهم أيّة طريق :
حصارٌ «ذاتيّ»، أم «عبوديّةٌ مختارة»؟
ـ 26 ـ
فكّتِ الأرضُ أزرارَها
احتفاءً بمطَرٍ لا ينزل من جرارِ الغيوم:
ينزل من غيومِ البكاء.
ـ 27 ـ
ضاعَ «الرّبيعُ العربيّ»،
أمسِ رأيتُ الرّبيعَ يدخلُ
إلى محكمة الفصول،
لكي يُغيِّرَ اسْمَهُ.
ـ 28 ـ
كنتُ أُقدِّرُهُ وأنتظرُ له مستقبلاً زاهراً وزاخِراً،
وأمسِ سمعتُ
أنّه مات مسموماً
بماء بئـــرٍ كــــان قد حفرها أمام بيته.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *