” خبز أسود.. خبز أبيض ” للقاص محمد الحاضي.. قراءة عاشقة



أحمد الحجام


خاص ( ثقافات )
لا ترُومُ هذه الورقةُ المقاربةَ النقدية المُفلقة ، أو التحليل المُمنهج لَتِيمَاتِ و تقنيات السّرد و خصائصهما ، وكذا السّمات المُميِّزة للشخصيات ضمن النصوص القصصية المكوِّنة لأضمُومة ” خبز أسود .. خبز أبيض “(*) للقاصّ محمد الحاضي ، و إنّما هي قراءة عاشقة تنشُدُ اسْتدعاءَ النّشوة و التذوّق الماتِع للعمل في اتّساقِ نصوصه ، وتأملُ التحرر من شراك القراءة التفكيكية الغابنة لسحر التأويل في تعدديته و سخائه ..هي مُقاربة تتغيّى ، بالأساس ، رصد بعض ملامح التجربة الإبداعية لهذا القاصّ المتميّز من خلال باكورة أعماله الأدبية ، بعيدا عن إيواليات الدرس الأكاديمي .
..هو العشق إذن ، الذي اكْتوَى صاحبنا بناره المقدسة .. عشق الكلمة و مُتعة القوْل اللّذان منحَا للكاتب محمد الحاضي القدرة على التحليق عائدا ، بأحنحة الانتماء ، إلى سمائه الأولى ( البادية ) حيثُ تعُجّ الذاكرة بسخاء الحكي و ثراء الموقف . و لعلّ وفرة النصوص المستدعية لفضاء القرية و مؤثثاتها و كائناتها الرّاسِخة في الزّمان و المكان ، لَشاهِدةٌ على هذا الاحتفاء الاستثنائي بالأرض و مخلوقاتها ” الليلية ” و” النهارية ” معًا .. و لعلّه ،أيضا تصميم واعٍ و رغبة ملحاحة تضغط على الكاتب ، و تستفزُّ مهاراته الإبداعية لكتابة نصوصٍ تمتاح من كلاسيكيات فن القصّ العَرَبِي كَمُنطلق مرجعي مُؤسِّس ” يَُشَرْعِنُ ” كلَّ كِتابَة حديثة . هذا الافتتان و الوفاء يجِدان تبريرهما، بشكل صريح ، في النص القصصي ” القنديل ” ، الذي أهداهُ الكاتب تحديدًا ” إلى رُوحِ صاحب ” قنديل أم هاشم”ص31 يحيى حقي . غير أنّ القارئ الشّغوف بنصُوص الحاضي القصصية ، يُفاجأُ بهذا التنويع المُلفت في استخدام اللغة . إذ تنهض لهجته ” الغرباوية ” ، بكلّ زخم مفرداتها و بلاغة تعابيرها ، نسيجًا متينًا مُوَشّى بحريرِ الدّهشة و الإمتاع .. صِدْقُ الكلمة لَدَى محمد الحاضي يجعل من نصوصه القصصية فضاءات نابضة بالحياة .. تجأر بالكدح و المكابدة ، و تلتقط لحظات الحلم و الانتشاء لشخوص أرْهقهم واقع شرسٌ يجرّ تلابيبهم بأنياب قاسية من الفقر و الحرمان .. في المقابل ، يظلّ الإصرار و التحدي و المثابرة ينالون الحظ الأوفر من مشاريع ” أبطاله ” و تطلّعاتهم القُزحية . ضمن هذا السّياق تتوالى النصوص القصصية عند الحاضي ليؤكد لقرّائه أنه كاتب “التجربة” بامتياز .. تجربة تغرفُ من مَعِين ثرٍّ ، يتتبّعُ الحاضي مجاريه الغادقة ، و يُخضعها للحظاته المبدعة في الحكي الآسربأسلوب غاية في الرصانة ، و بناء سردي يُحقّقُ الدقة و الإتقان . 
و هكذا ، يتكشف واضحا للقارئ ،أنّ المعمار القصصي عند “محمد الحاضي ” يتميزفي مُجْمله بأنماط حكائية متصاعدة ، تنمو و تتعاظم على خط بياني ـ دينامي مُتوازٍ بين الحدث من الداخل ( الحالة النفسية للشخوص ) ،و الحدث من الخارج ( سيرورة الحدث ) ، و عبر أشكال مختلفة من الاستعارة و الترميز بلُغة سلسة ، تراوح بين التعبير الفصيح ، و بلاغة اللغة الدارجة التي طوّعها ” الحاضي ” لتصبح مادة فجّرت بمدلولاتها الفارقة سردا شعريّا بديعا ، بلغ مداه ُ في قصته ” احميدة كالو مات ” .ص43
إن القارئ العاشق لمجموعة محمد الحاضي القصصية ” خبز أسود.. خبز أبيض ” يجد متعة خاصة ، و افْتِتَانًا مُغوِيًا بعوالم البادية في عبقها البدائي ، و شُخوصها المعفّرة بعرق الأرض و مكابدة الفصول .. شخوص تنسج خيوط الحدث في دفق حكائي مطّرد .. يكاد يكون تلقائيا بعيدا عن الحبكة المصطنعة .. لم يسع الحاضي الخوْضَ في متاهاتِ التجريب القصصي ، بما يتطلبه من إيغال في التشظي السردي ،و اللهات وراء الميتاسرد أو حَكْيُ الحَكْيِ ، بل جهد في ترصيص مساراته السردية انطلاقا من لُعبة التذكر ، التي تضعنا منذ أقصوصته الأولىص7 ” Aïe ça pique ” أمام ما يمكن تسميته بحدود الكتابة ، و حدود المرجع ، كثُنائية مُؤسِّسةٍ لميثاق كل نص إبداعي ، اللذين يظلّان كامنين وراء كلّ كتابة و امتلاكها.. إن التجربة القصصية عند محمد الحاضي ، في معظمها ،تنهل مزهوّةً من ذلك المِهاد الثرّ الذي يُدعى بالطفولة ـ كمخزون ذاكراتي يتتبع الكاتب من خلاله بعض تفاصيل حياته المبكرة في القرية ، و أثناء الذهاب إلى المدرسة ، و التخرج من الجامعة .. و بداية الخروج إلى الحياة .. بذلك تتغيى الكتابة القصصية عنده إقامة علاقة حوارية بين السيرـ ذاتي و المتخيل ، الواقعي و الاستيهامي ، مكسرا بذلك الحواجز بين الأجناس الأدبية ، و مُؤكّدا في نفس الآن على طرْحٍ نظريّ أساسُهُ أن كلّ كتابة لا بدّ لها من عناصر سيرـ ذاتية .
لقد ركّز الحاضي في باكورة أعماله القصصية ” خبز أسود .. خبز أبيض ” على الذات الطفولية ، و جعل منها مركزا للحكي ، لكنّه في الوقت ذاته ، لوّنَ مساراته السردية بِوَعْيٍ مُغاير، يُراوحُ بين التأمل الشفاف تارة ، و الإيحائية الملغزة تارة أخرى.. وعْيٌ جارحٌ و حساسية شقية يُعيد بها الكاتب تنْضيدَ الأحداث التي كابدها في طفولته، من منظورمختلف ، تطبعه اللقطة الفاحصة و النظرة المُسْتَغْوِرة ،حيث تداخلت في نصوصه القصصية تجليات الذاكرة بما هي أحداث و شخوص و فضاءات امتزجت مجتمعة لبلورة ” رؤية للعالم ” ، تتوزع بين الكوميديا السوداء و الميلودراما ، كما اتسمت بمستويات متباينة من الإدراك الفني و الجمالي طبَعتْ معماره القصصي و مؤثثاته بميسم خاص ، إذْ برزت التيمات المتنوعة التي تتفرد بها كل أقصوصة على حدة ،لكن في خط كرونولوجي نكادُ نلمس معالمه و صيرورته .. هكذا تتسلّل النصوص القصصية في ” خبز أسود ,, خبز أبيض “حسب تتالٍ مبرمج مسبقا . على الرغم من حضور هذا النوع من الإشراف ( التقني الطباعي و الموضوعاتي ) على عملية التنسيق في ترتيب قصص المجموعة ، حيثُ تُصبحُ في تتاليها خاضعة للتزامن بين تاريخ الحدث و تاريخ الكتابة ، و هو تماهٍ يتداخلُ انسجاما و تناغمًا مع الكتابة الروائية /السيرـ ذاتية أكثر منه إلى السرد القصصي . و هذا ما أظنّه ملمحا أساسيا و ميسما غالبا على هذه المجموعة القصصية البديعة. 
لا شك أن القارئ المُلهمَ بِشغَفِ الإصغاء ،سيُلاحظُ في مجموعة محمد الحاضي القصصية تنوُّعا مُلْفِتًا في استعمال الضمائر ( الأنا ،الأنت ، النحن ، الهُوَ ..)الشيء الذي أفضى ظاهريا إلى تهميش مسألة معرفة خصوصيات السارد ، من حيث هو همزة وصل و دليل مرجعي ، يمكن أن يقودُنا إلى معرفة المؤلف ـ بما هو ذات منخرطة في ممارسة رمزية الكتابة ـ لكنّ ذلك لن يمنعنا البتة من الكشف عن ملامح الكاتب / السارد إذا ما استكنهنا عموديا عمق محكياته من خلال تفكيك لعبة القول Le dire و انزياحاتها .
هذا القارئ نفسه هو الذي سيكتشف المتعة ذاتها في تتبّع المسارات المحفوفة بالدهشة للحكي الفانتاستيكي ، الذي أغنى به الحاضي تجربته القصصية و أضْفَى غليها صفة التنوع و الاختلاف .. و هو تنوع يجد جذوره و مرجعيته في تعدّد مشارب القراءة لدى الكاتب ، و اختلاف روافده الفكرية و المعرفية ، علاوة على ثراء الفضاءات السوسيوـ ثقافية التي امتاح من مناهلها و تشرّب عُصارة تجاربها .. و الموزَّعة بين القروي أساسًا ، و كذلك المديني بما هو إضافة محددة لملامح الكتابة القصصية في امتداداتها التاريخية و بُعدها الإنساني .. فالرّمزية الحاذقة التي نسج الحاضي بخيوطها الرفيعة قصته ” طائر البقر ” ص35 ، تشي بقدرته البارعة على اجتراح الحدث الفانتاستيكي و تشكيل شخوصه العجائبية ، و كذا القبض على مكنوناته العميقة المتأبية ، و ذلك من خلال السّرد الاستيهامي الذي أبدع فيه الكاتب ، و أكّد عبرهُ فكرة التفوّق على ميثولوجيا الذات ، و تكسير خطية التذكّر و احترام المنطق التقليدي لصيرورة الحدث و تشكيل حلقاته و تواليها .
لقد استطاع محمد الحاضي من خلال مجموعته القصصية الأولى ” خبز أسود .. خبز أبيض ” ، أن يرسمَ لنفسه مسارًا إبداعيا متميّزا ، يغلبُ عليه السرد الواقعي / السيرـ ذاتي الذي يمتاح من التاريخ الشخصي للكاتب من جهة ، لكنهُ ، في الوقت ذاته ، يُجرّبُ بحذر أمبريقي empirique الكتابة التخييلية ، باعتبارها تجربة إبداعية مختلفة تأْملُ التعدّدَ و التنوع و التجريب . و كأنّ الحاضي بذلك ، يؤكد للقارئ أن للكتابة القصصية ـ كجنس أدبي نَقِيّ العِرْق و السُّلالة ، و ليس جنسا هجينا كما يدّعي بعضُ المُتحاملين ، لَهَا ( أي الكتابة القصصية ) أُفُقٌ مفتوح و تطلّعات أوسع للتشكل و النمو ، بعيدا عن النماذج الجاهرة و القوالب التقليدية الناجزة .. و هذا ما قد يزيد المبدع القصصيّ قناعةً و إصرارًا في الإسهام بإبداعات و تجارب قصصية مختلفة و متعددة ، تزيدُ في سعة هذا الأفق ، وتُغني سُرُودَهُ و محكياته .. هكذا يكون محمد الحاضي قد نجح في خلق كيانه الإبداعي من كيمياء قَوامُها : ذَرَّتَا الواقع ، في تفاعلهما ” المُعجِز” مع ذرّة واحدة دافقة من التّخييل .. هو الماء إذن في عقيدة كل إبداع حقيقي .
__________
(*) محمد الحاضي : ” خبز أسود .. خبز أبيض ” منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة ، الطبعة الأولى 2007 

شاهد أيضاً

العهدُ الآتي كتاب جديد لمحمد سناجلة يستشرف مستقبل الحياة والموت في ظل الثورة الصناعية الرابعة

(ثقافات) مستقبل الموت والطب والمرض والوظائف والغذاء والإنترنت والرواية والأدب عام 2070 العهدُ الآتي كتاب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *