كلّ هذه الكتب

كلّ هذه الكتب

يحيى القيسي*

الذين أصابتهم حرفة الأدب وأدمنوا القراءة، لا يجدون سبيلاً غير التورط في شراء المزيد من الكتب الجديدة التي تغويهم بأغلفتها وموضوعاتها وأسماء أصحابها في معارض الكتب أو حتى عند الدخول إلى المكتبات .

ويتساءل المرء أين أذهب بكلّ هذه الكتب التي تزاحم بعضها بعضاً، بل وتتناسل بشكل سري حتى يضيق بها البيت، فالأمر لا يقتصر على الشراء فحسب بل الإهداءات من الزملاء الأدباء، وهذه الكتب أيضاً ليست بقليلة العدد خصوصاً إذا جمع الواحد منا بين الأدب والصحافة، إذ يتوقع صاحب الكتاب أن نقوم بالأمرين معاً القراءة وتذوق النص، وبالتالي إعطاء رأي فيه وأيضاً الكتابة عنه ولو بخبر بسيط أو الإشارة إليه في منابر الإعلام .

وإذا كانت الكتب اليوم سلعة ثقافية لها طرائقها في التسويق والترويج لمحتواها، والإشارة إلى أسرارها، ولها مريدوها أيضاً لا سيما إن ذكر الكتاب في التلفاز أو فاز بجائزة ما، فإن القارىء يحتار في النهاية أمام كلّ هذا الكم الهائل من الاختيار، وأيّ الكتب ستسبب له الغبطة وأن تدفعه للاعتقاد بأنه سيعود من رحلة قراءتها غير خاسر لوقته وما دفعه من ثمن، وفي كل الأحوال يكتشف الواحد منا بعد سنوات طوال أنه أصبحت لديه مكتبة ضخمة، وسيبدأ بالتفكير غالباً بالتخلص منها خصوصاً إذا كانت عائلته من النوع الذي لا يرعى للكتاب حرمة، ولا يقيم له وزناً في زمن الآي باد والفيس بوك، وألعاب الهواتف المحمولة، وانشغال الجيل الجديد بالتفكير فقط بأن يصبح الواحد منهم نجم كرة قدم مثل ميسي أو نجمة أغلفة وطرب مثل هيفاء، أو ربما يكون من سوء حظ الكاتب أن يتطرف أبناؤه دينياً فيظنون كتابات أبيهم كفراً وطغياناً ينبغي اجتثاثه، وهذا ما حدث لكاتب أردني كان مهتماً بالفلسفة قبل سنوات إذ سرعان ما أحرقت عائلته كتبه بعد وفاته وكأنها تتخلص من رجس الشيطان، أما الأحسن حظاً منه فقد بيعت كتبه في قاع المدينة بعمان بثمن بخس .

واليوم أصبح هناك من يهتم بأمر كتب الأدباء الراحلين ليس بحفظها بالطبع بل بشرائها بالجملة غالباً وبيعها بأسعار مخفضة للقراء، وإن كانت مثل هذه الأمور تتم بنوايا حسنة من القائمين عليها لأجل إيصال الكتب لأكبر قاعدة من القراء بأسعار بسيطة، فإن الدول غائبة غالباً عن الاهتمام بأمر ميراث الكتاب الراحلين المعنوي والمادي، إذ يعود الأديب العربي بعد رحيل جسده ويصبح ملكاً لعائلته المقربة، ويتم نسيان أنه ثروة إنسانية لا تحدها الحدود .

ليست هذه الهواجس ما ينتابني اليوم في حالة اقتناء كتاب جديد إذ انها مرت سريعاً بخاطري وأنا أستذكر حالة الكثيرين ممن عشقوا الكتب وتركوها على حالها أو نهباً للعابثين بعد رحيلهم، لكن الهاجس الذي يلح عليّ يتمثل في أن الوقت أصبح ضيقاً مع التقدم في العمر، وكثرة المعارف والعلوم، والشهوة المتواصلة للقراءة، والبحث عن كل ما يغني العقل والروح والوجدان، وبالتالي لا بد للمرء من الانتقاء بعناية أي الكتب التي هو بحاجتها فعلاً سواء من ناحية التخصص أم من جهة الرغبة في المعرفة .

إن الإحاطة مثلاً بكل الروايات العربية التي صدرت أصبحت أمراً مستحيلاً على كل ناقد أو روائي، أو الانشغال مثلاً بالدواوين الشعرية، فما بالكم بالدراسات النقدية والفكر والفلسفة والفنون بتفرعاتها المختلفة؟

بالنسبة لي مثلاً وبما أني دخلت العقد الخامس من عمري وأصبح الزمن المتبقي كما يبدو أقل من الذي مضى فإن اهتمامي منذ عشر سنوات تقريباً يتعلق بالتصوف والروحانيات والماورائيات وبالتالي أصبحت أقتني هذا النوع من الكتب إضافة بالطبع إلى الروايات التي هي عالمي الإبداعي الذي أود معرفة إلى أين يمضي به الأدباء العرب سواء من الجيل السابق أم الجديد .

وفي كل الأحوال لن يستطيع العاشق للكتب أن يصبر طويلاً على مقاومة شرائها أو الحصول عليها غير آبه بالمستقبل الأبيض أو الأسود الذي ستؤول إليه، بحيث يبقى الأمل معلقاً دائماً على أنه سيأتي لها الوقت الكافي في قادم الأيام أيضاً لكي يقرأها، وربما تمر السنوات تلو السنوات وهي ترنو إليه من بين الأرفف، وتتزاحم مع رفيقاتها من الكتب الأخرى في غرف البيوت وكأنها تصيح به: هل من مزيد .

* عن الخليج الثقافي ( الإمارات )

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *