الذبيحة الأكثر جمالاً


*بسمة النسور


بات الحديث عن تمكين المرأة موضة دارجة وفرصة سانحة، أثرى بسببها كثيرون، بسبب تدفق كل أشكال التمويل المشبوه، المتواري خلف الشعارات المطروحة عالمياً، حول دعم المرأة وتعزيز مكانتها في المجتمعات، لكي تتمكّن من نيل حقها الإنساني في التعبير عن قدراتها، وتوظيف طاقاتها في سياق حراك البشرية نحو غد أفضل. وعلى الرغم من كل الإنجازات الهائلة المثيرة للانبهار التي حققتها نساء كثيرات، إلا أن صورة المرأة في الإعلام العربي، المرئي خصوصاً، ما تزال تسجل أحط حضور ممكن، إذ تُعامَل كسلعة قابلة للترويج، حتى أن أكثر الصحف رصانة وجدية وانخراطا في الشأن السياسي، لا تخلو صفحاتها الأخيرة من توظيفٍ مباشر لجسد المرأة، وسيلةً إضافية للانتشار، وتحقيق أعلى نسبة مبيعات ممكنة، حيث يُخصصون، في العادة، مساحةً شاسعة لصورة نجمةٍ بمواصفات مثيرة، وتذيّل الصورة في العادة بخبرٍ ليس له أهمية من أي نوع، مثلاً: النجمة “س” تعاني من رشح حاد أو تفكّر في تغيير لون شعرها. 
ويبدو التوظيف الغاشم لجسد المرأة في الإعلانات التجارية لكل أنواع السلع، من سيارات وصابون حلاقة وزيت قلي ومعطر جو ومشروبات غازية وأجبان، من دون استثناء الإعلانات ذات الطابع الإسلامي، حيث النساء فيها ملتزمات بالزي الشرعي، وهن في عقر بيوتهن، مطمئنات بتحقيق أقصى طموح في الحياة بفضل المسحوق الجبار الذي يجعل أثواب أزواجهن ناصعة البياض، وكذلك يعبّرن عن فرحهن البالغ بأن زيت القلي موضوع الإعلان التجاري خفيف على المعدة. 
ومع الالتزام بالحجاب، فإن فكرة “تسليع” جسد المرأة ما تزال قائمة، وبصورة ملتوية أكثر، إذ يتم التركيز، في تلك الإعلانات العائلية البائسة، على أدوات الفتنة الأخرى، من عيون كحيلة مثقلة برموش اصطناعية وشفاه ملطخة بالأحمر القاني. أما في مسابقات الجمال، فإن الصورة تبدو شديدة الاستفزاز، ومدعاة للإحساس بالإهانة، خصوصاً حين يتم عرض نساء صغيرات كقطعان في “سوق الحلال” أمام لجنة حكام، بأغلبية رجالية بالطبع. ولا يخلو الأمر من تواطؤ نسائي أيضاً، ليصار في النهاية إلى اختيار الذبيحة الأكثر جمالاً. 
أما في ما يسمى أغاني الفيديو كليب التي ليست أكثر من عرض إباحي مرخّص فضائياً، فإن الحكاية أكثر جسامة، لأن الرقابة منعدمة على ما يبدو. 
فالمرأة هنا لازمة أساسية، شأن السيارة الفارهة والقصر الباذخ، يتم استغلال جسدها دقائق قليلة في ابتذالٍ كثير، حيث يتم تمرير جرائم مرتكبة بحق الفن والجمال والذوق الرفيع. 
لسنا بصدد التحسّر على الزمن الجميل والفن الراقي الأصيل، فتلك أسطوانة مشروخة فقدت صلاحيتها منذ زمن. ولسنا في معرض مصادرة حق وذائقة جموع الشباب في افتتانها، المفهوم ربما، بنجماتٍ طارئاتٍ يتمتعن بأنوثة طاغية، ويفتقرن إلى الحد الأدنى من الموهبة أو الحرفة. ولكن، وبفضل أموال طائلة وشركات متخصصة تقف وراء صناعتهن، تحوّلن إلى رموز ثقافية، صنّفت ضمن قائمة الشخصيات الأكثر تأثيراً. 
ولمزيد من الموضوعية، لا بد من الاعتراف بأن هذه الظاهرة لا تخص زمننا وحده، بل تذهب بعيداً في قدمها وكونيتها، فالمرأة كانت تاريخياً، وحتى في أكثر بلاد العالم تقدماً، هي السلعة الأبرز في صناعة الإعلام. لكن، يبدو أننا نعيش المرحلة الأكثر فجاجة، إذ تبدو الحالة صادمةً أكثر في إعلامنا العربي الذي يذهب بعيداً في ابتذال فكرة الأنوثة، وتكريس صورة نمطية للمرأة سلعة رائجة، بمقدار ما تستبيح جسدها، وهذا ما تأباه كل صاحبة روح حرة. 
وحتى اللحظة، لم يقدم أحد مقترحات عملية جادة بشأن توجّه إعلامي يعيد إلى المرأة اعتبارها، ويحفظ مكانتها أماً للبشرية. وينطلق من خصوصية ثقافتنا وإرثنا الحضاري، مع ضرورة الاستفادة من الإرث العالمي في هذا الشأن، حيث منجز نسائي شديد البهاء والإشراق، جدير بالالتفات، لأنه يعطي الصورة الحقة لنساءٍ حفرن طريقهن نحو الأفضل بالأظافر غير المطلية، ومهّدن لأجيال لاحقة، لكي يواصلن المسير. 
المشهد الإعلامي الراهن على مستوى التعاطي مع المرأة مثير للخيبة، حيث غيابٌ شبه كامل لتأثير الفئة المثقفة، وعزلتها وانعدام تواصلها مع الأجيال الطالعة، لتخلو الساحة بالكامل للفضائيات المتخصصة وسائر مواقع التواصل، كي تواصل عدوانها الغاشم المدعّم بأحدث وسائل التكنولوجيا. 
_____
*العربي الجديد 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *