*الدكتور بليغ حمدي إسماعيل
خاص ( ثقافات )
وَكُنْ نَرْجِسِيًّا إذَا لَزِمَ الأمْرُ ..
الوُجُوهُ تَتَعَدَّدُ :
يمثل محمود درويش حالة استثنائية في تاريخ الشعر المعاصر، ويعد كقامة شعرية متفردة نموذجاً مباشراً لخصوصية القصيدة في تفاصيلها التي سرعان ما تتحول إلى مزاجاً عاماً لمريدي الشعر بصفة خاصة وللثائرين والعاشقين ، والرافضين لنظمهم السياسية الطاغية بصفة عامة ، لذا فإن متعة تناول سيرة وأشعار محمود درويش تتأتى من رصد حالته الشعرية وتجربته داخل القصيدة التي يصر أن يكون فيها حاضراً بغير غيابٍ ، وربطها بواقع تجعل القارئ يعيش يومياته المتأرجحة بين الثورة والعشق والرفض واسترجاع ذكرياته.
وتفرد درويش لم يتحقق من تفرد حالته التاريخية بوصفه مواطناً فلسطينياً يعاني وشعبه من الطغيان الصهيوني فحسب ، بل إن حالة التفرد تلك تحققت من خلال لغة رمزية مسكونة بالدلالات التي لا تنقضي، فالقصيدة الدرويشية تشبه بالرسم الجرافيتي الذي يعبر عن حالة راهنة تستدعي المشاركة والتعاطف معها وهذا سر من أسرار تفرد قصيدته ، بجانب أن محمود درويش كان حريصاً على أن يجعل كل حالات الغياب حضوراً مشهوداً ليس مستحيلاً ، ومن ثم يستطيع القارئ والمتابع لنصه أن يكون حضوره القرائي موجوداً بالقصيدة بغير ملل أو كلل. كما أن هذا التفرد الشعري سُجِّلَ حصرياً باسم محمود درويش لاستباقه المعاصر ـ حيث إن شاعر العربية الأول أحمد أبي الطيب المتنبي صاحب السبق الأول ـ في طرح نفسه عبر سياقه الشعري وهو ما يستقرئ منذ ديوانه الأول ” عصافير بلا أجنحة ” 1960م، انتهاءً بديوانه ” لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي” ، مروراً بدواوين شعرية تتناص فيها صورة الشاعر الشخصية بالهم الوطني القومي.
وليس بغريب أن تتعدد وجوه محمود درويش الشعرية إذا ما رجعنا إلى بدايات التكوين مروراً بمراحل تقعيد وتكريس القصيدة لديه ، فالبدايات عند محمود درويش تبرهن على هذا التعدد ومزية التنوع في قصيدته التي تجعله شاعراً مرغوباً لدى قارئه بتعدد وتنوع حالاته ووجوهه هو أيضاً. فبين بدايات شبيهة بالنص الشعري عند نزار قباني وبدر شاكر السياب مروراً بالنصوص المباشرة لعبد الوهاب البياتي وأدونيس حينما كان غير مضلل بنصه المغاير لطبيعة اللغة ، انتهاء بصور شعرية ترصد حالات ومقامات كشعر أحمد أبي الطيب المتنبي، نجد محمود درويش يصنع لنفسه كرسياً في ديوان الشعر العربي حتى يكاد بعض النقاد المتأخرين يصفونه بأنه الوريث الشرعي للقصيدة العربية من أجل حفاظه على تنوع الشعر واختلاف أغراضه والتمسك برصانة قواعده مع السماح لبعض التجاوز الشعري الذي يضمن للقصيدة معاصرتها ومطابقتها لمقتضى الحال كما يزعم البلاغيون القدماء.
وهذه الوراثة الشعرية الشرعية لمحمود درويش هي التي مكنته من أن يمتلك خصوصية الشهادة الشعرية للتاريخ المعاصر ، فإذا كنا قد نذهب بالرأي بأن أدونيس هو المالك الحصري للقصيدة في تنوعاتها الفلسفية المعاصرة، فإن محمود درويش بحق هو مؤرخ الواقع الإنساني شعرياً ، لأنه بإيجاز استطاع رسم خارطة شعرية ممتدة ترصد حالات متباينة مثل تباين المناخات والطقس فيمكنك أن تلتمس واقعك الاجتماعي أو السياسي أو الشخصي من خلال التماس تلك الحالة من القصيدة نفسها.
الثَّوْرَةُ حُضُوْرٌ عَبْرَ الشِّعْرِ:
لم يكن غريباً التحاف الثوار بدول الربيع العربي مصر وتونس وليبيا وأخيرا سورياً بديوان محمود درويش ، ولم تكن تلك الصور والمشاهدات التي رأينا من إلقاء شعري لبعض قصائده التحريضية على الأنظمة السياسية الفاسدة إلا توثيقاً تاريخياً لهؤلاء الثوار على نزاهة ونقاء قضيتهم الثورية ، بل يمكننا الزعم بأن قصائد محمود درويش التحريضية الثورية وإن كانت فلسطينية الرائحة والتوجه إلا أنها كانت باعثاً قوياً لفورة الثائرين وشحذ عزائمهم باعتبار أن الثورات العربية في بدايتها كانت ياسميناً تارة وبيضاءَ تارة أخرى وهي بذلك تشبه القصيدة الدرويشية التي يمثل فيها العطر واللون ملمحين رئيسان فيها.
(نم ، يا حبيبي ، ساعة ً
حتى يعود الروم ، حتى نطرد الحراس عن أسوار قلعتنا
وتنكســــــر الصــــــواري
كي نصفق لاغتصاب نسائنا في شارع الشرف التجاري
نم يا حبيبي ساعة ً حتى نموت
هي ساعة للانهيار
هي ساعة لوضوحنا
هي ساعة لغموض ميلاد النهار
كم كنت وحــــدك ، يا ابن أمّي
يا ابن أكثر من أب ٍ
كم كنت وحـــــدكْ)
ويعود الشاعر التحريضي بوجهه المباشر غير المقنع ليحرض على الثورة وإن كانت القصيدة كما أوضحنا تحمل رائحة وطعم ولون التراب الفلسطيني لكن ما فلسطين إلا صورة رمزية لشتى البقاع العربية التي تمارس عليها الأنظمة العربية السياسية كل صنوف وفنون الفساد والطغيان السياسي غير المشروط :
(وضعوا على فمه السلاسل
ربطوا يديه بصخرة الموتى ،
و قالوا : أنت قاتل
أخذوا طعامه و الملابس و البيارق
ورموه في زنزانة الموتى ،
وقالوا : أنت سارق
طردوه من كل المرافيء
أخذوا حبيبته الصغيرة ،
ثم قالوا : أنت لاجيء
يا دامي العينين و الكفين
إن الليل زائل
لا غرفة التوقيف باقية
و لا زرد السلاسل
نيرون مات ، ولم تمت روما
بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل)
وإذا أردت أن تكتشف ماهية الثورة ودلالتها ودور محمود درويش التحريضي عليها فعلى القارئ دوماً أن يتجه إلى مواضعة (الولادة) لغة واصطلاحاً شعرياً درويشياً داخل ديوانه ، فلفظة الولادة التي يصر محمود درويش على استخدامها الحصري لها هي معادل موضوعي لمفهوم الثورة والخروج الشرعي على الحكم السياسي غير الشرعي ، والولادة داخل القصيدة تحمل دلالات متعددة كتعدد وجوه محمود درويش الشعرية نفسها ، فهي تشير إلى ثورة آتية ، أو رمزاً تاريخياً يحمل استشرافاً مؤقتاً للمستقبل:
(كانت أشجار التين
و أبوك..
و كوخ الطين
و عيون الفلاحين
تبكي في تشرين!
_المولود صبي
ثالثهم..
و الثدي شحيح
و الريح
ذرت أوراق التين !
حزنت قارئة الرمل
وروت لي،
همسا،
هذا الغضن حزين !
_يا أمي
جاوزت العشرين
فدعي الهمّ، و نامي!
إن قصفت عاصفة
في تشرين..
ثالثهم..
فجذور التين
راسخة في الصخر.. و في الطين
تعطيك غصونا أخرى..
و غصون! )…
**************************
دَرْوِيْشُ ولَذَّةُ الحَكْيِ:
عندما تتعانق الطبيعة متمثلة في الأرض وأنهارها المطلة على النوافذ العربية المسكونة بالحيرة والقلق وتوجس انتظار الغائب ، تظهر قامة الشاعر الفلسطيني المبدع محمود درويش الذي تزامنت ذكرى وفاته منذ سنتين الشهر قبل المنصرم. والشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي رحل عن دنيانا وهو يحلم بوطن فلسطيني على أرض عربية ، غادر الحياة وفارقها بعد صمت طويل من الحكام العرب تجاه قضية وطنه ، وسقوط بعض الأنظمة العربية وقت تهاوي سياساتها تجاه النخبة والقصيدة، وبعد انحسار مستدام للنخوة العربية التي لا نجدها إلا في مدرجات كرة القدم .
ومشروع القصيدة عند محمود درويش في مجمله الذي تحتفي هذه السطور القليلة بشعره يمكن أن نرصده في ملامح متمايزة ومحددة ، أهمها ملمح الحرية، فكل من يقترب نحو شعر محمود درويش يدرك حقيقة الحرية التي حرص عليها وعلى نشرها بين المواطن العربي وإخوته وعشيرته. بالإضافة إلى ملمح آخر مهم في المشروع الشعري لدى محمود درويش هو الإنسانية ، لذا من الأحرى على أولئك الذين تعاملوا مع شعره من منظور نقدي مجرد أن يتخلوا عن الأسس النقدية الجامدة ويعلوا القيم الإنسانية من جانب الحكمة الشعرية ” وداوني بالتي كانت هي الداء” .
لذا فالرائي للمشروع الشعري العام له والخاص لدرويش يستطيع استقراء حالة العناق بين الإنسان ومفردات الطبيعة لاسيما المسكونة بالحركة وإن كانت من كنهها السكون والجمود كالتراب والحصى والضلوع والأرصفة الصامتة ، إلا أنها تتسق مع عناصر أكثر حرية وحركة كالعصافير والشجر : ينظم درويش :
” أسمي التراب امتداً لروحي
أسمي يدي رصيف الجروح
أسمي الحصى أجنحة
أسمي العصافير لوزاً وتين
أسمي ضلوعي شجر
وأستل من تينة الصدر غصناً” .
ولعل درويش في قصيدته المتفردة ” فكر بغيرك ” ، يحاول أن يرسم لوحة تضامنية تجسد مشاعر المواطن العربي تجاه أخيه المفترش الأرض دونما غطاء ، بل هو يسعى إلى أن يعري واقعاً ممتقعاً يمارس فيه المواطن البعيد عن سطوة الاحتلال كل أنواع رفاهية العيش ، وهنا لا يكتف محمود درويش بدور المحرض فقط ، بل يثير حفيظة ذلك المواطن تجاه ما يعانيه الفلسطيني المغتصبة حقوقه وأرضه وعرضه ، بل وربما أحلامه أيضاً.
” وأنتَ تُعِد فطورك، فكر بغيركَ
لا تَنْسَ قوتَ الحمام
وأنتَ تخوضُ حروبكَ، فكر بغيركَ
لا تنس مَنْ يطلبون السلام
وأنتَ تسدد فاتورةَ الماء، فكر بغيركَ
مَنْ يرضَعُون الغمام
وأنتَ تعودُ إلى البيت، بيتكَ، فكر بغيركَ
لا تنس شعب الخيامْ
وأنت تنام وتُحصي الكواكبَ، فكر بغيركَ
ثمّةَ مَنْ لم يجد حيّزاً للمنام
وأنت تحرّر نفسك بالاستعارات، فكر بغيركَ
مَنْ فقدوا حقهم في الكلام
وأنت تفكر بالآخرين البعيدين، فكر بنفسك
قُلْ: ليتني شمعةُ في الظلام” .
فها هو ذا الشاعر المحرض دوماً يدغدغ مشاعر المواطن العربي المنعم بالرفاهية بعيداً عن أصوات القنابل والرصاص وفوهات البنادق ، ويحرضه أن يشارك مواطنه الفلسطيني همومه ويتقاسم معه قدراً من المعاناة اليومية ، لا أن يكتفي بترديد التعاطف والمشاركة الوجدانية فقط ، والقصيدة رغم قصرها إلا أنها اختزلت الحقوق الرئيسة التي يحلم بها المواطن الفلسطيني مثل حقوق الطعام ، والشراب ، والبيت ، بل يتجاوز محمود درويش خطوط قصيدته لينبه على ما امتلكته الأمة العربية من جماليات لغوية كالاستعارات والتشبيهات والكناية والمجاز المرسل والفصل والوصل ، وكل الأبواب البلاغية التي امتلأت بها المؤلفات العربية ، ورغم ذلك فإن الطفل والرجل والمرأة والشيخ بالأراضي الفلسطينية المحتلة قد فقدوا جميعاً حقهم في الكلام.
ويظل محمود درويش مرتبطا بالفكر القومي ، ترتفع معه فنيا ومعنوياً مضامين قصائده ، كما تنخفض معه أيضاً ، فهو مؤشر واضح وصادق لإيجابيات وسلبيات المرحلة، فهو يندد بالظلم الواقع على المواطن العربي في بلاده العربية ، ونجده يرثي بغداد والعراق حينما تتحول إلى أراض غريبة مستهجنة ، تعاني قمع الاغتراب والتنوع الديني والعرقي الذي يمزقها ويفتتها أشلاء متناثرة يصعب تجميعها في نسيج واحد. وهو في هذا العناق الأيديولوجي بالفكر القومي نجده مصراً على التواجد الفعال لعناصر الطبيعة من خلال مفردات بعينها كالنسر مثلاً :
” أنا آت إلى ظل عينيك آت
مثل نسر يبيعون ريش جناحه
ويبيعون نار جراحه
بقناع .. وباعوا الوطن
بعصا يكسرون بها كلمات المغني
وقالوا : اذبحوا واذبحوا..
ثم قالوا : هي الحرب كر وفر” .
ثم نجده تارة أخرى مشيراً إلى خطر الحكم الباطش الذي يكون الفرد مسوقاً لا إرادة له ، مشيراً إلى تلازم هذا البطش والانتكاسات القومية والوطنية ،هذا التلازم يجعله مضطراً لاستخدام آليات لغوية (مفردات وتراكيب ) تشير إلى سطوة القيد ومحاولة الفكاك منهن ولعل قصيدته المشهورة ” الأرض ” هي خير نموذج للتأكيد على الملمح القومي والوطني بمؤشراته في مشروعه الشعري .
” هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة
هذا نشيدي
وهذا خروج المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل النبات يغطي مساميره وقيودي
وهذا نشيدي
وهذا صعود الفتى العربي إلى الحلم والقدس ” .
****************
أنَا أرْفُضُ .. إذاً أنا مَوْجُودٌ:
ولعل السمة الأكثر وضوحاً وتميزاً في قصيدة محمود درويش هي سمة الرفض ، والرفض عنده رفض سياسي سرعان ما يستطيع تطويعه داخل النص ليصبح رفضاً اجتماعياً لكل ما هو مغتصب غير مكتسب بفعل التجربة ومحك المحاولة والخطأ، وتراه مجتهداً في تمزيق عباءة الانكسارات العربية. لذا فإن قصيدة محمود درويش لم تجئ تعبيراً عن رفض الهزيمة العربية في يونيو 1967 فحسب ، ولكن جاءت أيضاً تعبيراً عن رفض الاحتلال الإسرائيلي منذ بدايته وكشفاً لوجه جديد لم يعرفه العرب والعالم ، عن أشكال المقاومة العربية داخل أسوار السجون الإسرائيلية .
وتمتاز القصيدة الدرويشية بسمة البعد عن اليأس والهزيمة ، رغم أن الحالتين رهن اليقين ، بل إن مشروع محمود درويش الشعري حاضن حقيقي لهاتين الحالتين بل يعد ديوان محمود درويش الشعري هو أبرز تجليات يأس المحاولة لتغيير الواقع السياسي بصورة أفضل ، وهزيمة الإرادة الجماعية لنصرة قضيته الفلسطينية التي سرعان ما تحولت داخل مشروعه الشعري من حالة ذات خصوصية إلى معركة إنسانية عامة، ورغم العصافير التي تفر من قبضته على حد وصفه في قصيدته ” لا جدران للزنزانة ” إلا أن مجمل قصيدته دائماً ما تشع بالأمل في الانتصار المحتوم ، وربما تأتي هذه المزية من أن شاعرنا ينطلق من موقع النضال الحقيقي والعملي ضد الاحتلال، حيث القصيدة التي تفضح جرائم الاحتلال ، وتكشف دونما حماقة عن بشاعة ما يتعرض له الناس تحت الحكم الإسرائيلي ، ولعل محمود درويش امتاز عن شعراء جيله في أنه لم يسجل موقفاً ، ولم يكتف بالإدانة والشجب السلبي ، ولكنه يثير فعلاً ، إنه يحرض على المقاومة ، بل وقصيدته نفسها تعتبر منشوراً سرياً يفرض على المواطن العربي تنفيذ ما جاء به من أوامر وتعليمات ، لذا فالقصيدة محرضة ، وصاحبها محرض على المقاومة، وإن شئت فقل إن محمود درويش يطلق رصاصة تحت اسم القصيدة.
(” أنا الأرض..
يا أيها الذاهبون إلى حبة القمح في مهدها
احرثوا جسدي !
أيها الذاهبون إلى جبل النار
مروا على جسدي
أيها الذاهبون إلى صخرة القدس
مروا على جسدي
أيها العابرون على جسدي
لن تمروا
أنا الأرض في جسد
لن تمروا
أنا الأرض في صحوها
لن تمروا… ” ).
********************
الغَائِبُ حِينَمَا يَصيْرُ أكْثَرَ حُضورَاً:
قد لا يجد المرء حيرة وهو يعتزم قراراً بالحديث عن محمود درويش ، لأنه بغير وعي سيتجه طواعية نحو قصيدته المطولة ” جدارية ” والتي زين بها عباءة الشعر العربي منذ المهلهل بن أبي ربيعة مروراً بالقامات الشعرية الكبيرة في تراثنا الشعري ، فالجدارية باختصار دقيق تعد دليل التشغيل لمشروع درويش الشعري ، وسيرة ذاتية للشاعر نفسه تركها لنا بعد رحيله كي نستبين شعره ومشروع قصيدته .فلقد نظم محمود درويش جداريته وكأنه يعلن بيانه الختامي ، رغم أنه أعقبها بقصائد ودواوين أخرى ، لكنه أراد أن يكون ما تمنى أن يريده في الماضي ؛ فكرةً ، وطائراً ، وشاعراً ، وكرمة ، ولغةً . ووصف أبجديته التي عاشها شاعراً ملأ الدنيا وشغل الناس ، فكان غريباً ، ورسولاً ورسالة ً ، وحواراً للحالمين ، وسماوياً ، وغياباً ، وطريداً.
(” سأصير يوماً طائراً ، وأسل من عدمي
وجودي . كلما احترق الجناحان
اقتربت من الحقيقة ، وانبعثت من
الرماد . أنا حوار الحالمين ” .
ويقول في جداريته :
” سأصير يوماً شاعراً ،
والماء رهن بصيرتي . لغتي مجاز
للمجاز ، فلا أقول ولا أشير
إلى مكان . فالمكان خطيئتي وذريعتي ” ).
فالجدارية وثيقة مهمة لتأريخ القصيدة عند محمود درويش فهو يسعى بها لأن يكون حاضراً طيلة الوقت بين قرائه ، ولأن يكون شديد الثقة لديهم حينما يهرعون لديوانه بعد موته وهذا ما تحقق بالفعل لأنه لا يرصد حالته الإنسانية فحسب ، بل يكرس للصوت الإنساني العام الذي يأمل بقدر ما يعاني ، ويحلم بالقدر الذي يحرم فيه من كل مظان الحياة الكريمة من حرية وعدالة ووجود كريم .
وفي الوقت الذي يسعى فيه محمود درويش إلى تأسيس شخصي له داخل تاريخ القصيدة العربية لم يكن يعلم أنه يحتفل بغيابه أولاً ، وبجدلية العلاقة المطردة بين الموت والحياة :
(وكُلُّ شيء أَبيضُ ،
البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامةٍ
بيضاءَ . والَّلا شيء أَبيضُ في
سماء المُطْلَق البيضاءِ . كُنْتُ ، ولم
أَكُنْ . فأنا وحيدٌ في نواحي هذه
الأَبديَّة البيضاء . جئتُ قُبَيْل ميعادي
فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي :
ماذا فعلتَ ، هناك ، في الدنيا ؟
ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ ، ولا
أَنينَ الخاطئينَ ، أَنا وحيدٌ في البياض ،
أَنا وحيدُ … )
والجدارية تمثل في مجملها خطاباً إلى الموت بدلالته الفلسفية لا بالصورة الجسدية ، وهو يصر على أن يجعل لهذا الرحيل شعرية خاصة تدلل على الحضور من خلال استحضار الكائنات اللغوية التي تؤرخ سراً وعلانية لهذا الحضور الذي يستسلم طواعية لاحتفالية الموت باعتباره يقيناً لا لغط في موعده:
(سأَصيرُ يوماً فكرةً . لا سَيْفَ يحملُها
إلى الأرضِ اليبابِ ، ولا كتابَ …
كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من
تَفَتُّح عُشْبَةٍ ،
لا القُوَّةُ انتصرتْ
ولا العَدْلُ الشريدُ )
ونص ” جدارية” هو النص الشعري الذي سمح لمحمود درويش أن ينتقل من خانة الشاعر الوطني القومي إلى خانة أكبر مساحة ودلالة وأهمية حيث صار شاعراً إنسانياً يخاطب حتفه الأخير وهو يستعرض حياة سريعة لم تلوثها عوارض الحياة وحركاتها وسكناتها ، وهو في طريقه إلى الوصول لمقام الشاعر الإنساني يجتهد لأن يدلل على إنسانيته المعرضة دوماً لجدل الحياة :
(سأَصير يوماً كرمةً ،
فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن ،
وليشربْ نبيذي العابرون على
ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ !
أَنا الرسالةُ والرسولُ
أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ) …
***********
وأكاد أظن أن محمود درويش بأسئلته التي لا تؤمن بالصدفة واللحظية لم يسع لأن يضع إجابات شافية لها فترك لنا عناء البحث عن تلك المهمة مستلهمين نصه الشعري ومسترشدين بقاموسه الشعري ذي الدلالات المتعددة لصياغة إجابات من شأنها أن تفتح باباً جديداً لأسئلة لا تنتهي:
(هل أَنا هُوَ ؟
هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل
الأخيرِ ؟
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض ،
أَم فُرِضَتْ عليَّ ؟
وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ
أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ
وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ ؟ ) ..
*************************
لاعِبُ النَّردِ ودَهْشَةُ النهايات:
أتوقف إجبارياً أمام النص الشعري الموسوم بـ ” لاعب النرد” لا لأنه نص متميز ومتفرد لمحمود درويش فحسب ؛ بل لأنه نص يمثل الصوت الشعري النهائي لشاعرنا وهو يكرس لنفسه مساحة واسعة ومقاماً ثابتاً في ديوان الشعر العربي المعاصر ، لقد أصر درويش رغم تاريخه الشعري الموصوف بالمباشرة ووضوح صوته الشعري مثل قضيته الوطنية أن يترك صوته أكثر غموضاً وهو يقدم نفسه في قصيدة ” لاعب النرد ” كرجل يفتش عن هويته ، وثمة علاقة واضحة بين درويش القضية ودرويش الأنا التي تظهر بجلاء كاشف في لاعب النرد ، وبات من الصعب إيجاد تعريف محدد لوطن تغيب تفاصيله شيئاً فشيئاً بفضل المؤامرة الصهيونية ضده ، وبين اكتشاف هوية محددة لها دلالتها الوجودية في ظل حداثة من شأنها أن تضيع كل ملامح ممكنة.هذا يظهر بوضوح من خلال نصه الذي يؤكد فيه عن انشغاله المحموم بالإجابة عن سؤال وجوده:
( مَنْ أَنا لأقول لكمْ / ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ / رُبَّما صرتُ زيتونةً / أو مُعَلِّم جغرافيا / أو خبيراً بمملكة النمل / أو حارساً للصدى !).
ويظل محمود درويش في نصه ” لاعب النرد ” أشبه بزهر النرد نفسه الذي يأبى أن يستقر على رقم بعينه ، بل تتقلب أوجهه معللاً بذلك حالات الحيرة الوجودية التي يعاني منها بحثاً عن مرفأ ليقين وجوده ، تظهر هذه الحالة الشعرية بصورة دالة في المقطع الشعري التالي :
(أمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ /
أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أسرعُ / أبطئ / أهوي
أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ
/ أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ
/ أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى
/ أرى / لا أرى / أتذكَُّر / أَسمعُ / أبصرُ / أهذي /
أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أجنّ /
أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أدْمَى
/ ويغمى عليّ /).
وفي ” لاعب النرد ” يعود درويش لمزيته الفريدة وهي الحكي الشعري ، حيث دائماً ما يجد الشاعر نفسه مضطراً اضطراراً رقيقاً لأن يؤطر لصوته الشعري عن طريق التقاط تفاصيل شعرية حياتية ـ وإن بدت شعرية لغوية لا تقارب الواقع ـ شديدة الخصوصية ، وغالباً ما يلجأ الشاعر ـ أي شاعر ـ إلى تلك الحيلة الذهنية حينما يضيق واقعه برؤاه وطروحاته الفكرية ، فيلتمس في حياته الشخصية ملاذاً أخيراً لتقنين وجوده وصياغته النهائية :
(وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً ،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها :
أَولاً – خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ
ثانياً – خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة – الشجرةْ
ثالثاً – أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونجٍ ساخنٍ
رابعاً – كسلاً في الحديث عن الظبي والقُبَّرة
خامساً – مللاً في ليالي الشتاءْ
سادساً – فشلاً فادحاً في الغناءْ( … .
_______
*مدرس المناهج وطرائق تدريس اللغة العربية
كلية التربية ـ جامعة المنيا