*خيري منصور
سؤال راودني منذ لثغت بهذه الأبجدية المشحونة بشفق الصحراء، والممهورة بوداع الغسق، هل المثقف الناطق بها رهان أم رهينة ؟ وتمر الأيام لتكون قصة روسية هي الإجابة؟ رغم أنها كتبت بلغة أخرى يرشح منها صقيع نهر الفولغا.
المثقف في تلك القصة كسب الرهان رغم أنه قبِل بأن يكون رهينة محبسه لأكثر من خمسة عشر عاما، وكان الرهان هو مكوث شاب في غرفة تمتلئ جدرانها برفوف الكتب، فإذا بقي طيلة المدة المتفق عليها ولم يخرج لمرة واحدة كسب الرهان، وهو مبلغ كبير من المال كان في أشد الحاجة إليه، لكن الشاب بعد أن قضى المدة بكاملها رفض مغادرة الغرفة، لأنه كسب قراءة كل ما فيها من كتب، وتغيّر، ثم قرر أن يغيّر مفهوم الرهان، ليكون الخاسر بمقياس سمسار أو تاجر أعضاء بشرية لكن الرابح بمقياس إنساني وحضاري.
والحاسوب المعطوب، بل الغبّي الذي يقاس به ربح المثقف وخسارته في بلادنا حوّل المثقف إلى رهينة مزدوجة، مرّة لمن يتعامل معه من خارجه ومرة أخرى من خلال تعامله مع ذاته من الداخل.
وإذا صدقنا تلك الحكاية عن الغراب الذي حاول محاكاة الحمامة في مشيتها وهديلها ثم فقد المشيتين وخسر حتى نعيقه، فإن المثقف يحدث له أحيانا ذلك، خصوصا بعد أن اصبح رهينة الميديا وبورصاتها، ويقبل بأن يطلب منه أن يقول كل ما لديه في دقيقة أو أقل، لأن هناك إعلانا أجدر منه بالوقت.
هذا النمط من المثقفين تَصدق عليه عبارة واحدة هي بمثابة اللازمة الشعرية في قصيدة الغراب لأدجار ألن بو وهي ما مضى لن يعود، لأن للإنسان عمرا واحدا، ما من سبيل إلى تكراره أو الاعتذار عما اقترف فيه.
إن الانسحاب طواعية من الأوركسترا إلى العزف المنفرد ليس فقط احتجاجا على مايسترو استبدل العصا الأنيقة بهراوة شرطي، إنه انصراف مع سبق الإصرار إلى نوتة أخرى لم يكتبها أحد، وتشبه إلى حد كبير نوتة العصفور، كما قال مالك حداد ساخرا من أكاديميات تزعم بأنها تعلّم الإنسان كيف يصبح شاعرا، وكان سؤاله هو من رأى منكم عصفورا يتأبط نوتة تحت جناحه ويغادر معهد موسيقى فليبلغني على الفور عن عنوانه .
العزف المنفرد في الكتابه له أوتار من طراز آخر، قد تكون شرايين القلب أحيانا أو أصابع طال بها الحنين إلى شيء تلامسه فسال منها الدمع، هنا ينبغي التفريق بين عزلة مطفأة وذات صدفة سلحفائية وبين عزلة مُضاءة بأسطع نور عرفه البشر وهو المقبل من مجرات فلسفية وأخلاقية انقرضت منذ زمن بعيد لكن نورها ما يزال في الطريق، لهذا لا يمكن حشر عزلة تولستوي وعزلة برديائيف وغنزبرغ في قارب واحد، وما تخيّله البير كامو في قصة تحمل عنوان الفنان يعمل، مارسه غنزبرغ الذي بنى لنفسه قفصا وعلّقه على شجرة، ثم غادره بعد أن أصبح عاجزا عن النوم بسبب غناء الطيور من حوله، لأنها ما أن شمّت رائحة الشاعر فيه حتى استأنست. ومن قال يوما إنه حين يفتح عينيه يرى كثيرا لكنه لا يرى أحدا، قدم تعريفا للعزف المنفرد وبالتالي للعزلة يفوق كل التعريفات المدرسية، فالإنسان يبتعد عن اللوحة ليراها جيدا، وقد يبتعد عن وطنه ليقترب منه مثلما فعل بيكاسو واستجاب له التاريخ بأن عادت الغورنيكا إلى مسقط رأسها وغيّر اسم الشارع الذي مرّ فيه موكبها من اسم الجنرال فرانكو إلى اسم بابلو بيكاسو .
إن الابتعاد من أجل الاقتراب في هذا السياق ليس عذريا على طريقة من حوّلوا الحب إلى حرمان وتغنّوا بمباهجه على نحو ما سوشي، إنه الهجرة الموعودة بالفتح والخطوة إلى الوراء التي تجعل القفزة أعلى وأبعد، لكن ما ألحقته تيارات فكرية مؤدلجة بمفهوم العزف المنفرد جعله عرضة لإساءة الفهم، وفي عالمنا العربي الذي لم يتح فيه للفرد أن يتحسس تخوم جسده وحدود ذاته منذ القبيلة حتى الحزب فإن التفرد محظور، في كل المجالات، وكأن فوبيا أفراد البعير الأجرب عن القافلة أو العنزة السوداء عن القطيع تلاحقنا عابرة للقرون والأزمنة، وهذا ما يفسر على نحو أولي فقه القطعنة الذي يتلخص في مقولات موروثة من طراز الموت مع الآخرين رحمة، أو ضع رأسك بين الرؤوس ولا بأس أن يُقطع ما دامت الرؤوس الأخرى ستلاقي المصير ذاته.
لقد راوح حق الاختلاف في ثقافتنا قرونا بين كونه مكروها ومحظورا وأخيرا بلغ الحد الأقصى من التجريم والتأثيم والنّبذ.
والمثقف العربي الذي تاه في المسافة بين الرهان والرهينة اكتشف حيلة هي المرادف البشري لحيلة الحرباء، لهذا لا بأس أن يكون يساريا في جلسة مقهى وليبراليا على شاشة فضائية وعدميا في حياته الشخصية، لأنه بعبارة الطيب صالح يلبس لكل حالة لبوسها، ما دام الهاجس المزمن هو النجاة على طريقة هلك سعد فانجُ سعيد، رغم أن سعيدا الذي ليس له حظ من اسمه لن ينجو لأنه فرط بأخيه وأكل لحمه حيا كالثور الأبيض.
إن العزف على وتر لا يشبه الأوتار كلها وقد يكون من شريان القلب يمكن له أن يكون أقل انفردا، لأنه يجترح النّوتة كالعصفور من قلب بحجم قطرة دم واحدة. وأذكر أنني قرأت ذات يوم ما كتبته الشاعرة أديث سيتويل عن أخيها الذي كان يحاول كتابة الشعر، وبكى على مشهد الماء الراكد في مستنقع، فهمت ما تعنيه سيتويل لكن بلا سخرية عندما شاهدت عن قرب شاعرة من فنزويلا في دكا البنغالية عند الفجر تبكي وهي تشاهد غرابا يمد عنقه الأسود في كوب حليب ابيض وحين سألتها عن السبب أجابت أنه تناقض لا يطاق، كالحياة والموت أو المهد واللحد.
______
*القدس العربي